جلس مجموعة من الشباب بأحد المقاهي في مدينة عربية احتفالًا بليلة العيد، وبينما يهمُّون بالانصراف جاء النادل من أجل جمع حساب ما تناولوه من مشروبات، في حين صاح أحدهم بنبرة هادئة: «لقد شربنا 3 أقداح من القهوة». وهنا تنحنح النادل بأدب قبل أن يقول: «عفوًا سيدي.. المسجل لديَّ في كشف الحساب أنكم تناولتم 4 أقداح من القهوة، فهل هناك خطأ ما؟» فأجابه الشاب مبتسمًا: «لا توجد أي أخطاء.. لم أكمل جملتي بعد، كنت أود أن أخبرك أننا تناولنا 3 أقداح من القهوة، أما الرابع فقد سجَّله أوريجي!» وانفجر رفاقه ضاحكين ما عدا أحدهم الذي وقف متجهمًا يرقبهم في غيظ شديد، في حين نظر إليهم النادل بحيرة ولم يفهم الدعابة بسبب سوء علاقته بكرة القدم!

وبعد أن قاموا بدفع الحساب انبرى أحدهم ليكتب منشورًا عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك مرفقًا بصورة لتجمُّعِهم على المقهى، مؤكدًا أن إجازة عيد الفطر هذا العام ستمتد إلى 3 أيام، أما الرابع فقد سجله أوريجي، لتنهال عليه التعليقات الساخرة وما تيسر من الرموز التعبيرية التي ابتكرها المبرمجون حديثًا من أجل أن يرحمونا بها من سلاسل حرف الهاء المتصلة التي تحل محل الضحكات في المجتمع الافتراضي.

منذ أن نجح المهاجم البلجيكي ديفوك أوريجي لاعب فريق ليفربول الإنجليزي في تسجيل هدفين في شباك برشلونة الإسباني في إياب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا، في شهر مايو/ آيار الماضي، اندفعت أمواج السخرية لتُغرق مواقع التواصل الاجتماعي وتنال من جماهير النادي الكتالوني الذي فشل في الحفاظ على فوزه العريض ذهابًا بثلاثية نظيفة، ليخسر إيابًا برباعية في مباراة كان أوريجي بطلها الأول.

دعك من أن الموضوع صار مملًّا حقًّا، إلا أن في قصة أوريجي ما يدعو للاهتمام، فالمهاجم البلجيكي كان حبيسًا لدكة بدلاء مدربه الألماني يورجن كلوب منذ بداية الموسم، وهو ما أثار عاصفة من التكهنات بشأن مستقبله، وتأكيدات على رحيله القريب.

ولكن شاءت الأقدار أن تُكافئ المهاجم صاحب الأصول الكينية في الأمتار الأخيرة من الموسم، بعد أن أُصيب نجما الهجوم روبيرتو فيرمينيو ومحمد صلاح، ليقود أوريجي هجوم الريدز في مباراة ملحمية حقق خلالها فريقه معجزة كروية أطاحت ببرشلونة، ومهدت الطريق أمام ليفربول من أجل حصد النجمة الأوروبية السادسة.


أكثر من مجرد هدف

وبنهاية المباراة لم يتوقف الأمر عند دعابة «الرابع سجَّله أوريجي»، بل صار هدفه الرابع حديث العالم من جانب آخر، حيث انهالت التحليلات الموضحة لكيفية صناعة هذا الهدف المثير للجدل. ففي الدقيقة 79 من عمر المباراة احتسب الحكم ركلة ركنية للريدز، نفذها ألكسندر أرنولد بطريقة مبتكرة باغتت دفاعات برشلونة التي لم تدرك ما حدث حتى اللحظات الأولى من احتفال أوريجي بتسجيله الهدف الرابع لفريقه.

وتسبب هذا الهدف في تدفق أمواج من الحبر، من أجل تحليل كيفية تسجيله، فتحدثت بعض التقارير في الصحافة البريطانية عن صبي يجمع الكرات في ملعب آنفيلد، يدعى أوكلي كانونيي، قام بتمرير الكرة سريعًا إلى أرنولد الذي نفذ الركلة الركنية بطريقة مباغتة مستغلًّا حالة عدم التركيز التي يعاني منها دفاع برشلونة أثناء الضربات الثابتة، والتي لاحظها يورجن كلوب في مباراة الذهاب وحاول استثمارها بأفضل الطرق بالاتفاق مع كارل لانكستر، المسئول عن التنسيق بين جامعي الكرات في ملعب آنفيلد.

