نقطة الانطلاق والمخرج لحل مسألة العرب في الدولة اليهودية، تكمن في التوقيع على اتفاقية مع الدول العربية تمهّد الطريق لإخراج العرب من الدولة اليهودية.
ديفيد بن جوريون

هكذا كانت إحدى تصريحات ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، الذي لم يتوانَ هو أو غيره من صُنّاع القرار في إسرائيل عن وضع الخطط والمشاريع لفرض سياسة التهجير على الشعب الفلسطيني، فلم تكن فكرة تهجير الشعب الفلسطيني وليدة الأحداث الجارية، وإنما هي فكر أصيل ومتجذر وعمود أساسي من أعمدة قيام الدولة الإسرائيلية.

ومنذ نكسة عام 1967، وبعد احتلال إسرائيل لغزة، أصبح القطاع عبئاً كبيراً على إسرائيل، لاعتبارات أمنية وسكانية، لذلك لم تغب فكرة التخلص من غزة عن الإسرائيليين منذ ذلك الوقت عبر الحكومات المختلفة؛ حيث باتت مخيمات اللاجئين المكتظة، بؤر لمقاومة الاحتلال، ومنها انطلقت عمليات مقاومة ضد القوات الإسرائيلية المحتلة.

ومنذ هجمات حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول، شنت إسرائيل هجوماً شرساً غير مسبوق على قطاع غزة، ومع تجدد القتال إثر انتهاء الهدنة الإنسانية، التي استمرت 7 أيام حتى 1 ديسمبر/كانون الأول الجاري، رأى مراقبون أن جيش الاحتلال الإسرائيلي سيكثف من عملياته العسكرية البرية على جنوب القطاع بالتوازي مع قصف عنيف للشمال، مؤكدين أن هدف جيش الاحتلال من عملياته جنوباً مع قصف عنيف لمدن الشمال، هو إفراغ قطاع غزة من سكانه.

فقد دعا سياسيون إسرائيليون ومسئولون أمنيون إلى تنفيذ نكبة ثانية، على غرار النكبة الأولى عام 1948، حيث تم تهجير قرابة نصف سكان فلسطين العرب، وقد حث هؤلاء الساسة، الجيش، على تسوية غزة بالأرض. واقترح البعض، أنه على الفلسطينيين الفرار من غزة، عبر معبر رفح الحدودي، للبحث عن ملجأ في شبه جزيرة سيناء، مثل العميد السابق أمير أفيفي، والسفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتحدة داني أيالون.

ونجد أن المخطط الذي تقوم به حكومة الاحتلال الإسرائيلي هو مخطط قديم يتم استنساخه وفق آليات جديدة لتهجير الفلسطينيين من أرضهم، فتل أبيب تعمل وفق الاستراتيجية التي وضعتها الحركات الصهيونية منذ عقود طويلة لإخلاء مناطق سكنية فلسطينية، واستبدال سكانها بالمهاجرين اليهود الذين نُقلوا إلى فلسطين المحتلة بإشراف وإدارة الحكومة البريطانية مطلع القرن العشرين.

من هذا المنطلق، تريد إسرائيل تحويل الحرب الجارية إلى فرصة لإكمال ما عجزت عن فعله منذ النكبة الفلسطينية، عبر محاولاتها لإحداث تغيير ديمغرافي كبير في الصراع من خلال التهجير من غزة، وتصعيد وتيرة عمليات الطرد الجماعي للفلسطينيين من بعض مناطق الضفة الغربية المحتلة.

وقد كشف الإعلام الإسرائيلي جانباً كبيراً في ما يتعلق بهذا الأمر، فمجلة «972» تحدثت عن أن كل ما يُقال ويُطبق منذ أكثر من شهر في غزة موجود حرفياً بخطة نشرها وزير المالية والحاكم الأعلى للحكومة في الضفة الغربية، بتسلئيل سموتريش، التي نُشرت قبل 6 سنوات، عندما كان لا يزال عضواً شاباً في الكنيست، وملخصها أن على الفلسطينيين الاختيار بين «الهجرة أو الإبادة».

وأكّد موقع المجلة الذي نشر الخطة، أن الرأي العام الإسرائيلي يميل في الوقت الحالي نحو تبني أفكار خطة سموتريش، التي كان الساسة ينبذونها ويعتبرونها وهمية وخطيرة، وهي خطة التهجير القسري لسكان قطاع غزة.

