ضربت أزمة انتشار فيروس كورونا (كوفيد-19) العالم على مستويات عدة، بدءًا من المستوى الفردي مُمثلاً في عادات الناس وسلوكياتهم، مروراً بمستوى الأنظمة الصحية وأداء الحكومات بأنواعها المختلفة، وانتهاءً بالنظام العالمي وديناميات الصراع والتعاون داخله. فهل ستتعامل الدول الديمقراطية مع الأزمة ضمن هياكلها وآلياتها القائمة أم ستمثل الأزمة فرصة لمعالجة المشكلات الهيكلية للديمقراطية ذاتها؟ تتضمن هذه المقالة موضوعات رئيسة متصلة بهذا السؤال.

ما الذي كشفته الأزمة؟

تضرب الأزمة التصور الذي يرى أن النظم الديمقراطية تتمتع بالكفاءة في تقديم الخدمات وإدارة الأزمات في جميع الأوقات، وتكشف كذلك عدم صحة القول بأن أوروبا وأمريكا في مأمن من الأوبئة بعد عقود من الشعور بالأمان والثقة جرّاء توفر شبكة من الحماية الاجتماعية.

هناك بلا شك أنظمة صحية متقدمة بالدول الغربية الديمقراطية، لكن هناك أيضاً تفاوتاً فيما بينها، فالأمر يعتمد على عوامل كثيرة ككفاءة المؤسسات ونوعية القيادات أثناء إدارة الأزمات، وحجم الثقة الشعبية في المؤسسات، وحجم الموارد المتوفرة وغير ذلك.

لكن العامل الأهم الذي تكشفه هذه الأزمة هو المشكلات الهيكلية في نظم الإدارة والحكم الديمقراطي، وعنوانها العريض هو تغييب قيمتي العدل والإنصاف في إقامة الأنظمة والمؤسسات وفي إدارتها.

فمن الناحية السياسية، ترسخ الديمقراطية الليبرالية الحالية عقداً اجتماعياً لا يُقيم العلاقة بين الشعوب والحكومات على نحو عادل، فالحكم باعتباره وظيفة لخدمة المصلحة العامة ليس هكذا دوماً، ولا مكان في السياسة إلا للأقوياء.

هذا الخلل الجوهري فكري وهو سبب أساسي لفتح المجال أمام ظهور مشكلات أخرى كالفساد السياسي وصعود اليمين الشعبوي وتراجع الأحزاب وضعف التمثيل وسيطرة الشركات الكبرى وفقدان الثقة في المؤسسات وضعف الحكامة الديمقراطية وتسييس مؤسسات الخدمة العامة وأمننة قضايا لا يجب أن تكون أمنية وغير ذلك.

ومن ناحية الاقتصاد، حوّل النظام الرأسمالي خدمات الصحة والتعليم إلى سلعٍ للتربح وضَرَبَ النقابات وأضرّ بحقوق العمال، وصارت إدارة الاقتصاديات الوطنية لا تقوم على سياسات عامة منصفة ولا توزيع عادلاً للإنفاق العام. كما أضرت سياسات الخصخصة ملايين الناس حول العالم.

في الولايات المتحدة، يُعرقل النظام الرأسمالي إنتاج اللقاحات طالما لا يوجد ربحٌ كبير من ورائها، بينما يأخذ الإنفاق العسكري نحو 934 بليون دولار من مجمل الانفاق العام وقيمته 4.8 تريليون دولار، أي نحو 20%، في السنة المالية 2020-2021.

ووصلت هذه النظرة المادية الطاغية إلى مطالبة كبار السن بالاستعداد للتضحية بالنفس حتى لا يتضرر الاقتصاد، كما صرّح أحد المسئولين الكبار بولاية تكساس الأمريكية في 24 مارس/آذار 2020.

أمّا إدارة العلاقات والمنظمات الدولية، فتقوم بشكل واضح على شريعة الغاب وسياسات الهيمنة الأمريكية والمعايير المزدوجة في التعامل مع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان. هذا بجانب نظام الفيتو بمجلس الأمن والفساد في المنظمات الدولية. أما آليات التجارة الدولية والديون والاستثمار الخارجي فقد صُممت لخدمة الأغنياء والأقوياء في المقام الأول، مع الحفاظ على الحد الأدنى للضعفاء، الذي يمنعهم من الرفض والمطالبة بالتغيير أو الثورة. وقد عانت منطقتنا كثيراً من كل تلك السياسات.

تراجع الديمقراطية

تُعزّز تداعيات الأزمة ظاهرة تراجع الديمقراطية وصعود البدائل التسلطية للصين وروسيا والحكومات العسكرية والدول البوليسية. فهي تفرض، ككل الأزمات الكبرى، أوضاعاً استثنائية، تقتضي بدورها اتخاذ إجراءات استثنائية. والخطر الأكبر هنا هو تحول الاستثناء إلى قاعدة بعد انتهاء الأزمة عبر دمج بعض الإجراءات الاستثنائية ضمن الأطر الدستورية والقانونية القائمة.

