العالم يتصارع على الموارد الطبيّة، شحنات لأجهزة تنفس صناعي قادمة من دولة لأخرى فتصادرها دولة ثالثة، أقنعة طبية واختبارات كشف سريع عن الإصابة بفيروس «كورونا» تُحتجز في المطارات ولا يُسمح لها بالمغادرة. جعلت جائحة كورونا العالم يتمسك بكل ما له علاقة بالنظام الصحي، وعلى رأس الموارد الطبية بالطبع يوجد الأطباء. دولة واحدة سلكت اتجاهًا مغايرًا، وهو تصدير الأطباء.

حتى بداية أبريل/ نيسان 2020 كانت كوبا قد أرسلت 593 عاملًا في المجال الطبي، 179 طبيبًا و399 ممرضة و15 فنيًّا، إلى 14 دولة مختلفة لمساعدتهم في مواجهة الجائحة الفيروسية!

أشهر الدول وأولها، كانت إيطاليا، حيث جرى إرسال فرقة طبية يوم 21 مارس/ آذار 2020 إلى لومباردي، أكثر المناطق الإيطالية تضررًا من الوباء. ووفقًا لتصريح، خورخي بوستيلو، مدير الوحدة المركزية المسؤولة عن إدارة البعثات الخارجية في وزارة الصحة الكوبيّة، فإن وزارة الصحة تراجع طلبات عشرات الدول التي أرسلت لكوبا استغاثات لمدّها بالأطباء.  

وزير الصحة الكوبي، خوسيه ميراندا، غرّد في 28 مارس/ آذار 2020 قائلًا: إن كوبا قد مدت يدها للعالم عدة مرات، وأردف أن المختلف فقط هذه المرة هو أن المساعدات تلاحقت في وقت قصير. في تلك التغريدة ذكر خوسيه اسم الوحدة التي غادرت منها الأعداد السابقة، وحدة «هنري ريف». الوحدة صُممت من البداية لتكون خط الدفاع الأول ضد الطوارئ الطبية، وتمتاز بالاستجابة السريعة والمُنظمة لحالات تفشي الأمراض والكوارث الطبيعية. أنشأها الزعيم الكوبي فيدل كاسترو منذ 15 عاماً. وسُميت نسبةً إلى جنرال أمريكي الأصل كوبي الهوى، حارب في حرب الاستقلال الكوبية الأولى.

ربما وضعت جائجة كورونا اسم كوبا ووحدتها على عناوين الأخبار الحالية، لكن المفاجأة أن الوحدة فاعلة منذ تاريخ إنشائها عام 2005. وفقًا لاعتراف منظمة الصحة الأمريكية فإن الوحدة  حتى عام 2017 كانت قد ساعدت 3.5 مليون شخص في 21 دولة مختلفة تعرضت لكوارث متباينة مثل الزلازل والفيضانات، وحالات أوبئة سابقة مثل تفشي الإيبولا في غرب أفريقيا عام 2014.

بعثات كوبا أقوى من «كورونا»

وثائقي عن الطب في كوبا

للوهلة الأولى سيقع في ذهنك تصور أن كوبا بالتأكيد لم تصبها أزمة كورونا، لذا تقوم بمساعدة الآخرين. لكن حتى لحظة كتابة هذا التقرير فإن كوبا سجلّت رسميًا 620 إصابة بفيروس كورونا، من بينهم 16 وفاة، وأجرت 13162 اختبارًا. حتى لو كانت إصابة واحدة، فهذا يعني أن الفيروس قد حط رحاله على الأراضي الكوبية وأنه سيبدأ بحصد ضحاياه تباعًا، وعلى الحكومة أن تستعد للأسوأ، لا أن ترسل طواقمها الطبية للخارج. لكن الواقع يقول إن كوبا بالفعل مستعدة لمواجهة الوباء، بجانب أن إرسال الفرق الطبية للخارج ليس فعلًا عفويًا بل سياسة طويلة الأمد.