أمّا الآن فإن إسرائيل تتعامل بدرجة أساسية مع عملية «طوفان الأقصى» على أنها فرصة يسعى اليمينيون في إسرائيل لانتهازها، من أجل التخلص من ذلك التحدّي «مرة واحدة وإلى الأبد»، بحسب ما قاله أحد واضعي مشاريع تهجير الفلسطينيين، فهي بذلك تريد إخراج غزة من معادلة الصراع، من أجل القضاء تماماً على الفرص المتبقية لإقامة دولة للفلسطينيين في المستقبل.

تطهير عرقي تحت غطاء إنساني

يؤكد أمير أفيفي وداني أيالون على أن تهجير الفلسطينيين من غزة هو مجرد إجراء إنساني، لحماية المدنيين أثناء قيام إسرائيل بعملياتها العسكرية. لكن هناك تقارير أخرى تشير إلى أنه سيتم إعادة توطين الفلسطينيين بشكل دائم خارج غزة، وذلك في عملية تطهير عرقي.

ففي 17 أكتوبر/تشرين الأول، قام «معهد مسغاف للأمن القومي والاستراتيجية الصهيونية»، وهو مركز أبحاث إسرائيلي أسّسه ويرأسه مسئولون سابقون في مجال الدفاع والأمن، بنشر ورقة بحثية تحث الحكومة الإسرائيلية على الاستفادة من «الفرصة الفريدة والنادرة لإخلاء قطاع غزة بأكمله»، وإعادة توطين الفلسطينيين في القاهرة بمساعدة الحكومة المصرية.

هذه المقترحات ليست سوى الأحدث في تاريخ طويل من الخطط الإسرائيلية لإخلاء غزة وإعادة توطين الفلسطينيين في سيناء. ولكن هذه المرة، يبدو أن الولايات المتحدة تقوم بالدعم السياسي والمالي لخطط التهجير الإسرائيلية؛ ففي 11 أكتوبر/تشرين الأول، أكّد وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، أن الولايات المتحدة تعمل مع مصر وإسرائيل لإنشاء «ممر إنساني» في سيناء للمدنيين الفلسطينيين الفارين من غزة. ثم في 20 أكتوبر/تشرين الأول، أرسل البيت الأبيض إلى الكونجرس طلباً رسمياً للتمويل «لتلبية الاحتياجات المحتملة لسكان غزة الفارين إلى البلدان المجاورة».

صرّح الرئيس الأمريكي، جو بايدن، منذ ذلك الحين، بأنه يدرك أهمية منع تهجير الفلسطينيين. ولكن كما أشار أحد المحللين، كان طلب التمويل بمثابة إشارة واضحة إلى أن إدارة بايدن أعطت إسرائيل «الضوء الأخضر» لتنفيذ التطهير العرقي. وهي بذلك تريد تخفيف الضغط الدولي على إسرائيل، وتمكينها من تهجير المدنيين من شمال القطاع إلى جنوبه بذريعة حمايتهم.

إرث نتنياهو التاريخي

للمضي قدماً نحو طريق التهجير، قام رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بطلب لوزير الشئون الاستراتيجية وعضو مجلس الحرب، رون ديرمر، لإعداد خطة تهدف إلى تقليص كثافة السكان في غزة بأكبر قدر ممكن بعد العدوان الجاري على القطاع.

واللافت أنه في تقرير قدمته صحيفة إسرائيل اليوم إلى أن الخطة التي يقوم بصياغتها الوزير المنتمي إلى الليكود، لم يطّلع عليها معظم أعضاء «الكابينيت»، كما أنه بسبب حساسية هذه الخطة لم تُطرح للنقاش في المؤسسات والمحافل الرسمية، وأوضحت الصحيفة العبرية أنها تتوقع أن تواجه الخطة رفضاً واسعاً، باعتبارها «أمراً غير واقعي وخيالي».
لكن في الوقت نفسه قد تحظى هذه الخطة بدعم وزراء الليكود، وحزب «القوة اليهودية» الذي يتزعمه الوزير المتطرف إيتمار بن غفير، وحزب «الصهيونية الدينية» الذي يتزعمه الوزير المتطرف بتسلئيل سموتريتش.

