لم يعل صوت خلال مباريات مونديال 2018 على صوت الجمال؛ حيث خطفت صور الفاتنات من جميع أنحاء العالم أنظار الجميع، وغطت في بعض الأحيان على ما يجري في الملعب من منافسة شرسة، وبدأت مقارنات قاسية بين النساء العاديات وحسناوات المونديال، حتى اضطرت الفيفا لمطالبة القنوات التليفزيونية والمصورين بالتوقف عن التركيز على الجميلات والاهتمام فقط بما يدور داخل المستطيل الأخضر.


هوس الكمال لدى المشاهير وغيرهم

الجدل بشأن جميلات كأس العالم هو امتداد لاهتمام الشباب والفتيات بتداول صور المشاهير والفاشينيستا على مواقع التواصل، واستخدامهم المفرط لتطبيقات الصور، مثل إنستغرام وسناب شات، والتي تولد داخلهم شعورًا بعدم الرضا عن مظهرهم والبحث عن المظهر المثالي الذي تجمع عليه الأغلبية.

أصبحت النساء والرجال مهوسين بصورة الجسم المثالي، أو امتلاك الشكل النموذجي للقوام ولون الشعر والعيون والأسنان، والملابس الأنيقة وخلافه. وكنتيجة منطقية نجد الكثيرين يبالغون في رؤية وتضخيم عيوبهم الشكلية؛ من اعوجاج الأنف أو اتساع الجبهة والفم أو طول الأذن، والمرحلة الأكثر تطرفًا؛ هي رؤية عيوب غير موجودة بالأساس بفعل الهوس بمتابعة صور المشاهير والرغبة في التشبه بهم.

لا تصيب هذه الأمراض الأشخاص العاديين فقط، بل كثيرًا ما أصيب بها نجوم، يهرع الشباب والمراهقون لتقليدهم، بينما هم حتى غير متقبلين لمظهرهم وغير راضين عنه؛ مايكل جاكسون هو الحالة الأكثر واقعية هنا؛ حيث وصفه الأطباء النفسيون بـ «ملك الألم» نتيجة لمعاناته المريرة جراء رفضه هويته وأصوله الأفريقية وتبعاتها من البشرة السوداء والشعر الأجعد.

قضى جاكسون كل حياته هائمًا وراء حلم «البحث عن الكمال الخارجي»؛ أجرى أكثر من 100 عملية تجميل؛ بدّل خلالها بشرته وشكل أنفه مرات، وذقنه وتجويف الخدين، وحتى شعره لم يسلم من الأمر، وفي النهاية توفي وهو لا يزال غير راضٍ عن صورته.

أيضًا أنجيلينا جولي، مثال الجمال النموذجي بالنسبة للرجال والنساء على السواء، لم تسلم من ذلك، فأصيبت بمرض «الأنوريكسيا»؛ وهو مرض يعتقد المصاب به أن وزنه زائد على غير الحقيقية، فيزهد الطعام أملًا في مزيد من النحافة، ما قد يؤدي للهلاك، وكل هذا بسبب بحثها المستمر عن الكمال عقب حياة مليئة بالمآسي والآلام.

اقرأ أيضًا: أنجلينا جولي: 35 كيلو جرامًا من التناقضاتقائمة المشاهير الذين أصيبوا بأمراض تتعلق بعدم الرضا عن شكل أجسادهم طويلة ولا تنتهي، وربما الأمثلة صادمة للغاية؛ من سامية جمال، لأميرة القلوب ديانا، لليدي غاغا، لجيسيكا ألبا، وفيكتوريا بيكهام.

أما إذا انتقلنا للحديث عن غير المشاهير وهوسهم بالمشاهير فحدث ولا حرج؛ فهناك من بذلوا ملايين في عمليات تجميل ليصبحوا مثل فنان أو فنانة شهيرة، لعل أبرز مثال هو الفتاة الإيرانية التي أجرت 50 عملية تجميل لتتحول لنسخة مخيفة من أنجيلينا جولي بالنهاية، رغم أن شكلها الأولي ربما كان أكثر جمالًا من جولي نفسها.

شاهدنا كذلك نماذج أكثر غرابة لشباب أجروا تحولات بمظهرهم ليصبحوا مثل فنانات شهيرات، هناك أيضاً هوس التشبه بالدمية «باربي»، وعشرات الفتيات اللائي سعين للتحول لباربي لمجرد الوصول لـ «نموذج الجمال الفريد».