سياسة وضعت كوبا حجر الأساس فيها عام 1959 ضمن بنود ثورتها، أن تكون الرعاية الطبية المجانية حق للجميع، كما وضعت ضمن بنودها أن تكون الدولة مستعدة لإرسال فرق لدعم الدول الأخرى. البنود النظرية بدأتها كوبا فعليًا عام 1960 حين أرسل كاسترو، الذي تولى الرئاسة لتوّه، فريقًا طبيًا إلى تشيلي بعد أن ضربها زلزال مدمر. ثم عام 1963 أرسلت كوبا خبراء وعاملين طبيين لمساعدة الجزائر حديثة الاستقلال لبناء منظومتها الصحية بالكامل.

بوصول الأطباء الكوبيين للجزائر تكون كوبا قد نجحت في كسر العزلة التي فرضت عليها، وذلك من أهم الدوافع وراء حرص كوبا على دبلوماسيتها الطبية حتى الآن. فعام 1962 تم طرد كوبا من منظمة الدول الأمريكية وفُرض عليها حصار اقتصادي، لكن التواصل مع الجزائر عبر الأطباء أخرج الدولة من عزلتها ومنحها متنفسًا اقتصاديًا، ولا تزال علاقات ثورتي الجزائر وكوبا قويةً حتى اليوم بفضل مبادرة كوبا.

حتى الدول الفقيرة التي لا تستطيع دفع كلفة الأطباء الكوبيين فإن كوبا تطالبهم بمقابل يتناسب مع مقدرتهم المادية. بذلك تضمن كوبا عددًا من الدول يقفون بجوارها حال تعرضها لضغط من الولايات المتحدة أو أوروبا، كما ترفض تلك الدول أن تكون عصًا أو حليفًا لأي جهة تضر كوبا بشكل مباشر.

تُصدر الأطباء وتستورد الإنجازات

كوبا ترسل أطباءً لإيطاليا

هوجو تشافيز، الرئيس الفنزويلي السابق، كان هو من طوّر النظام الطبي الكوبي بصورة غير مباشرة. فحين وصل إلى السلطة طلب من كوبا أطقم طبية لمساعدته في ثورته، وفي مقابل ذلك سوف تحصل كوبا على النفط الفنزويلي بثمن أقل من السوق. في اللحظة التي قالت فيها فنزويلا: سوف ندفع مقابل المساعدة الطبية، ووُضع مصطلح «النفط مقابل الأطباء»، أدركت كوبا أن الأطباء يمكن أن يكونوا مصدرًا لا ينضب للدخل القومي. وفي أول 10 سنوات من برنامج «النفط مقابل الأطباء» أرسلت كوبا 30 ألف كادر طبيّ إلى فنزويلا.

ثم تبلور الأمر في الذهن الكوبي أكثر فأكثر، بدلًا من إرسال أطباء وقت الأزمات فحسب، لماذا لا يتم ابتعاث فرق طبيّة دائمة في عدد من البلدان، على أن تدفع تلك البلدان المقابل نقدًا بالعملة التي تُحددها كوبا. نجحت تلك الفكرة واستطاعت كوبا بناء قواعد طبيّة لها في دول عدة على رأسهم قطر والبرازيل والإكوادور، وغالبًا ما يتم الدفع لهم بالدولار الأمريكي. ومن بداية الفكرة عام 1960 حتى عام 2010 كانت كوبا قد أرسلت قرابة نصف مليون طبيب كوبي للخارج.

استثمار كوبا في القطاع الصحي لا يقتصر على العنصر البشري فحسب، بل التكنولوجيا كذلك. النظام الطبي الكوبي مؤمن تمامًا بمقولة «الوقاية خير من العلاج»، لذا ففي أوقات انتشار الأوبئة المعدية مثل حمى الضنك أو الالتهاب السحائي انشغل الكوبيون بتطوير لقاحات ناجعة لها.  نجحت كوبا في بعض محاولاتها مثل أنها كانت أول دولة في العالم والوحيدة حتى فترة طويلة تمتلك علاجًا للالتهاب السحائي، وما زالت قيد العمل في محاولات أخرى كبعض العلاجات التي تساهم في تقليل انتشار سرطان الرئة، و أخرى تقلل من احتمالية بتر الطرف في مصابي القدم السكري.

