يُعتبر المجتمع الأندلسي مجتمعًا متعدد الأعراق والأديان، عاش فيه العرب والبربر وأهل الأندلس الأصليون واليهود، ومورست على أرضه شعائر الإسلام والنصرانية واليهودية. وعلى الرغم من غلبة الصراع والحروب والثورات على التاريخ الأندلسي؛ بسبب مناعة البلدان واختلاف السكان العرقي والديني، إلا أن هذا التعدد نشأت عنه عدة ظواهر اجتماعية أخرى نتيجة التلاقي والتعايش بين الأديان والثقافات المختلفة، ومن ضمن هذه الظواهر احتفال المسلمين بالأعياد الدينية المسيحية.


الأعياد المسيحية

احتفل المسلمون والمسيحيون بـ«عيد ينير» وهو عيد رأس السنة الميلادية بمظاهر باذخة، ذكر بعضها ابن قزمان الزَجَّال الأندلسي الشهير، وعدَّد من فواكه هذا العيد؛ القسطل والجوز واللوز والتين، كما اشتهر هذا العيد بعمل تماثيل من الحلوى، و«مدائن ينير» وهي حلوى على هيئة مدائن مصغرة ذات أسوار وكانت تُعجن وتُنقش على البيض المصبوغ بالحمرة أو الخضرة، وتُفرم بالزعفران ثم تُطبخ في الفرن ويُجمع إليها أنواع الفاكهة، ثم توزع هذه الحلوى على الأطفال للفرح بالعيد.

وتباهت الأسر وغالت في نفقات الاحتفال بعيد ينير، حيث قدر «أبو القاسم العزفي»، الفقيه المالكي وأمير سبتة في القرن السابع الهجري، تكلفة بعض موائد الاحتفال بعيد ينير بسبعين دينارًا أو أكثر حافلة بقناطير السكر وأنواع الفواكه والحلوى المختلفة، وفي بعض المدن الساحلية يطبخون طواجن من الأسماك يُنفق في الواحد منها ثلاثون درهمًا، وهي أرقام توحي لنا بالأهمية الاجتماعية التي أولتها تلك الأسر للاحتفال بالعيد ليظهروا بالمظهر اللائق أمام جيرانهم. وقال أبو القاسم العزفي إن من أهم أسباب الاحتفال بتلك الأعياد «مطاوعة الرجال للنساء على الاستعداد لها والتفخيم لشأنها»، ومن ضمن ما اتصل من الأعياد ليلة العجوز، وهي آخر ليلة في ديسمبر/كانون الثاني وعيد ميلاد النبي عيسى بن مريم عليه السلام.

وثمة عيد آخر، وهو عيد المهرجان أو «العنصرة»، يوم ميلاد النبي يحيى بن زكريا، عليه السلام، وهو عيد يُلبس فيه الجديد ويركب الناس الخيول إلى الحلبة للسباق، وتُرش فيه البيوت بالماء، واشتهر العيد بشعلة النار التي يوقدها المحتفلون ويقفزون من فوقها، ومن دلائل ابتهاج الناس بذلك العيد قول الشاعر:

أرى المهرجان قد استبشرا … غداة بكى المزن واستعبرا وسربلت الأرض أفوافها … وجللت السندس الأخضرا وهز الرياح صنابيرها … فضوعت المسك والعنبرا تهادى به الناس ألطافهم … وسامى المقل به المكثرا

كما كان يضع البعض جُمارة (قلب النخلة) تحت أسرتهم تفاؤلاً وأملاً أن يكونوا في العام المقبل أكسى من الجمارة، وأن من يحتفل بهذا العيد لم يخلُ عامه من رغد العيش وسعة الرزق.


موقف الفقهاء

شن الفقهاء في كتبهم وفتاواهم هجومًا شديدًا على الاحتفال بالأعياد المسيحية، وعدُّوها من البدع واستشهدوا بآيات وأحاديث كثيرة منها حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) «من تشبه بقوم فهو منهم»، وردوا الاحتفال بهذه الأعياد إلى مخالطة النصارى والاقتداء بهم والتراخي في الإنكار على المحتفلين وزجرهم.