وقالت التقارير إن كلوب قد قام بتوصية لانكستر بالتنبيه على أشباله بضرورة تمرير الكرة سريعًا للاعبي ليفربول أثناء الضربات الثابتة لكي يتم التنفيذ بأقصى سرعة ممكنة قبيل تراص لاعبي البلوجرانا في الوضعية الدفاعية الصحيحة، وهو ما نتج عنه بالفعل الهدف الرابع الذي سجَّله أوريجي وصار يحتسب من ضمن أكواب القهوة وأيام العيد.


الجينات الكروية

في الثامن عشر من شهر أبريل/ نيسان من عام 1995، وفي مدينة أوستند الساحلية البلجيكية، رُزق الثنائي الكيني مايك أوكوث أوريجي وليندا أدهيامبو، بابنهما ديفوك.وكان مايك لاعبًا لكرة القدم، بدأ مسيرته في مركز حارس المرمى في صفوف فريق شابانا الكيني، قبل أن يتحول لاحقًا إلى مركز الهجوم. وامتدت مسيرته من عام 1984، إلى عام 2010، ليتوزع عطاء اللاعب بين أندية كينية أبرزها فريق توسكر، وأندية بلجيكية كان من بينها جينك وأوستند، كما لعب في صفوف فريق بوشر العماني في أوائل التسعينيات، ودافع عن ألوان المنتخب الكيني في الفترة من عام 1989 وحتى 2004، وشارك خلال تلك الفترة في 3 نسخ من بطولة أمم أفريقيا (1990، 1992، 2004). وينحدر مايك من قبيلة لوو الأفريقية، وهي مجموعة عرقية تنتشر في العديد من مناطق القارة السمراء، كما ينحدر منها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما.

لم تستغرق موهبة أوريجي الابن الوقت الكثير من أجل أن تبدو واضحة للجميع، حيث لفت أنظار المشرفين في مدرسته في سن مبكرة، وهو ما وضح في تقاريرهم التي أرسلوها إلى والده، لينضم ديفوك إلى مدرسة الأشبال في نادي جينك وهو في السابعة من عمره. وبعد 9 سنوات من التدريبات في أكاديمية جينك، ارتحل ديفوك إلى نادي ليل الفرنسي ليبدأ هناك أولى خطوات مسيرته الاحترافية خارج بلجيكا وهو في سن الخامسة عشرة.

ويقول مايك أوريجي عن موهبة نجله المبكرة:


العالمية تبدأ من ماراكانا

في مونديال البرازيل عام 2014، بدأ الجيل الذهبي البلجيكي يتحسس خطواته نحو العالمية، وكان أوريجي من بين قائمة الـ23 التي مثلت الشياطين الحمر في كأس العالم، تحت قيادة المدرب الوطني مارك فيلموتس.

ورغم تمثيل أوريجي للمنتخب البلجيكي في مختلف الفئات العمرية، فإن الاتحاد الكيني لكرة القدم لم يفقد الأمل في ضمه إلى صفوف منتخب بلاده الأم ليكمل مسيرة والده، وحاول إقناعه في عام 2013 بالانضمام إلى «نجوم هارامبي»، ولكن اختار اللاعب الاستمرار في معسكر البلد الذي ولد وترعرع فيه متجاهلًا النداء الكيني.

وفي الثاني والعشرين من شهر يونيو/ حزيران من عام 2014، دخل أوريجي بديلًا لزميله روميلو لوكاكو إلى أرضية ملعب ماركانا الشهير في الدقيقة 57 من عمر مباراة بلجيكا وروسيا في الجولة الثانية من دور المجموعات بمونديال البرازيل، ليسجل هدف منتخب بلاده الوحيد في الشباك الروسية في الدقيقة 88. وبعد ذلك بشهر واحد،أعلن نادي ليفربول الإنجليزي عن ضم أوريجي إلى صفوفه في صفقة بلغت حوالي 10 ملايين جنيه إسترليني، على أن يظل اللاعب في صفوف ناديه ليل الفرنسي على سبيل الإعارة.

