في 5 يناير/ كانون الثاني 2022 فرضت الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات اقتصادية على ميلوراد دوديك الزعيم الصربي للبوسنة. دوديك عضو في الرئاسة الجماعية للبوسنة، لكنه عبر خطاباته العديدة وقناة التيرناتيفنا التلفزيونية التابعة له يعمل على بث خطاب تحريضي يحث على انفصال الصرب عن البوسنة.

تجاوز الأمر مجرد الخطابات الرنانة إلى بدء خطوات دستورية في الانفصال. ففي ديسمبر/ كانون الأول 2021 حصل الرجل على موافقة برلمان صرب البوسنة على الانفصال. تجدر الإشارة إلى أن قرارات دويك تُمَرَّر في البرلمان الصربي بالحد الأدنى فحسب. فغالبية السياسيين يمتنعون عن الموافقة عليها، إلا أنهم يتوافقون معها أيديولوجيًّا. لكن في نفس الشهر منح البرلمان حكومة جمهورية صرب البوسنة، صربسكا، 6 أشهر للبدء في الانسحاب في 3 مؤسسات فيدرالية سيادية، الجيش والقضاء والضرائب. كما يتحدث دوديك عن 140 مؤسسة حكومية يريد إزالتها وإلغاءها تمامًا.

دوديك المتهم باستغلال منصبه الرئاسي لجمع ثروة غير شرعية لا يبدو مكترثًا بالعقوبات الأمريكية ولا بالتنديد الدولي تجاه ما يقوم به. فالرجل يريد أن يحطم اتفاق دايتون للسلام الذي أنهى النزاع في يوغسلافيا السابقة عام 1995. تحطيم الاتفاق يعني زعزعة استقرار البوسنة والهرسك، والمجازفة باشتعال المنطقة بأسرها. بعد أن دخلت سلامًا هشًّا بعد حرب أودت بحياة 100 ألف فرد. لكن دوديك، وغالب قادة الصرب، دائمًا ما يهوِّنون من تلك الأرقام. كما يكاد دوديك ينكر حدوث مجزرة سربرنيتسا التي قتلت فيها القوات الصربية البوسنية ثمانية آلاف مسلم من رجال ومراهقين.

 لكن دوديك، المدعوم روسيًّا، لا يبالي. دوديك، 62 عامًا، يتزعم صربسكا منذ 15 عامًا. كان الرجل اشتراكيًّا ديموقراطيًّا في البداية، لكنه استحال في الأعوام الأخيرة لقومي متطرف. وبات يرى أن البوسنة دولة فاشلة وتجربة غربية معطوبة؛ لذلك فالرجل يريد أن يستقل بإقليمه البالغ نصف مساحة البلاد، رغم أنه في مفاوضات دايتون قد حصل الصرب على كيانهم المستقل وحكمهم الذاتي بصورة شبه كاملة.

من الديمقراطي إلى المتطرف

في فترة الحرب البوسنية كان دور دوديك معتدلًا، فكان هو صوت المعارضة المعتدلة في برلمان صرب البوسنة. كما وقف في وجه الحزب الديمقراطي الصربي الداعم لجرائم الإبادة. معارضة دوديك أثمرت تحالف الديمقراطيين الاجتماعيين الأحرار عام 1996، وهو نفس الحزب الذي يقوده دوديك الآن.

التحالف تبنى التوجه الإصلاحي. واستطاع دوديك، لاعب كرة السلة السابق، من خلاله أن يبرز كاسم جديد بريء من الدماء التي لطخت جميع السياسيين الصرب. لذلك حصل الرجل على دعم غربي في فترة ما بعد الحرب. وعبر ذلك الدعم فاز الرجل برئاسة الوزراء عام 1998، وعمل بمساندة غربية على تهميش القوميين المتطرفين.

كما احتفت به الصحف الدولية فوصفته بعرَّاب الدعم المالي الأوروبي للجمهورية الجديدة. ووُصِف كذلك بأنه الصوت الذي عارض الحرب داخل برلمان الصرب، واحتفظ بعلاقات جيدة مع مسلمي البلاد، وما يجنيه من مساعدات مالية ليست إلا ثمار اعتداله. وظل دوديك في اعتداله المعروف طوال ولايته الأولى لرئاسة الوزراء.

لكن في الولاية الثانية، 2006 إلى 2010، بدأ شخص مختلف يطغى على السطح. وبدأ التحول الأيديولوجي في شخصيته يظهر أمام الجميع. لم يصبح الرجل قوميًّا فحسب، بل بدأ يُزايد على القوميين أنفسهم، فأصبح أشد تطرُّفًا من متطرفيهم، لدرجة أنه أصدر قرارًا بطرد القضاة المسلمين من محاكم الجمهورية الصربية، مدعيًا أنهم يتآمرون على الصرب.

