هل باع الفلسطينيون أرضهم؟
إن من أحد أهم وسائل الاستعمار المستمرة التي لا يمل من استخدامها؛ عملية نشر الشائعات عن المكان الذي قام باحتلاله إما قبل أو بعد عملية الاحتلال ذاتها، وهناك العديد من المزاعم التاريخية حول الكثير من القضايا التي ظلت لفترة طويلة من المسلمات التاريخية إلا أن بدأ الباحثون في مادة التاريخ في إثبات زيف وكذب العديد من تلك المزاعم التي تحولت إلى مسلمات.منها مثلا مزاعم القوى الاستعمارية البرتغالية والفرنسية حول أفريقيا بأنها أرض أدغال ليس فيها أي مقومات للحياة ومن ثم أرض تحتاج إلى عمران، أيضًا حرب “التحرير” الأمريكية واكتشاف أرض الولايات المتحدة الأمريكية على يد الأوروبيين المطرودين من أوروبا والهاربين من السجون الأوروبية الذين قاموا – حسب ما أثبتت الروايات – بقتل وإبادة وتشريد أصحاب الأرض الأصليين “الهنود الحمر” إلى غير ذلك من تلك المزاعم التي يتمثل هدفها الرئيسي في تبرير أعمال القتل والتدمير والإبادة والتهجير القسري وغير ذلك من أشكال الاحتلال الاستيطاني على غرار الاحتلال الصهيوني القائم على عدة مزاعم تاريخية وأهمها: بيع الفلسطينيين لأراضيهم!
مزاعم بيع الفلسطينيين لأراضيهم وأثر ذلك على الصراع ودلالته
إذا أردت أن تقتل عدًوا لا تطلق عليه رصاصةً بل أكذوبةً
قام العدو الصهيوني بتسريب شائعة بيع الفلسطينيين لأراضيهم من خلال وسائل الإعلام الموجهة من قبلهم، والتي تم ترديدها على كثير من منابر الإعلام العربي والإسلامي، بل وترددت على ألسنة الكثير من رجال السياسة وصنّاع القرار ثم العامة أيضًا تبعًا لذلك، فأصبح من المسلمات التاريخية أن الفلسطينيون هم الذين باعوا أرضهم وقبضوا الثمن فلماذا يريدون الآن الدفاع عنها وحشد العرب والمسلمين لذلك الأمر؟ هذه المزاعم في المقام الأول تؤثر على القضية سلبا حيث تجعلها تتراجع في سلم أولويات العقل المسلم والعربي فضلا عن أولويات السياسة الخارجية لأجهزة صنع القرار في الدول الإسلامية والعربية، كما تستخدم في إثبات شرعية حصول إسرائيل على أرض تم شراؤها وأن البائع قد قبض الثمن. أما في المقام الثاني فهناك تصوران مختلفان من الناحية المعرفية والفلسفية لفكرة الأرض وما يستتبعه ذلك من مسألة الانتماء والولاء. فهناك تصور قومي قطري مبني على نموذج الدولة القومية الحديثة المعرفي الذي يقضي بانتماء أهل قطر وقومية معينة للأرض التي تقع داخل “حدود” ذلك القطر فقط، فهي التي تستحق الدفاع والذود عنها ضد أي اعتداء، أما باقي الأقطار فلا شأن لسكان قطر معين بها وبالدفاع فسكانها أولى بها. وهناك تصور آخر مرتبط بالنموذج الإسلامي في الحكم وهو أن هناك ولايات وأقطار تحت راية الإسلام ويعيش عليها مسلمون، فهذه كلها أراض إسلامية يجب الدفاع عنها والحفاظ عليها من السلب والنهب والاحتلال. أما التصور القومي فسوف يؤدي إلى عدم مبالاة بما يحدث في أراض أخرى “بغض النظر عن الارتباط الديني أو اللغوي أو العرقي” كما في الحالة الفلسطينية، ورؤية أفراد الدول العربية والإسلامية لها – ليس كل الأفراد. أما في التصور الثاني نجد من يطالب بل ويذهب بالفعل كي يجاهد ضد الاحتلال والدفاع عن أراضي الإسلام في أي قطر كان كما في الحالة الفليسطينية أيضًا، حيث نجد هناك مجاهدين من مختلف بقاع الرقعة الإسلامية والعربية. هذه جدلية هامة تشكل وعي الذات المسلمة تجاه قضاياها الحيوية ولا سيما القضية الفلسطينية والتي لابد وأن تقضي بعدم الاستسلام لمثل تلك المزاعم التي أيضًا تحمل العديد من التناقضات المنطقية فضلا عن الكذب والافتراء التاريخي.![1](https://cdn.ida2at.com/media/2015/05/1-2-300x199.jpg)
