في عام 1977 نشر «ستيفن كينج» روايته الأشهر «البريق» The Shining، التي بنى عليها كوبريك أحداث فيلمه الشهير بنفس الاسم بعد ثلاث سنوات، والذي يعد واحداً من أهم أفلام كوبريك والسينما العالمية بشكل عام. بعدها بـ36 عاماً نشر كينج رواية جديدة بمثابة تتمة لروايته الشهيرة تحت اسم «طبيب النوم» Doctor Sleep، والتي تحولت إلى فيلم بنفس الاسم من إخراج الأمريكي «مايك فلاناجان»، مخرج مسلسل الرعب الشهير والمتميز «أشباح هيل هاوس» The Haunting of Hill House.

منذ عدة سنوات كان لقائي الأول مع فيلم «البريق». لم أكن قرأت الرواية حينها، ولم يعجبني الفيلم، وبعد مرور الوقت لم أعد أذكر تفاصيله أو حتى ما الذي لم يعجبني بشأنه، كل ما تذكرته كان غموض أحداثه الذي تخطى الحد الكافي لإثارة اهتمامي حينذاك، رغم أجواء التصوير البارعة في جعل أوصالك تقشعر دون أن ترى على الشاشة ما يثير القلق. بعدها شاهدت فيلم «دكتور سليب» وقت صدوره، أعجبني للدرجة التي جعلتني أعيد مشاهدته مرتين أو ثلاث، وفي كل مرة ألتقط مزيداً من التفاصيل التي تثير إعجابي.

حالفني الحظ وتمكنت من قراءة رواية «البريق»، أخيراً، التي انتهيت منها في وقت قياسي لم أكن أتوقعه، وبعدها قررت أن أعيد مشاهدة فيلم كوبريك مرة أخرى بوعي أكبر وذاكرة أكثر انتعاشاً، كي أرى إن جد في رؤيتي له جديد. بعد مشاهدة الفيلم للمرة الثانية تيقنت من عدم حبي لهذا الفيلم، ومعرفة الأسباب وراء ذلك خصوصاً بعد قراءتي للرواية.

عندما وافق ستيفن كينج على أن تُحوَّل روايته إلى فيلم من إخراج كوبريك، طلب الأخير من كينج أن يسمح له بإضفاء بعض التعديلات على أحداث الرواية، لكن ما حدث في الواقع كان أن كوبريك أعاد كتابة رواية جديدة وفقاً لمنظوره الشخصي على رفات رواية كينج التي لم يظهر منها سوى أسماء الأشخاص والمكان الرئيسي الذي تدور فيه الأحداث.

لماذا لم يكن بريق كوبريك ساطعاً بما يكفي؟

نجح كوبريك في بناء عالم متكامل بصرياً لأحداث الرواية فائق الدقة والجمال في كل تفصيلة متعلقة به، لكن للأسف أخلت تعديلاته بالجوهر الرئيسي للرواية، ولم ينجح في إعادة تناول العمل الأدبي الذي حاز إعجابه بشكل خاص من وسط أعمال عديدة عُرضت عليه لإخراجها.

بدأ كوبريك فيلمه من الثلث الأخير للرواية، لم يكن هناك تطور للشخصيات الثلاثة الرئيسية في الفيلم «جاك تورانس» الأب، «ويندي» الأم، و«داني» الابن، الذين يجمعهم مكان واحد لا يوجد به أحد سواهم وهو فندق «الأوفرلوك»، الذي يمكننا أن نحسبه بطلاً رابعاً وربما البطل الأهم، الذي تدور كل أحداث الفيلم على مدار ساعتين ونصف تقريباً فيه، الذي لم نعلم كذلك عن تاريخه سوى القليل من بضع مشاهد هنا وهناك، لذا أتى الشعور بالغموض الذي لم يبق معي سواه منذ مشاهدتي الأولى للفيلم.