 كما أنكر سربرنيستا ووصفها بالأسطورة التي ابتدعها البوسنيون كي يبنوا هويتهم. وبذلك أصبح الرجل أقوى سياسي في البلاد، فلم يكن من المستغرب فوزه بالانتخابات الرئاسية عام 2010. ومنذ تلك اللحظة والرجل يحاول الاستقلال بالبلاد ليكون هو رئيسها الأوحد.

وليضمن فوزًا جديدًا نصب نفسه عام 2019 رئيسًا للجنة الاستقصاء التاريخي، لجنة أنشأها هو أيضًا، للبحث حول وقوع سربرنيستا من عدمه. وجعل على رأس اللجنة بعده الأكاديمي الإسرائيلي جدعون جرايف. وبالطبع انتهت اللجنة إلى هدم وقوع مثل تلك المجزرة من الأصل.

ليس صاحب القرار

لكن يبدو الرجل جريحًا بعد أن اكتشف انهيار شعبيته في الانتخابات البلدية عام 2020. لهذا تبدو تهديداته مخيفة رغم عدم عقلانيتها، ورغم التحذيرات الدولية الموجَّهة له. لذلك أخذت تهديداته وخطواته زخمًا هذه المرة، فقد بات واضحًا أن الرجل مستعد أن يمضي في تهديداته نحو النهاية، بعد أن كان الأمر مقتصرًا في المرات السابقة في الخطابات فحسب.

دوديك كان في البداية يعول على الدعم الغربي له. ولما كان ذلك الدعم يحتاج من الرجل اعترافًا بالمجزرة وعقابًا لمرتكبيها فعل ذلك. لكن حين تغير ولاؤه إلى روسيا، فبات مطلوبًا منه العكس، وهو ما فعله أيضًا. وفي تصريح له قال إنه إذا حاول أي شخص إيقافه أو إيقاف الانفصال، فإن له أصدقاء سوف يدافعون عنه، يقصد بذلك الجيش الروسي. ووجود روسيا لا يبدو كدعم فحسب، بل هي من تتخذ القرار في الأمر. لهذا كان موقف دوديك في الاجتماعات مع زعماء الاتحاد الأوروبي غريبًا وغير منطقي.

حاول الأوروبيون تقديم تنازلات كثيرة للرجل، مثل تقليص سلطة المندوب السامي التابع للاتحاد الأوروبي، أو عزل القضاة الأجانب الثلاثة من المحكمة الدستورية للبلاد، أو تعميم مقترحاته بتطبيع العلاقات مع بلاد البلقان. فرغم كل ذلك لم يتراجع الرجل أو يفاوض على المزيد. ما أوحى لكل القادة بأنه ليس من يتخذ القرار في هذه المسألة. فالاتحاد الأوروبي لا يريد أزمة جديدة في جنوب شرق أوروبا المشتعل بالفعل. فلا يمكن للاتحاد الأوروبي أن يحتمل تدهور الأوضاع في البوسنة، بجانب الأوضاع المتدهورة  في أوكرانيا وبيلاروسيا وأفغانستان.

روسيا تحاول تأجيج الصراعات العرقية في البوسنة، كونها تقع على خط التقاطع مباشرة بينها وبين الناتو. وروسيا تريد التأكد من أن البلاد لن تفكر في الانضمام للناتو، وأن الناتو سيدرك أن مغارم ضمها إليه ستكون أكبر من المغانم؛ ولذلك نرى تخلي روسيا عن مبدأ عدم التدخل، علنًا، في شئون البوسنة إلى تحذير علني وصريح إلى البوسنة بشأن محاولات الانضمام للناتو.

روسيا ترفض التحرك الدولي

وفي المقابل لم يبدر من الناتو سوى عبارات الندم. فقد أعربت مصادر عديدة في الاتحاد الأوروبي عن ندمها واعترافها بفشل الغرب في اتخاذ خطوات جادة واستباقية ضد الأصوات التي ساعدت على إذكاء الخطاب الانفصالي منذ البداية. فدوديك كان يتحدث عن الانفصال منذ عام 2006، ولم يُتَّخذ أي إجراء رادع ضده. بل جرى استرضاؤه على مدى تلك الأعوام، لكن دون فائدة.