اضطراب تشوه صورة الجسد

تندرج الحالات السابقة الإشارة إليها تحت ما يعرف بـ «اضطراب تشوه صورة الجسد – Body dysmorphic disorder»، واختصارًا بـ BDD، وقد تعرَّف عليه «إميل كربلين» -طبيب نفسي ألماني- للمرة الأولى قبل مائة عام، واعتبره أحد أشكال العصاب القهري.

وقد مر اكتشاف هذا المرض بعدة مراحل تاريخية مؤثرة أدت لتعدد أسمائه؛ ومن بينها «اضطراب التشوه الجسمي – Body image Disorder»، أو رهاب التشوه «ديسمورفوفوبيا – Dysmorphophobia»، أو رهاب شذوذ (خلل) البنية، أو وسواس الخجل من الجسم.

واضطراب صورة الجسم هو أحد أشكال الاضطرابات النفسية، والتي يكون فيها عدم الرضا عن المظهر الجسمي هو السمة الأساسية المحددة، و يُعرف بأنه انشغال حاد أو شديد للفرد بعيب بسيط أو متوهم (أي غير حقيقي) في مظهره، بما يسبب خللًا وظيفيًا في حياته، ويصيب الرجال والنساء على السواء.

وتُصنفه «المؤسسة الدولية لأمراض اضطرابات الوسواس القهري» على أنه «مرض عقلي»، وتؤكد أن هناك 200 ألف حالة إصابة جديدة به سنويًا؛ 40% منها ذكور، و60% إناث، وتلفت إلى أن الإصابة قد تحدث في الطفولة وتستمر في مرحلة البلوغ، إلا أن الأكثر شيوعًا أن تحدث الإصابة به في فترة المراهقة بسبب التقييمات الاجتماعية السلبية للمظهر وإساءة معاملة الأطفال.

بالطبع لا يوجد شخص راضٍ تمامًا عن مظهره؛ فجميعنا يكره الهالات السوداء، وبثور الأنف، وعدم انتظام الأسنان، والسيلوليت المنتشر ببضعة أنحاء الجسم، وغيرها، إلا أن اضطراب التشوه يأخذ المريض لحالة من الانشغال التام بالخلل والتركيز عليه ليل نهار والسعي لإخفائه.

ومن بين أعراض هذا المرض[1] الآتي:

1. تخوف الفرد وقلقه المستمر بشأن مظهره الخارجي.

2. الاعتقاد أن لديه عيبًا يجعله قبيحًا، ويدفع الآخرين للنظر له بشكل سلبي.

3. مقارنة الشخص بين مظهره ومظهر الآخرين بشكل دائم.

4. حاجته لطمأنة الآخرين له فيما يتعلق بمظهره.

5. قد يتطور الأمر لإصابة الفرد بوسواس وحساسية شديدة تجاه أحد أجزاء جسمه وخجله منه.

أبرز ملامح هذا المرض تتمثل في القلق بشأن الجلد وظهور الأوردة الدموية أو البقع والبثور وحب الشباب، كما بدأ الأمر مع مايكل جاكسون، أو شكل القوام والوزن المثالي، سواء بالبدانة أو النحافة، كما حدث لأنجيلينا جولي وسامية جمال، بالإضافة إلى الشعر والخوف من تساقطه والإصابة بالصلع أو عدم الرضا عن طوله أو كثافته أو حتى لونه ودرجة نعومته.

وعادةً ما يتخذ المصاب -بهذا الاضطراب- عدة إجراءات للتعديل من مظهره، مثل إخفاء العيب المتوهم؛ كارتداء قبعة لإخفاء الجبهة العريضة، أو باستخدام مساحيق التجميل لطمس البثور، أو اللجوء للرجيم القاسي، أو الإفراط في ممارسة الرياضة في حالة عدم الرضا عن شكل القوام، انتهاءً بإجراء عمليات التجميل لتغيير الشكل جذريًا، ومنها عمليات شفط الدهون أو حقن البوتوكس أو تكبير الثديين، أو تضخيم العضلات (في حالة الشباب)، وربما ينتهي الأمر بالابتعاد عن الناس تمامًا في محاولة لإخفاء هذا العيب.

الخطير في هذا الاضطراب اقترانه الدائم بعدة اضطرابات أخرى من بينها اضطرابات الأكل، واضطراب الشخصية التجنبية[2]؛ ويقصد به الكف الاجتماعي والشعور بعدم الكفاءة والحساسية المفرطة والتقييم السلبي، والقلق والاكتئاب واضطراب تقدير الذات [1]، بجانب تطوير أفكار انتحارية.