في حين تأخذنا الرواية منذ سطورها الأولى في جولة عميقة بداخل النفس البشرية، فيها قام كينج بسبر أغوار شخصياته الثلاثة الرئيسية على الصعيد النفسي، وتعريتهم أمام أنفسهم في مواجهتهم لهذا القدر من الضغط الذي تسبّبت فيه العزلة القاسية، وإعادة النظر في أهم قرارات حياتهم ودوافعهم حينها، والأهم مواجهتهم لجنون «الأوفرلوك» وأشباحه.

في الفيلم لم نعلم لماذا يتصرف جاك تورانس -الذي قام بدوره جاك نيكلسون- على هذا النحو الجنوني الشرير؟ لماذا يكره زوجته وابنه؟ هل تتهيأ له بعض الأشياء أم لا؟ كما لم نعلم الكثير عن ويندي، والتي قامت بدورها شيلي دوفال، فقط امرأة هيستيرية ضعيفة لا نستطيع التعاطف معها بسهولة، لما تتمتع به من بلاهة على الشاشة.

أمّا الأهم أننا لم يتسن لنا التعرف على «داني» البطل الصغير صاحب «البريق» الذي استُخدِمَ عنواناً للرواية ومن بعدها الفيلم. ما هو البريق بالضبط؟ لا نعلم، ما أهميته في حياة داني سوى التسبب له ببعض الرؤى الغيبية؟ لا نعلم، ما العلاقة بين بريق داني وما حدث في الأوفرلوك؟ لا نعلم كذلك.

لذا في نظري لم يجر كوبريك تعديلات على الرواية، إنما اختزلها بشكل شديد الفجاجة مُطيحاً بها يميناً ويساراً. فالرواية التي كانت تدور بالأساس حول كيان شيطاني/ شرير مُتمثلاً في الفندق يسعى نحو بريق داني كي يتغذّى عليه بشكل أو آخر، أصبحت أحداثها في الفيلم تدور حول جاك تورانس المجنون بلا هدف أو سبب واضح. لذا أصبح لدينا فيلم بلا حبكة، أحداثه في تصاعد لكنه تصاعد غير منطقي، لأننا لم نر نقاطاً تحول تحدث لأبطاله بوضوح.

حول هذا الشأن أوضح ستيفن كينج، والذي أعلن عن كرهه لفيلم كوبريك بعد عرضه بسنوات، للدرجة التي دفعته إلى كتابة مسلسل قصير مأخوذ عن الرواية ذاتها وإنتاجه عام 1997، أن فقدان منحنى الشخصية أو رحلتها الداخلية التي تتطور من خلالها ما هو إلا مأساة حقيقية. فجاك تورانس حاول أن يكون أباً جيداً، كما كان يحارب شياطينه القابعة بداخله بينما يحاول أن يقلع عن إدمانه الكحول، حتى عندما تمكّن الفندق منه؛ في خضم محاولته لقتل ابنه وزوجته، عاد له عقله لثوانٍ، فيهم توسل إلى ابنه الذي كان يحب أباه بشدة أن يهرب كي ينجو بنفسه، لذا فهو لم يكن مجرد رجل مجنون يكره أسرته، ويطاردهم في أرجاء فندق منعزل، حاملاً فأساً كي يقتلهم.

لم تسلم النهاية من إجراء تغييرات، بطبيعة الحال، أضفت عليها هالة من الغموض العظيم، بخاصة المشهد الأخير في الفيلم للصورة الشهيرة المعلقة على أحد جدران الأوفرلوك، حيث يظهر جاك تورانس في حفل بقاعة الرقص بداخل الفندق في زمن قديم قبل عدة عقود على الزمن الحاضر لأحداث الفيلم.

على مدار سنوات منذ صدور الفيلم، نُشِرت عدة مقالات حول تحليل وتفسير نهاية الفيلم تحديداً. ظهرت عدة نظريات مُفسِّرة. اتفقت مع واحدة من هذه التفسيرات، والتي تقول إن الصورة تخبرنا بأن الأوفرلوك تمكن من جاك تورانس، وأصبحت الآن روحه حبيسة الفندق كغيره من نزلاء الفندق الآخرين، كسيدة الغرفة 237، وجرادي الحارس الشتوي السابق الذي شغل نفس وظيفة تورانس، ولويد ساقي البار وغيرهم.