يسيطر شبح الخوف من الانزلاق لحرب جديدة على الأجواء. فبلاد البوسنة والهرسك هي في الأصل تتكون من كيانين منفصلين تجمعهما حكومة مركزية. لكن رغبة دوديك هذه المرة في فض المركزية والخروج من كل كيان مشترك قد تؤدي بالبلاد إلى حرب عرقية جديدة. أو حتى أن تكون مسرحًا لحرب بالوكالة بين روسيا، عبر دعم قوات دوديك، والناتو وقوات حفظ السلام.

خصوصًا أن روسيا ترفض الموافقة على أي تحرك يقوم به مجلس الأمن تجاه الأزمة الراهنة. حتى الإبقاء على قوات حفظ السلام توافق عليه روسيا لكن بشرط رفع اسم المندوب السامي الدولي من نص القرار. وهو ما يرفضه مجلس الأمن، إذ إن ذلك سوف يقوض موثوقية المكتب السامي، وهو أكبر مكتب حاليًّا في البوسنة ولديه سلطة إصدار القوانين.

ولن تكون حربًا نظيفة كما لم تكن حرب ما قبل دايتون نظيفة. ويمكن قراءة ذلك من إنكار غالبية الصرب للمجازر التي ارتكبها أسلافهم. كما أن سبب تفجُّر الأزمة الراهنة هو التشريع الذي فرضه مكتب المفوض السامي بسجن أي شخص ينكر حدوث الإبادة الجماعية التي ارتُكِبت في حق مسلمي البوسنة. ودوديك قال بخصوص هذا القانون إنه مسمار في نعش البوسنة، وإن الصرب لا يملكون خيارًا إلا الشروع في الانفصال.

الهدوء لا يعرف طريق البوسنة

المأساة المرتقبة أنه حتى لو لم تنزلق البلاد لحرب فعلية فتلك الخطابات يمكن أن تدفع الأشخاص العاديين لمهاجمة بعضهم بعضًا. وقد تؤدي إلى الهجرة القسرية لمسلمي البوسنة من بعض المناطق الصربية. فالانفصال عن البوسنة لا يمكن أبدًا أن يحدث في سلام. بل سيخلق أزمة لاجئين ونازحين، وقد نشهد فرارًا جديدًا لأهل البوسنة نحو الجبل الأسود. ومنطقة الجبل الأسود لم تكن مرحبة أبدًا بطالبي اللجوء الرسميين، وبالتأكيد لن تفتح أحضانها لنازحين وفارين من الحروب.

الاتحاد الأوروبي يقف مكتوفًا أمام هذه الأزمة. فكل عقوبة ضد دوديك والانفصاليين تعني اقترابهم من روسيا أكثر فأكثر، والتهاون معهم يعني دخول البلاد في حرب عرقية. لهذا يعول الكثيرون على الدور التركي في تلك الأزمة.

 فقد التقى أردوغان في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 بكر عزت بيجوفيتش، رئيس مجلس الشعوب البوسني. والتقى قبلها في سبتمبر/ أيلول 2021 ألكسندر فوتشيتش، رئيس صربيا. كما ستشهد أنقرة اجتماعًا لكل ممثلي البوسنة والهرسك وفيهم دوديك. والتعويل على تركيا ينبع من احتفاظها بمسافة واحدة من غالب الأطراف. كما أنها على علاقات جيدة مع بوتين والاتحاد الأوروبي أيضًا.

لكن دوديك لا يساعد على ذلك الهدوء. ففي 10 يناير/ كانون الثاني 2022 خرج الآلاف من صرب البوسنة إلى شوارع بانيا لوكا احتفالًا بالذكرى الثلاثين للاحتفال بعيد الدولة، رغم أن المحكمة الدستورية قضت بعدم الاحتفال به. 2700 شخص شاركوا في الاحتفال، بينهم قوات الشرطة والحماية الخاصة والمحاربون القدامى والرياضيون ورئيسة جمهورية سربسكا زيليكا تشفيجانوفيتش ووزير الداخلية الصربي ألكسندر فولين.

يوم الدولة هو ذكرى نفس التاريخ من عام 1992 الذي أعلن فيه صرب البوسنة استقلالهم، ما أشعل حربًا أدت لمقتل 100 ألف شخص. ذلك الاحتفال يُعد بمثابة محاولة من دوديك لتجييش صرب البوسنة. وإظهار أن بإمكان بلاده الحصول على جيش مستقل بعيدًا عن الجيش الموحد، هذا الجيش المستقل ستكون نواته صرب البوسنة الذين يخدمون بالفعل في الجيش النظامي. وقد ارتفعت التقارير عن وجود السلاح في أيدي صرب البوسنة إلى 750 ألف قطعة سلاح غير مرخصة.