بعد بداية متعثرة، صاحبها نفاد صبر الإدارة والمشجعين، قررت إدارة نادي أرسنال الاستغناء عن المدرب «أوناي إيمري»، وتعيين مساعده «فريدريك ليونبيرج»، بديلاً مؤقتًا. بالطبع أنت تعلم بقية القصة، فالمدرب السويدي لم ينجح سوى بالفوز في لقاء وحيد، حتى تم تعيين «مايكل أرتيتا».

ما يهمنا من هذه التجربة القصيرة ليس الحكم على قدرات المدرب «ليونبيرج»، بقدر التركيز على وصف رئيس نادي أرسنال «جوش كرونكي» له فور تعيينه، حيث طمأن الجماهير لأن «فريدي» يمتلك الـ«DNA» الخاص بأرسنال، باعتباره أحد أساطير النادي في فترته الذهبية.

مر التصريح مرور الكرام، دون أن يسأل أحد ما هو الـ«DNA» الخاص بأرسنال؟ هل يقصدون أرسنال «أرسين فينجر» أم أرسنال ما قبله؟ المهم أن «إيمري» لم يمتلكه، وها قد رحل، تمامًا كحال «فالفيردي» الذي لم يمتلك «DNA» النادي الكتالوني. وإذا كنت قد مللت بالفعل من هذا المصطلح المصطنَع، فدعنا نأخذك في جولة لكشف ملابساته.

جينات الأجداد

يستخدم تحليل الحمض النووي «DNA» للكشف عن الأب البيولوجي للطفل،فيمكننا القول مجازًا إنه يكشف عن أصل الهوية. وقياسًا على ذلك، عند استخدام المصطلح في كرة القدم، فمن المفترض أننا نشير إلى أصل النادي تاريخيًا، أو على الأقل الفترة الأكبر من تاريخه.

لذلك سنبدأ جولتنا من شمال لندن، حيث أرسنال في ثلاثينيات القرن الماضي. فبعد رحيل المدرب التاريخي «هربرت تشابمان»، مخترع طريقة «3-2-2-3» المعروفة بـ«W-M»، وجد أرسنال في الكرة المملة غايةً ووسيلة لتحقيق إنجازاته، على يد المدربين التاليين: جورج أليسون(1934-1947)، بيرتي مي (1966-1976) جورج جراهام (1986-1995).

كانت جماهير أرسنال متعايشة مع الملل، وانسجمت معه بهتافات «واحد صفر لأرسنال، One-Nil To The Arsenal » «أرسنال الممل، boring, boring Arsenal»، حتى أتى «أرسين فينجر» بأفكاره المجدِدة، ليتحول أرسنال إلى أسلوب أكثر جمالية، بالاستحواذ والتمريرات القصيرة. وعلى الرغم من هذه الحقائق التاريخية، فإن أحدهم قرر أن ينسب «DNA» أرسنال إلى آخر الآباء.

ومن إنجلترا إلى إسبانيا، حيث يعيش برشلونة نفس الحالة، لكنها تعود لتاريخ أقدم، بدأ بتعيين المدرب الهولندي «رينوس ميتشيلز»، مخترع الكرة الشاملة في عام 1971. قبله، كان الفريق بلا هوية محددة، تائهًا بين مختلف المدارس الكروية، كان أحدها عراب الكاتيناتشو «هيلينو هيريرا».

وبعده، استمر التوهان حتى عاد «يوهان كرويف» مدربًا للفريق في عام 1988، وأقر هوية الفريق المستوحاة من أفكار «ميتشيلز»، لكن ذلك لم يمنعهم من العبث بها بالتعاقد مع السير «بوبي روبسون» وأخيرًا «إرنستو فالفيردي».

لماذا يخترعون الهوية؟

الشاهد من السرد السابق هو ارتباط الهوية بأفكار مدرب ما، في حقبة ما مع مجموعة معينة من اللاعبين، إذًا هل ذلك يجعل أصحاب الهوية مدعين؟ ليس بالضبط، والسؤال الآخر، هل مصطلحات الهوية والـ«DNA» حكر على رواد الاستحواذ؟ لا، لأنها استُخدِمت، مؤخرًا، في ريال مدريد ومانشستر يونايتد وحتى ليفربول، لتوصيف العزيمة والإصرار وعقلية الفوز، وليس أسلوب اللعب.

لذا بات واضحًا أهمية الـ«DNA»، وضرورة إقحامه عنوة داخل قاموس المشجعين. ويرجع ذلك إلى سببين: الأول، هو أن امتلاك هوية يعبر عنها أسلوب لعب معين، ينظم طريقة عمل مؤسسات النادي، مما يعضد الارتباط بين الأكاديمية والفريق الأول.