وفي الفترة من عام 2015 وحتى عام 2017 سجل أوريجي 14 هدفًا فقط بقميص ليفربول في جيمع المسابقات، ليخرج اللاعب معارًا مرة أخرى، ولكن إلى صفوف فولفسبورغ الألماني، والذي سجل بقميصه 6 أهداف خلال 31 مبارة شارك بها في البوندسليجا.


قليل من الأهداف كثير من الدراما

لقد كانت الكرات متناثرة في جميع أنحاء المنزل، وبدأ ديفوك في ركلها بمجرد تمكنه من المشي، وعندما بلغ السادسة وضحت ملامح موهبته، حيث كان أطول وأقوى من جميع أقرانه في مثل هذا العمر.

في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول من عام 2018، احتبست الأنفاس على ملعب آنفيلد في الدقائق الأخيرة من ديربي الميرسيسايد الذي يجمع ليفربول بغريمه إيفرتون، وعندما كانت النتيجة تشير إلى التعادل السلبي في الدقيقة 84، اختار المدرب الألماني يورجن كلوب الدفع بمهاجمه ديفوك أوريجي الذي لم يسجل أي أهداف في البريميرليج منذ انطلاقة الموسم. وفي الدقيقة السادسة من الوقت بدل الضائع، وصلت كرة عرضية من الرواق الأيمن للريدز نجح في تشتيتها دفاع إيفرتون ليقابلها المدافع الهولندي فيرجيل فان دايك بتسديدة يائسة شقت طريقها على نحو عجيب لتصل إلى الحارس الإنجليزي الدولي جوردان بيكفورد الذي تعامل معها بطريقة مضحكة لترتطم بالقائم ويودعها أوريجي الشباك بضربة رأس أطلقت شرارة فرحة هيستيرية من جانب كلوب.

بعد ذلك بحوالي 6 أشهر، وتحديدًا في الرابع من شهر مايو/ آيار الماضي، غادر النجم المصري محمد صلاح ملعب سانت جيمس بارك باكيًا بعد تعرضه لإصابة مؤلمة في الدقيقة 73، ليترك فريقه متعادلًا بهدفين لمثلهما أمام نيوكاسل في الجولة قبل الأخيرة من عمر البريميرليج، ويحل أوريجي بدلًا منه. وفي الدقيقة 87، يرسل السويسري شيردان شاكيري كرة عرضية من ضربة حرة مباشرة للريدز، ارتقى أوريجي فوق الجميع ليحولها برأسه في شباك دوبرافكا حارس نيوكاسل، ويحافظ على آمال فريقه في التتويج باللقب حتى الجولة الأخيرة من عمر الموسم.

بعد ذلك بثلاثة أيام فحسب، دخل يورجن كلوب مواجهة إياب نصف نهائي أبطال أوروبا أمام برشلونة متأخرًا بثلاثة أهداف ذهابًا، ومنقوصًا من ثنائي هجومه روبيرتو فيرمينيو ومحمد صلاح، ولكن واصل أوريجي كتابة السيناريو الدرامي الذي التزم به في الدقائق القليلة التي شارك خلالها هذا الموسم، وافتتح رباعية فريقه واختتمها أيضًا، ليضع بصمة تاريخية لن تُمحى من ذاكرة جماهير الريدز.

وفي نهاية الموسم، رفض أوريجي أن يمرر فرصة استكمال ملحمته، وألقى بكلمته الختامية في نهائي دوري الأبطال أمام توتنهام، عندما دخل إلى أرضية ملعب واندا ميتروبوليتانو في العاصمة الإسبانية مدريد في الدقيقة 58 أمام توتنهام بدلًا من فيرمينيو، ليسجل هدف الاطمئنان لكتيبة كلوب في الدقيقة 87، وينجح في تأمين نجمة الريدز السادسة.

ربما حاول يورجن كلوب دعم لاعبه نفسيًّا من خلال تصريحه عقب مباراة برشلونة، عندما قال:

الطريقة التي ظهر بها مؤخرًا تجعلني أقول إننا نعيش أسبوع ديفوك أوريجي، رأسيته في شباك نيوكاسل كانت مجنونة، ولا داعي للحديث عما فعله أمام برشلونة.

ولكن الشيء الأكيد أن لمسات أوريجي الحاسمة في موسم شاق وطويل ستظل خالدة في أذهان عشاق ليفربول، ليستحق أن تُضرب به الأمثال في أيام العيد وأكواب القهوة، وليالي الأبطال.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.