كما كان لها دور بارز في علاج فيروس نقص المناعة المكتسب، الإيدز، والفيروسات الكبدية بعلاج «إنترفيرون ألفا 2 بي». العلاج ذاته يُعطى حاليًا لمرضى «كورونا» لكن لم يتم الإعلان رسميًا عن نجاحه أو فشله. أيضًا في حالة الإيدز كانت كوبا أول دولة في العالم تستطيع منع نقل العدوى من الأم الحاملة للفيروس إلى جنينها. اعترفت منظمة الصحة العالمية عام 2015 رسميًا بهذا الانجاز التاريخي لكوبا.

وإحصائيًا فإن كوبا رغم الحصار الاقتصادي المفروض عليها تمتلك معدّلات تُنافس أغنى دول العالم. المتوسط العالمي لحالات الوفاة هو 42 وفاة لكل 1000 ولادة، لكن في كوبا فالمعدل هو 6 حالات وفاة فقط لكل 1000 ولادة. كذلك فإن متوسط عمر الفرد فيها قريب من متوسط عمر الفرد في الولايات المتحدة، 79 سنة.  تلك الإنجازات ترجع لأن كوبا تمنح الصحة 10.57 % من ميزانيتها القومية، الاتحاد الأوروبي يضع ميزانية قدرها فقط 10% على الرغم مما بينه وبين الدولة الكوبية من بونٍ واسع.

الصورة الوردية لا تكتمل

صورة وردية لمنظومة طبيّة، ربما أكثر وردية من أن تتناسب مع عالم واقعي. وأول ما قد يُعكر وردية الصورة حال الطب داخل كوبا. رغم أن كوبا من أعلى الدول في العالم في نسب الأطباء، 100 ألف طبيب يخدمون 11 مليوناً فقط، إلا أن بعض الشكاوى ارتفعت عن سوء جودة الخدمات الصحية. انخفاض الجودة أمر متوقع في ظل الأزمات الاقتصادية التي تعيشها كوبا، خاصة مع الحصار الاقتصادي الأمريكي المفروض عليها بسبب دعم كوبا لحكومة نيكولاس مادورو في البرازيل. وما يتبع الحصار من صعوبة استيراد معدات طبيّة جيدة أو توفير سيولة لبناء بنيّة تحتية قوية.

كذلك من عيوب منظومة الصحة الكوبية كونها تنقسم للمستويين، خاص وعام. فالحكومة توفر عيادات حكومية لكنّها مخصصة للسياح والسياسيين وكبار الشخصيات. أما الكوبيّون العاديون فتروى بعض التقارير أنهم يضطرون أحيانًا للاستعانة بأصدقاء من الخارج أو للسوق السوداء طلبًا للعلاج. أيضًا يلفت مكتب الإحصاء الوطني الكوبي النظر إلى أن أعداد الأطباء داخل كوبا رغم كثرتها فإنها تُعتبر منخفضة عن السابق بنسبة تبلغ 62%.

أما عما قد يُعكر صفو الإنجازات الكوبية الخارجية فبقليلٍ من البحث ستجد أحاديث عن جانب آخر مظلم لتلك المنظومة، الاستغلال. هيئات حقوقية كوبية اتهمت الحكومة أنها تستغل أطباءها بتلك المبادرات الدولية. خاصةً عندما ذكر بعض الأعضاء السابقين في البعثات الخارجية أنهم يضطرون للعمل في بيئة غير آمنة، وأن أنفاسهم تُحصى عليهم من قبل الحكومة. زاد من حنقهم أن الفرد منهم يتقاضى 25% من راتبه كحد أقصى من الدولة المضيفة، بينما يُرسل الباقي من الحكومة المضيفة إلى الحكومة الكوبية مباشرة.

هذه ليست حرباً بين البشر، إنها حرب من أجل حياة البشر، حرب ضد الأمراض، ضد تكرار الكوارث، وأحد الأشياء الأولى التي يجب أن يتعلمها هذا العالم، خاصةً الآن، مع التغييرات التي تحدث ومع الظواهر من ذلك النوع ، هو التعاون.
كلمات فيديل كاسترو- بعد رفض الولايات المتحدة عرضه عام 2005

كذلك تقول بعض الإحصاءات إن 7000 فرد قد انشقوا من البعثات الكوبي خلال آخر عشر سنوات. تلك المعلومات قد تحوم حولها علامات الاستفهام كون مصدر أغلبها هو الهيئات الأمريكية، وأمريكا وكوبا لا يتفقان. علاقات متوترة تجمع البلدين منذ عشرات السنين، ودائمًا ما تصف الولايات المتحدة تلك البعثات بأنها عمليات «تهريب للبشر»، ودعت دول العالم لعدم قبولها. أيضًا رفضت الولايات المتحدة بشكل قاطع العرض الكوبي بإرسال أطباء لمساعدة أمريكا عام 2005 بعد أن عصف بها إعصار كاترينا.