ورغم أن الخطة ستواجه برفض دولي، وربما عسكري إسرائيلي، بحسب الصحيفة، فإن نتنياهو يرى في تطبيقها هدفاً استراتيجياً لحكومته. فنتنياهو يسعى بكل الطرق إلى إقناع القادة الأوروبيين بالضغط على مصر لقبول اللاجئين من قطاع غزة على أراضيها.

وقد أوضحت صحيفة كالكاليست الاقتصادية الإسرائيلية أن وزيرة الاستخبارات الإسرائيلية، جيلا غمالائيل، هي منْ تُدعِّم مخطط التهجير بشدة، كما أنها أوصت بنقل سكان غزة إلى سيناء في نهاية الحرب الجارية. وأوضحت الصحيفة العبرية أنه بعد عدم سماع صوتها طوال الحرب، أوصت غملائيل ومكتبها من خلال «وثيقة داخلية» بمسار حازم للتهجير القسري لسكان غزة. وتتناول وثيقة غمالائيل ثلاثة بدائل لفترة ما بعد الحرب، ولكن البديل «الذي سوف يؤدي إلى نتائج استراتيجية إيجابية وطويلة الأمد» هو نقل مواطني غزة إلى سيناء.

وتتضمن الخطوة ثلاث مراحل: أولاً، إنشاء مدن خيام في سيناء جنوب غرب قطاع غزة؛ ثانياً، إنشاء ممر إنساني لمساعدة السكان؛ وأخيراً، بناء مدن في شمال سيناء. وفي الوقت نفسه، سيتم إنشاء منطقة عازلة بعرض عدة كيلومترات داخل مصر جنوب الحدود مع إسرائيل، حتى لا يتمكن السكان الذين تم إجلاؤهم من العودة. إضافة إلى ذلك، تدعو الوثيقة إلى خلق تعاون مع أكبر عدد ممكن من الدول حتى تتمكن من استقبال الفلسطينيين المُهجَّرين من غزة واستيعابهم.

وكشفت الوثيقة التي تحفّظت الصحيفة العبرية على نشرها للعلن، عن أسماء الدول التي من المقترح نقل سكان غزة إليها أيضاً، مثل كندا واليونان وإسبانيا، وبعض دول شمال إفريقيا، وذلك من بين دول أخرى.

ورغم أن نتنياهو أعلن بشكل واضح أنه في الحرب الجارية، القضاء على حركة حماس، فإنه بحسب محللين يبحث عن صناعة إرث تاريخي جديد، قبل أن يقضي على حماس؛ فهو يريد أن يذكر التاريخ أنه الزعيم الذي استطاع بعد ثمانية عقود من نكبة الفلسطينيين الأولى أن يُحدِث لهم نكبة ثانية، وأن يُتوِّج التغييرات الديموغرافية التي أحدثها -في فلسطين التاريخية خلال فترة حكمه من خلال التوغل الاستيطاني في الضفة الغربية- بتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، وبسط يد الحركة الاستيطانية بتصعيد عمليات التهجير في المنطقة ج في الضفة الغربية، والتي يراها المجتمع الدولي على أنها جوهر مشروع الدولة الفلسطينية.

إن القادة البارزين الذين حكموا إسرائيل لم يدخروا جهداً في ترك إرثهم الخاص. وغالباً ما كان إحداث أقصى قدر من الكوارث بالفلسطينيين وبقضيتهم، هو المعيار الأساسي الذي يحدد ما إذا كان هذا الإرث يستحق أن يُدوَّن بين دفتي التاريخ الإسرائيلي. ورغم أن أسوأ انتكاسة تعرضت لها إسرائيل منذ حرب عام 1973 وقعت في فترة حكم نتنياهو، وهو عملية «طوفان الأقصى»، ورغم تسبب نتنياهو في انقسام داخلي عميق وغير مسبوق في تاريخ إسرائيل، فإنه ينظر إلى إلحاق نكبة ثانية بالفلسطينيين عن طريق تهجيرهم من قطاع غزة، على أنها الإرث الذي يجب أن يتركه.

لذلك، فهو لم يدخر جهداً في فرض رؤيته لليوم التالي لانتهاء الحرب، من خلال إعلان أن إسرائيل ستتولى السيطرة الأمنية على غزة بعد القضاء المفترض على حماس، ورفض عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع، ومعارضة المقترح الأمريكي بإشراك دول المنطقة في إدارة الترتيبات الأمنية في غزة بعد الحرب.