لكن تحطمت هذه النظرية وغيرها على صخرة الواقع عندما خرج علينا كوبريك بتفسير مشهد النهاية في مقابلته مع الناقد السينمائي الفرنسي «ميشيل سيمنت»، حيث قال كوبريك، إن صورة قاعة الرقص تشير إلى تناسخ روح جاك، والذي ربما كان في زمنِ فائت نزيلاً بالفندق أو موظفاً فيه. ما عبّر عنه في أحد المشاهد لزوجته ويندي وهو يحكي لها انطباعه حول زيارته الأولى للفندق: «كان الأمر كما لو كنت هنا من قبل». ومثلما أخبره جرادي في مشهد آخر، أنه كان دائماً الحارس الشتوي الذي يتولى رعاية الفندق، «يجب أن أعرف […] لقد كنت هنا دائماً».

هل جاء «دكتور سليب» لينهي ما لم يكمله كوبريك؟

الآن بعدما قرأت الرواية وشاهدت الفيلم، أردت أن أعيد مشاهدة فيلم «دكتور سليب»، الذي صدر في 2019، للمرة الثالثة فقط كي أجد الرابط بينه وكل من رواية وفيلم «البريق»، حيث ظهر فيه فندق الأوفرلوك مُجدداً، وانطلقت بداية أحداثه من نقطة انتهاء الفيلم الأول، بعدما تمكّن داني وويندي من النجاة من جاك تورانس والأوفرلوك مجتمعين. وفي الواقع، نجح «مايك فلاناغان» بصفته كاتباً ومُخرجاً للفيلم «دكتور سليب» في مهمة شبه مستحيلة، تمكّن فيها من إرضاء كل من جمهوري الرواية والفيلم، والأهم إرضاء كينج نفسه الذي كان ناقماً على بريق كوبريك.

وقتما شاهدت فيلم «دكتور سليب»، وقبل أن أقرأ الرواية التي اقتبس عنها، شعرت أنه أكثر ولاءً لبريق ستيفن كينج من فيلم كوبريك. لكن في الوقت نفسه، كان حريصاً جداً على الإبقاء على الصورة البصرية الراسخة في عقل الجمهور التي قدّمها كوبريك في فيلمه.

أثناء إعداده لتصوير فيلمه «دكتور سليب»، أعاد فلاناغان وفريق عمله بناء مواقع التصوير نفسها التي كانت في فيلم «البريق»، وعلى رأسها فندق الأوفرلوك، الذي كانت إعادة بنائه مهمة في غاية الصعوبة بالنسبة لهم، لكنهم تمكّنوا من إنجاح الأمر بعد حصولهم على صورة من المخطط الهندسي للمكان من مقتنيات كوبريك. كما استعانوا بثلاثة مشاهد من فيلم «البريق» نفسه، وأعادوا تلوينها وإضافة بعض العناصر البسيطة بصرياً، منها اللقطة التي صُورِّت من أعلى للمياه والجزيرة، ومشهد السيارة التي تسير على الطريق الجبلي.

لم يحرص فلاناغان على الإبقاء على الصورة البصرية فقط، بل التزم كذلك بمجريات الأحداث كما ظهرت في فيلم كوبريك لا كما جاءت في الرواية. تم ذلك بعد مفاوضات عديدة تمكن فيها أخيراً من إقناع كينج بالأمر، بخاصة أن الجمهور كان أكثر ألفة بالفيلم وأحداثه.

وبالتالي، في فيلم «دكتور سليب» اضطر فلاناغان إلى أن يجري بعض التغييرات بالطبع على ما جاء في رواية «طبيب النوم» كي يتناسب مع ما قُدِّمَ في فيلم «البريق». لكن منْ قرأ رواية «طبيب النوم» سيُدرِك أن فلاناغان أتم مهمته على أكمل وجه في الدمج بين عالمي كينج وكوبريك، ودون أن تفقد أي من الروايتين جوهرها الأساسي، لنحظى في الأخير بعمل سينمائي ممتع في تفاصيله، مُرضياً لجميع الأطراف.