الحقائق التاريخية لعملية الاستيطان والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية
يمكن تقسيم عملية الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية والتي تحمل في طياتها الرد على أكذوبة “بيع الأرض” إلى أربعة مراحل: المرحلة الأولى: الاستيلاء في ظل الدولة العثمانية، المرحلة الثانية: في ظل الانتداب البريطاني، المرحلة الثالثة: إعلان دولة إسرائيل وقرار التقسيم في نوفمبر 1948، المرحلة الرابعة: حرب 5 حزيران 1967.المرحلة الأولى: الاستيطان في عهد الدولة العثمانية 1850 – 1920
في ظل حكم الدولة العثمانية كانت هناك العديد من القوانين التي تقضي بمنع دخول اليهود إلى أرض فلسطين ثم بعد ذلك خففت لتكون مجرد ثلاث مرات، وأيضا قوانين متعلقة بمنع تملك الأجانب للأراضي الفلسطينية. وكان السلطان عبد الحميد الثاني يمثل عقبة أمام عملية الاستيطان الصهيوني حيث رفض عرض تيودور هرتزل مؤسس المنظمة الصهيونية العالمية وصاحب كتاب الدولة اليهودية لبيع أرض فلسطين لليهود حيث كان رده “لا أقدر أن أبيع ولو قدمًا واحدةً من البلاد؛ لأنها ليست لي بل لشعبي. ولقد حصل شعبي على هذه الامبراطورية بإراقة دمائهم، وقد غذوها فيما بعد بدمائهم وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا”[1]، يثار هنا تساؤل؛ إذا كانت هذا هو رد سلطان المسلمين السلطان العثماني آنذاك فكيف تم الاستيلاء إذًا على الأراضي التي استحوذ عليها اليهود قبل مرحلة الانتداب البريطاني؟![2](https://cdn.ida2at.com/media/2015/05/2-2-300x290.jpg)
![3](https://cdn.ida2at.com/media/2015/05/3-3-200x300.jpg)
المرحلة الثانية: الانتداب البريطاني 1920 – 1948
صار الاحتلال البريطاني ساري المفعول عام ،1923 وكان للاحتلال دورًا بالغ الأهمية في توسيع رقعة استيلاء اليهود على أراضي فلسطين، حيث أعيد فتح الأراضي المسجلة باسم الدولة العثمانية مما أدى إلى تسهيل شراء مساحات كبيرة من الأراضي من قبل اليهود[8]، أيضًا حلول الانتداب والحكومة البريطانية الممثلة لهذا الانتداب محل الحكومة العثمانية أدى إلى نقل ملكية الأراضي المملوكة للدولة آنذاك إلى الانتداب؛ الأمر الذي أدى إلى تسليم جزء منها لليهود بدون مقابل، والجزء الآخر بمقابل اسمي، ويمكن القول أن اليهود حصلوا على حوالي 1، 8 % من إجمالي مساحة أرض فلسطين. خلاصة الفترتين (الدولة العثمانية والاحتلال البريطاني) استولى اليهود على حوالي 7، 4% من إجمالي مساحة فلسطين.المرحلة الثالثة: قرار التقسيم وإعلان دولة إسرائيل عام 1948
“إن مطالبة الصهاينة بدولة يهودية كان يتعارض بشكل تام مع كل مبادئ القانون الدولي والتاريخ الحديث” ناحوم جولدمان، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية 1956 – 1968 في مقاله: نفسية السلام في الشرق الأوسط، بمجلة الشؤون الخارجية، أكتوبر 1975، ص 114. منذ عام 1936 نشبت الثورة الفلسطينية في مقابل أعمال الاستيطان الصهيوني؛ تعلن موقفها من المسألة اليهودية بالرفض في ظل الاحتلال البريطاني الذي ساند اليهود في مقابل تلك الثورة حتى استطاع إخمادها والقبض على قياداتها