السيلفي ومواقع التواصل وأمراض صورة الجسد

يرى بعض الخبراء النفسيين[1] أن هذا المرض له علاقة بحالات من عدم التوازن الكيميائي في الدماغ، أو مشكلات متعلقة بنسبة السيروتونين في الدماغ (ناقل عصبي يساعد في سلامة وصحة العقل وبقائه ضمن المستوى الطبيعي يجعل الإنسان سعيدًا وهادئًا وأكثر تركيزًا وأقل قلقًا وأكثر استقرارًا عاطفيًا)، إلا أن الغالبية تجمع على تأثير ثقافة السيلفي وانتشار مواقع التواصل مثل إنستغرام، والتي تغذي مفهوم الـModels من الرجال والنساء، أو الجمال النموذجي (الأوحد)، خاصة لدى المراهقين.

حيث يقوم الشباب والفتيات بالتقاط صور شخصية مقربة، فيتلقوا الإشادة أو الانتقاد، ثم يدخلون في دوامة «برامج تعديل الصور»، ما يدفعهم تدريجيًا للسعي لتعديل ملامحهم الحقيقية، ما يعني أن بعض الممارسات التي نعتبرها «عادية وبسيطة» قد تتطور لتصبح هوسنا وكابوسنا الأبشع.

وكثيرًا ما يربط الخبراء الإصابة بهذا المرض بالضغوط النفسية التي يتعرض لها الأشخاص في الطفولة، وخاصة فيما يتعلق بحالات التنمر والسخرية من مظهرهم والتقليل منهم، أو مقارنتهم بالغير من حيث الشكل، أو نتيجة لمتابعة مفرطة من المراهقين للمشاهير ومحاولة تقليدهم.

وفي الحقيقة ينبغي الإشارة إلى أنه لا يوجد نموذج متفق عليه لشكل الجسم المثالي لدى النساء أو الرجال، فكل بلد وربما فئة لديها قيم جمالية تفضلها، والتي ربما تتناقض كليًا مع القيم التي يُجمع عليها آخرون، فالامتلاء هو معيار الجمال لدى المرأة الموريتانية، بينما النحافة أكثر تفضيلًا لدى الأوروبية، وهكذا.

أمر آخر نلفت إليه، وهو أن الجسد الواحد يتطور من مرحلة لأخرى بفعل تأثير عامل الزمن والظروف النفسية والمجتمعية والصحية والبيئية، أي أنه لا ثبات مطلق لأي شخص، حتى من يحاربون الشيخوخة بعمليات الشد والتجميل.

ولا يمكن أن ننسى أصحاب الاختلافات الفارقة في مجتمعاتنا؛ فهناك مرضى البهاق، وهناك قصار القامة أو من تتعدى أطوالهم المستويات الطبيعية، هناك أيضًا أصحاب البشرة السوداء، أو الشعر الأجعد، أو البدناء وشديدو النحافة، فليس من الطبيعي أن نطلب من كل هؤلاء التحايل على طبيعتهم للتوافق مع قيم ظاهرية مادية، اتفق عليها بشر آخرون غيرهم، وإلا فسوف يُعاملون بتمييز وبنظرة دونية.

يجب أن ندرك كذلك أن جمال الجسد البشري يكمن في تبايناته والسمات الفريدة التي قد نجدها في بعض البشر دون آخرين، بعيدًا عن «الدمى البلاستيكية» التي ترسمها أيدي الجراحين وتنتجها عمليات التجميل، فيما يشبه بدقة الصلصال وحرفية الفوتوشوب، ليصبح الأشخاص مجرد مسوخ ونسخ مُكررة لنفس الفنان أو الفنانة.

المراجع
  1. اضطراب تشوه صورة الجسم، د. مصطفى أبو العزايم – أخصائي الطب النفسي. الموسوعة النفسية، العدد 120 يناير/كانون الثاني 2017
  2. اضطراب صورة الجسم وعلاقته بتقدير الذات وأعراض الشخصية التجنبية لدى المراهقين المعوقين بصريًا، د. عبد الرقيب أحمد البحيري ود.مصطفى عبد المحسن الحديبي – جامعة أسيوط. مجلة العلوم التربوية والنفسية، المجلد 15 عدد 2 يونيو/حزيران 2014