كان موقف الفقهاء من الاحتفال بأعياد الميلاد المسيحية شديدًا، وصل إلى عدّ ذلك من البدع، واعتبره بعضهم رِدّة عن الإسلام.

وقد اتسع الوهن والضعف في الدين والإقبال على هذا الاحتفال ليشمل حتى من يقومون بتدريس العلوم الدينية، فيقول المحدث الأندلسي ابن وضاح: «سألت أبا زكريا يحيى بن سليمان عن إمام يقبل هدايا الصبيان في أعياد النصارى ويعظمها. قال ما أراه مسلمًا. قلت: لا يُصلى وراءه. قال: أنا أقول لا أراه مسلمًا، وأنت تقول لا يُصلى وراءه (…) وسألت سحنون عن ذلك فقال: رجل سوء».

لهذا كان ابن وضاح يُعجب بالمعلم الذي يرد هدايا صبيانه في أعياد النصارى، وبرجل تولى الإشراف على السوق في قرطبة فمنع الناس أن يزيدوا بضائع دكاكينهم في عيد النيروز (عيد الربيع) عن المعتاد استعدادًا للاحتفال بالعيد، وروى أحد العلماء عن أبيه أنه كان ينهى عن أكل اللحم في هذه الفصول من أعياد النصارى لأنها مما أُهلَّ به لغير الله.

وقال بعض العلماء، حسب أبي القاسم العزفي، لو أن رجلاً قام السنة كلها وصامها إلا ما لا يُقام فيها ولا يُصام، وفعل ذلك بنية خالصة، إلا أنه يساعد أهله، ويستعد لتلك الليلة المبتدعة، ورجلاً آخر لا يزيد على الفريضة وهو ممن لا يستعد لتلك الليلة إلا بما كان يفعله أبدًا في غيرها من الليالي حذرًا لشرها واجتنابًا لبدعتها، لكان هذا الرجل الذي لا يزيد على الفريضة عند أهل العلم والورع أفضل من ذلك المجتهد المتلطخ بالبدعة وأهدى وأتقى.


المولد النبوي كرد فعل

وكرد فعل على ما رآه العلماء خطرًا يهدد المسلمين من تشبههم بالنصارى، أطلق أبو القاسم العزفي دعوة للاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ورآه أولى بالاحتفال من هذه الأعياد ورد على من يتعللون بالاحتفال بعيد الميلاد والعنصرة أنهما عيدا ميلاد نبيين من أنبياء الله، عيسى ويحيى عليهما السلام، فقال العزفي في كتابه «الدر المنظم في مولد النبي المعظم»:

وقد كانت هذه الدعوة من أهم أسباب انتشار الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المغرب والأندلس، ويقول الأستاذ «فرناندو دي لاجرانخا» إن تلك الدعوة قضت بشكل قاطع وسريع على الاحتفال بميلاد المسيح، إلا أن ابن عياد الرندي ذكر أن الأمير العزفي لم يبلغ كلية غرضه في إبطال أمر النيروز والمهرجان.


هل الممارسة حجة على الشرعية؟

فأمعنت النظر، وأعملت الفكر فيما يشغل عن هذه البدع ويدفع في صدر هذا المنكر، ولو بأمر مباح، ليس على فاعله جناح، بما تطمئنّ إليه نفوسهم، وتمتد إليه أعناقهم وتميل رؤوسهم، فعلم الله النيّة واطّلع الطوية، فألهمني (سبحانه) أن أنبههم على أمر إذا تقرر لديهم قامت الحجة عليهم دينًا ودنيا، وانقطع العذر إذا تعوضوا منه أحسن عوض، يقوم به الشفاء ويطعن به المرض، فنبههم على ميلاد نبيهم المصطفى، سيد ولد آدم، خاتم النبيين (صلى الله عليه وسلم)، وإن من العجب الإقبال على ما لا يغني والإعراض عما وجب، فكثيرًا ما يسألون عن ميلاد عيسى (على نبينا وعليه السلام) وينتظرون الانتهاء إليه من الأيام، فيا أمة محمد، ويا خيرة الأمم، كفى بنا جفاء أن لا نعرف ميلاد نبينا (عليه أفضل الصلاة والسلام) ولا نتعرفه وهو أهم، ونتعرف ميلاد غيره من الأنبياء، كميلاد عيسى، ويحيى بن زكرياء، ولا علم لنا بهما فيما جاء من الأنباء. أو لم يكن سؤالهم عن ميلاد نبيهم (عليه أفضل الصلاة وأطيب السلام والتحيات) أحل وأولى، والتهمم به وبمعرفته أحمد سعيًا؟
سؤال الشرعية وسؤال الممارسة التاريخية سؤالان مختلفان؛ فالسؤال عن الشرعية سؤال ما يجب أن يكون، وسؤال الممارسة التاريخية للمجتمعات سؤال ما هو كائن