تمامًا كما تعمل أكاديمية أياكس الهولندي، واللاماسيا ببرشلونة، ومؤخرًا دخل نادي رينجرز الاسكتلندي على الخط، وقبله الإنجليز بمنتخبهم عن طريق مشروع «England DNA»، والذي يسعون من خلاله لتغيير نمط اللاعبين الإنجليز ابتداءً من جذورهم، للحصول على لاعبين أعلى مهاريًا وتقنيًا وليس بدنيًا فقط.

وحتى لو لم يعمل النادي بنفس الكيفية، فاهتمامه بالهوية – ولو مجرد ادعاء – سيحضر لا محالة للسبب الثاني، الذي يتعلق بك كمشجع. ففكرة تشجيع نادٍ يمتلك هوية أو يعتنق أفكارًا لشكل معين من كرة القدم، يجعل اختيارك أكثر قيمة على الأقل من وجهة نظرك.

فأنت لم تنجذب لهذا النادي بسبب قدرته على الفوز فحسب، بل لأنك تؤمن بنفس الفلسفة، وكلما زادت قدرة النادي على الالتزام بها بغض النظر عن النتيجة، زاد ارتباط المشجعين، وزادت قدرة النادي على جذب المزيد من الحالمين. أما إن كنت شخصًا واقعيًا وتشعر دائمًا بتفاهة هذه المصطلحات، فعلى الأرجح أنت لن ترغب في السماع عن الـ«DNA» سوى في المعمل، لذا ستكون الفقرة المقبلة ستكون مناسبة تمامًا لك.

نحو مزيد من التنبؤ

في صدفة غير مقصودة، كان الأمر متعلقًا بناديي برشلونة وأرسنال مرة أخرى، وتحديدًا قبل مواجهتهما في دور الـ16 بدوري أبطال أروربا 2015/2016. حيث قام «ريكارد برونا» طبيب النادي الإسباني، بأخذ عينات من لعاب لاعبيه، لفحص الحمض النووي الخاص بهم، لدراسة 45 جينًا مختلفًا، فالـ«DNA» عبارة عن جزىء طويل، يضم مجموعة التعليمات الوراثية اللازمة لبناء البروتينات الضرورية لأداء وظائف الجسم.

كان «ريكارد» يبحث تحديدًا عما يخص الإصابات العضلية، ليتسنى للنادي وضع الأحمال التدريبية المناسبة. فوفقًا لدراسة نُشرت في Clinical Journal of Sports Medicine، فالاختبارات الجينية يمكنها التقليل من الإصابات بشكل ملحوظ، عن طريق رصد جين «COL1A1»، المسئول عن مكوِن البروتين الرئيسي لجميع الأوتار والأربطة.

قد يكون ذلك سببًا في هشاشة لاعبين كدانيال ستوريدج، وآرين روبين. لكن الأمر لن يتوقف هنا، فتحليل الجينات سيجعل الأندية والمدربين ترى اللاعبين بنظرة مختلفة، وتحدد بدقة نقاط القوة والضعف لدى لاعبيهم، ومدى قابليتهم للتطور، وبالطبع سيجعل ذلك عملية اختيار اللاعبين، وكأنك تختارهم في لعبة «FIFA» الإلكترونية.

فمثلاً ستبحث عمن يمتلك جين «ACTN3» المسئول عن زيادة قوة وسرعة الألياف العضلية، وقد أكدت دراسة نشرها British Journal of Sports Medicine امتلاك معظم رياضيي النخبة له. وقد يكون ذلك مفسرًا مساعدًا لسرعة كريستيانو الخارقة، وضخامة لوكاكو.

وبالمثل يمكن أن نحاول تفسير قدرة لاعبي ليفربول-كلوب على الركض لـ90 دقيقة دون تعب، بالبحث عن جين «ACE I allele»، حيث المزيد منه، يعزز قدرة القلب والأوعية الدموية، وبالتالي مزيد من المجهود.

وقبل أن يختلط عليك الأمر، فنحن لا نختزل كل هذا العمل البدني والفني في مجموعة جينات، لكنه مجرد توضيح لعامل مساعد، يمكن اكتشافه بالتعاون بين الطب والعلوم الرياضية. لكن بشرط، أن يظل هذا التعاون مقتصرًا على حماية اللاعبين من الإصابات، لأن فكرة انتقاء اللاعبين منذ الصغر بناءً على الـ«DNA» ستفتح بابًا للتمييز المرفوض أخلاقيًا.

ومع مراعاة هذه النقطة، فسيكون مرحبًا بتحليل الحمض النووي بكثرة في كرة القدم في السنوات المقبلة، وحينها سواء كنت واقعيًا أم لا، فلن تكف عن سماع مصطلحات الهوية والـ«DNA» بسبب ودون سبب.