وعلى الرغم من أن التبريرات التي يقدمها نتنياهو تنبع في العلن من اعتبارات أمنية، فإنها في الواقع تتجاوز هذه الاعتبارات؛ حيث يعتقد نتنياهو أن إعادة احتلال غزة يساعده في المستقبل في إعادة نشر المستوطنات في القطاع، وأن السماح بعودة السلطة الفلسطينية إلى إدارة غزة أو نشر قوات أجنبية فيها سيُضعِف من قدرة إسرائيل على مقاومة مشروع حل الدولتين للصراع، بخاصة أن هذا المشروع عاد ليأخذ زخماً كبيراً في السياسات الإقليمية والدولية تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

«هجرة طوعية» بمسارات إجبارية

عارض الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي التهجير القسري لسكان غزة إلى سيناء، وقال إن مثل هذه الخطوة ستُحوِّل سيناء إلى قاعدة لهجمات ضد إسرائيل. لكن ربما تأخذ الأمور منعطفاً آخر؛ فقد لا يحدث التهجير بالصورة المتوقع حدوثها، أي بالإجبار، وإنما كما طالب سموتريتش بـ «هجرة طوعية» إلى دول العالم. ويأتي ذلك عن طريق تدمير كل مقومات الحياة في غزة، وحرمان الناس من أبسط حقوقهم، بحيث لا يبقى أمامهم سوى الفرار من هذا الواقع المرير إلى مكان آخر.

وفي ظل الانشغال بمناقشة المخططات والأطروحات الأمريكية والإسرائيلية لمرحلة ما بعد الحرب، يقوم الاحتلال برسم مستقبل غزة والضفة الغربية من خلال العمل على الأرض وتهيئة ظروف التهجير، تحت مسمى «الهجرة الطوعية»، عن طريق «كي وعي» الشعب الفلسطيني وإرهابه، ودفعه للتسليم لآلة القتل والدمار الإسرائيلية، ليكون مُهيئاً لفكرة الرحيل عن أرضه التي لن تكون صالحة للعيش.

في مقال كتبه الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، جيورا إيلاند، طرح عدة خيارات لمعالجة مشكلة الفلسطينيين في غزة؛ أحد هذه الخيارات هو «تهيئة الظروف لجعل الحياة في قطاع غزة غير ممكنة»، ما يؤدي إلى «التهجير الجماعي الطوعي لسكان القطاع إلى مصر أو الخليج». وأوضح أن الهدف النهائي هو «أن تتحوّل غزة إلى مكان لا يمكن لأي إنسان العيش فيه، وأنظر إلى هذه النتيجة باعتبارها وسيلة وليس غاية. أقول ذلك لأن ما من خيار آخر لضمان أمن إسرائيل، فنحن نخوض حرباً وجودية».

كذلك قامت وزيرة الاستخبارات الإسرائيلية، جيلا غمالائيل، في 19 نوفمبر/تشرين الثاني، بدعوة المجتمع الدولي لتشجيع «إعادة التوطين الطوعي» للفلسطينيين خارج غزة، بدلاً من توجيه الأموال لإعادة إعمار القطاع الذي يتعرض للهجمات الإسرائيلية المستمرة. ولذلك فإن الاحتلال الإسرائيلي قد يلجأ لحل مشكلة الرفض المصري للتهجير، عن طريق دفع الفلسطينيين نحو البحر، من أجل مغادرة القطاع إلى دول أوروبية وأفريقية.

وبعد، فبين عوامل خارجية تتمثل في رفض الدول المنوط بها استقبال الفلسطينيين بعد تهجيرهم من قطاع غزة، ومن ثم تحمل تبعات الأزمة الفلسطينية وتهديد أمنهم القومي مثل مصر والأردن، وبين عوامل داخلية تعود لصلابة وإرادة الشعب الفلسطيني الصامد في أرضه رغم كل ما يقوم به الاحتلال من فتك وتدمير، تعجز إسرائيل عن تنفيذ مخططها بتهجير الشعب الفلسطيني، الذي يعد هدفاً استراتيجياً للاحتلال الإسرائيلي، لاجتثاث وتصفية القضية الفلسطينية.