تحضر الممارسة التاريخية بقوة في معظم السجالات الإسلامية العلمانية، فيتهم بعض الإسلاميين الاستعمار الغربي بمسخ هوية المجتمعات الإسلامية وتصويرها بمجتمعات مثالية والتركيز على عاملين مهمين للتدليل على تلك الصفة الإسلامية؛ التفوق العسكري الذي استمر لمنتصف عمر الدولة العثمانية، والقضاء الشرعي، ومن ثمَّ الدعوة لاستعادة ذلك المجتمع الممسوخ هويته بتحريره من الفكر الغربي والثقافة الغربية والعودة لما قبل ذلك.

بالطبع تصبح تلك الصورة التاريخية السطحية لتاريخ الإسلام هشة جدًا إذا ما عُرضت على الحقائق التاريخية والأبحاث المتوسعة في التاريخ الاجتماعي، ومن ثمّ يكون الرد العلماني على تلك الحجج «الإسلامية» بأنه ها هي المجتمعات الإسلامية التي يدعون للعودة إليها قامت بممارسات لم يكن للدين المرجعية العليا فيها، وضربوا بكلام الفقهاء عرض الحائط، ويُعتبر كلام الفقهاء هنا مجرد «تأويل» للنصوص كأي تأويل بل محاولة للتسلط والوصاية على الناس.

والحقيقة أن سؤال الشرعية وسؤال الممارسة التاريخية سؤالان مختلفان تمام الاختلاف؛ فالسؤال عن الشرعية سؤال ما يجب أن يكون، وسؤال الممارسة التاريخية للمجتمعات سؤال ما هو كائن، الأول مجاله البحث في الأدلة الشرعية والبحث الشرعي بمختلف مذاهبه، والثاني مجاله البحث في المصادر التاريخية والتحليل التاريخي بمختلف مناهجه.

واعتبار الشرع مطابقًا للواقع كما تروج بعض كتابات الإسلاميين السطحية عن التاريخ تزييف قبيح، ووهم يغفل طبيعة المجتمعات البشرية وينزع عنها إنسانيتها ووجود الخير والشر فيها. والاستدلال بشرعية أمر وإباحته من ممارسة تاريخية فقط يهمل أن الإسلام دين ووحي منزل من الله لا مجرد ظاهرة أرضية لها تجليات اجتماعية وثقافية يمكن تعديله وتبديل أحكامه وإلغاؤه بالكلية لمجرد الأهواء والأذواق.

في المقال القادم سنتحدث عن جدل الطب والدين وهل هذا الجدل قديم أم أنه ابن الاستعمار الحديث، لا زلنا في الأندلس، لكننا سننتقل من بهجة الأعياد إلى مأساة الطاعون.

المراجع
  1. أمثال العوام في الأندلس- عبد الله بن أحمد الزجالي القرطبي، تحقيق محمد بن شريفة
  2. مظاهر الحضارة في الأندلس في عهد بني الأحمر – أحمد محمد الطوخي
  3. زمان الوصل: دراسات في التفاعل الحضاري والثقافي في الأندلس- صلاح جرار
  4. دراسات أندلسية وموريسكية – مجموعة من المؤلفين