وإعدامهم. في 29 نوفمبر 1947 أصدرت الجمعية العامة قرارًا بتقسيم فلسطين إلى ثلاث مناطق وبناءً عليه أعطى القرار حوالي 54، 7 % للدولة اليهودية (حيث يصبح الإجمالي بالإضافة إلى ما سبق الاستيلاء عليه 62، 1%)، و44، 7% للدولة العربية، وحوالي 0، 5% لمنطقة القدس. وفي 15 مايو عام 1948 قامت العديد من القوات العربية بالذهاب إلى فلسطين لتحريرها من الصهاينة ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولما كانت الهزيمة نتيجة حرب 1948، تم إعلان الدولة اليهودية في نفس العام، وعرف بعد ذلك تاريخ 15 مايو 1948 بذكرى نكبة فلسطين التي من خلالها تمت السيطرة على أكثر من 50 % من أرض فلسطين. والشاهد أنه قبل ذلك التاريخ ظل الشعب الفلسطيني يناضل أمام التوسع الاستيطاني الصهيوني في جو عام من خذلان الكثير من البلدان العربية بل وخيانة البعض منها للقضية والتعاون والاعتراف بالكيان الصهيوني، وفي إطار ترديد مقولة “الفلسطينيون باعوا أرضهم!”.المرحلة الرابعة: حرب حزيران 1967م
لم يُرضِ الكيان الصهيوني سوى التأكيد على استكمال المشروع الاستيطاني الخاص به من خلال الاستيلاء على باقي أرض فلسطين والاستيلاء على بعض أجزاء من الدول المجاورة وتحديدًا الجولان وصحراء سيناء. فمن أجل ذلك الهدف قامت القوات الإسرائيلية في 5 يونيو/ حزيران 1967م بشن هجوم على المطارات المصرية والأردنية والسورية وشل حركة الطيران لكليهما واحتلال كلٍّ من الضفة الغربية وقطاع غزة في فلسطين (الذي يمثل حوالي 23 % من أرض فلسطين)، أي نتيجة حرب 1967م أن أصبحت السيطرة الإسرائيلية – الصهيونية تضم حوالي 85،1 % من إجمالي مساحة أرض فلسطين. والآن، تعاقبت الحكومات الصهيونية والهدف، كان ولا زال، واحدًا؛ تهجير من تبقى من السكان الفلسطينيين وتوسيع عملية بناء المستوطنات، وبهذا يمكن أن نستخلص النتيجة المنطقية وهو تفنيد المزاعم الصهيونية – الغربية – العربية (البعض وليس الكل) من أن إسرائيل قامت بسبب بيع الفلسطينيين لأراضيهم، الفلسطينيين الذي ما زالوا يقاومون الاحتلال وأعمال الاستيطان والتجريف بشتى الصور الممكنة كما رأينا في حروب غزة والتي كان آخرها عام 2014. وأخيرًا، إذا جاز القول “شهد شاهد من أهلها” حيث قال الكاتب اليهودي رون ديفيد في كتابه العرب وإسرائيل للمبتدئين، ص 210:أريد عددًا قليلًا من اليهود الأمريكيين المشهورين، خصوصًا أولئك الذين أحترمهم، والذين علموني كل شيء، أريدهم أن يقفوا ويقولوا لنترك الكذب على العالم وعلى أنفسنا، لقد سرقنا فلسطين، لقد سرقناها. حتى لو أعطينا الفلسطينيين حكمًا ذاتيًا، أو تقريرَ مصيرٍ، أو الضفة الغربية، أو دولة فلسطينية، فإننا لا زلنا نسرق معظم أرضهم، فلنبدأ على الأقل بقول الحقيقة.
![4](https://cdn.ida2at.com/media/2015/05/4-2-162x300.jpg)
- محسن محمد صالح، القضية الفلسطينية: خلفياتها التاريخية وتطوراتها المعاصرة، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، 2012.
- عيسى صفوان القدومي، فلسطين وأكذوبة بيع الأرض، مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية، فلسطين، 2013.
- الحاج أمين الحسيني (مفتي القدس ورئيس الهيئة العربية العليا)، حقائق عن قضية فلسطين، مكتب الهيئة العربية، 1957.
- سميح حمودة، وثائق حول بيع الأراضي لليهود في عهد الانتداب البريطاني، حوليات القدس، العدد الثاني عشر، شتاء 2011.