اطردوا الـ«عبيد الكوبيين»

كيف أصبح أطباء كوبا مصدر الدخل الأول لها؟

الكلمات الأمريكية لاقت صدى عند بعض الحكومات مثل البرازيل والإكوادور وبوليفيا، فبدأت بتخفيض أعداد الأطباء الكوبين فيها تدريجيًا منذ عام 2019. فنقص العدد من 50 ألفاً عام 2016 إلى 28 ألفًا فقط في أوائل عام 2020.  البرازيل لم يكن الأمر فيها تدريجيًا بل أمر مباشر أصدره الرئيس اليميني المتطرف جاير بولسونارو، بولسونارو اتصل بالـ«عبيد الكوبيين» كما سماهم وطلب منهم المغادرة لأن وجودهم يُغذي «الديكتاتورية الكوبية». الاتفاق الكوبي البرازيلي عقدته الرئيسة السابقة ديلما روسيف، وكانت البرازيل تدفع بموجبه 360 مليون دولار للحكومة الكوبية سنويًا في مقابل وجود 8300 طبيب كوبي في البرازيل.

لكن الرد على تلك الكلمات كان أمريكيًا أيضًا، جيل ريد أمريكي ومؤسس «منظمة التعاون الطبي مع كوبا» قال: إن ما تقوله الولايات المتحدة لا يتعدى كونه مزاعم، ويُعتبر إهانة للطرفين. ريد يقول إن البرامج الكوبية تم تأسيسها على أساس شرعي ودولي يستند لقوانين الأمم المتحدة. وأضاف أن الحصول على المساعدات الطبية حق من حقوق الإنسان، وأن الولايات المتحدة ترتكب جريمة بمحاولة إعاقة المساعدات الكوبية لأي سبب. 

السبب الأساسي لقيام الولايات المتحدة بذلك هو أنها تحاول تجفيف مصادر العملة الصعبة للحكومة الكوبية. خاصةً وأن أطباء كوبا في الخارج يجلبون لها دخلًا قُدر في عام 2014 بـ8.3 مليارات دولار، أي أعلى من دخل كوبا من السياحة.

بجانب الدبلوماسية الناعمة والدعم الاقتصادي فإن الأطباء أنفسهم يفضلون السفر للخارج في البعثات التي ترسلها كوبا. فبالتأكيد تتحسن أوضاعهم المادية بصورة أكبر من بقائهم في بلادهم، والأهم أنهم يحصلّون خبرة جديدة. وتلك أيضًا تمثل دافعاً من أهم الدوافع التي تجعل كوبا تحرص على الاستمرار في إرسال بعثاتها، المواكبة العلمية.

بوجود عشرات الآلاف من الأطباء في دول مختلفة يتعلم كل منهم مهارةً جديدةً ويطلع بصورة مباشرة على أحدث ما أنتجته الدول الأخرى ويتلقى تدريبًا وافيًا في تلك الدول، ثم تنتهي مدة الابتعاث وتطلبهم كوبا ليعودوا إليها مرةً أخرى مُحمّلين برصيد هائل من المعلومات الجديدة التي تستفيد منها الدولة.

هكذا استطاعت كوبا على مدار ما يقرب من سبعين عامًا حتى الآن التغلب على عزلتها الإجبارية بطريقة مبتكرة، واحتلت بجيش المعاطف البيضاء بلدانًا لم تتمكن قوات كاسترو ولا أفكاره من التغلل فيها، واستطاع التعليم الجيد أن ينتشل البلد الضائع من الفقر والحصار إلى بلد ذي دخل ضخم وريادة علمية وعلاقات دبلوماسية جيدة مع العديد من الدول.