وما يقوم به الكثير من الحكام، بما في ذلك في الدول الديمقراطية، هو استغلال الأزمة لتحقيق مصالح أيديولوجية أو سياسية ضيقة، مما أدى إلى تداعيات جمة على مستويات عدة.

فهناك تضييق على الحريات والحقوق، إذ تعيش 84 دولة تحت قوانين طوارئ من نوع ما، يتم بموجبها توسيع صلاحيات السلطات التنفيذية، وحظْر التجمعات، وتعطيل عمل البرلمانات تقريباً، والسماح باحتجاز الناس إلى أجل غير مسمى، وإيقاف المظاهرات والاحتجاجات، واستهداف الأقليات كما يحدث مع المسلمين في الهند وسيرلانكا، ومع المهاجرين في الغرب.

ويتم قمع الصحافة والإعلام بحجة منع نشر الشائعات. وبالرغم من أن فرض نظم رقابة متشددة تعتمد على الذكاء الاصطناعي والتطبيقات التكنولوجية وكاميرات المراقبة -كما يحدث في الصين وكوريا الجنوبية والدولة الصهيونية– نجح في الحد من انتشار الفيروس، لكنه يثير العديد من المخاوف بشأن استغلال تلك الطرق لقمع المعارضين والأقليات وانتهاك حقوق الإنسان بشكل واسع. ومع منح الجيوش صلاحياتٍ واسعة لضمان تنفيذ الصلاحيات الاستثنائية، ثمة مخاوف من أن يفضي هذا إلى عسكرة المجتمعات وتغيير أنماط العلاقات المدنية-العسكرية القائمة.

هذا بجانب هجوم السياسيين على خصومهم وتعميق الاستقطاب كما يحدث في الولايات المتحدة والبرازيل والمجر والهند. فضلاً عن استبعاد المعارضين وتمرير تشريعات من دون نقاش حقيقي كما حدث في بولندا وسيرلانكا وحديث ترامب عن وقف الكونغرس. وفي بعض الدول يتم سحب قضايا إلى مساحة الجدل حول كورونا بينما لا علاقة لها بالأزمة، كمحاولة إحياء تشريعات خلافية في بولندا، ووضع قيود على المسلمين في سيرلانكا والهند.

ومن المتوقع أيضاً أن يكون للتداعيات الاقتصادية الحالية تداعيات أخرى على السياسة في المستقبل القريب في الدول التسلطية والديمقراطية على حد سواء، مثل عدم الاستقرار السياسي وإسقاط حكومات وانقلابات عسكرية واندلاع الحروب.

وفوق ما تقدم، فإن من أخطر التداعيات شيوع رواية أن النظم التسلطية أفضل من الديمقراطية في إدارة الأزمات. ولهذا إذا لم تتحرك الديمقراطيات لمواجهة هذه الرواية عبر معالجة جذور المشكلات التي كشفتها الأزمة فإن مستقبل الديمقراطية سيكون سيئاً. وعلينا تذكر أن الكساد الكبير بين الحربين العالميتين أدى إلى موجة من الحكم الشمولي وتصاعد العنف.

فرصة إعادة البناء

التفاعل مع الأزمة وتداعياتها ليس بالأمر السهل، وسيتوقف عالم ما بعد الأزمة على عوامل عديدة، أهمها الحد من انتشار الفيروس وتقديم العلاج له من جهة، والتعامل مع المشكلات الهيكلية التي فاقمتها طريقة التعامل مع الأزمة من جهة أخرى. وسيحتاج الأمر بلا شك إلى الكثير من التفكير في معالجات سريعة وأخرى طويلة المدى.

هناك أولاً معالجات عاجلة، أهمها جعل الإجراءات الاستثنائية محل نقاش دائم في المجال العام من أجل ضمان أنها مؤقتة، وأنها تتم تحت رقابة البرلمانات والمجتمع المدني والإعلام الحر، وأنها تتصل بما تتطلبه معالجة الأزمة فقط. ومن الضروري –بمجرد رفع القيود على الحركة– المبادرة بعمليات تعبئة شعبية في الشارع لمواجهة المشكلات الهيكلية التي كشفتها الأزمة وطرحها للنقاش في المجال العام والتفكير في سبل معالجتها.

ولا يجب أن يكون موضوع النقاش هو الاختيار بين الديمقراطية والاستبداد. وفي الواقع، لا تقدم الصين والدول الاستبدادية الأخرى أي نموذج للتعامل مع هذه الأوضاع المختلة لأن اهتمام هذه الدول منصبٌ على البقاء والأمن على حساب الإنسان وحرياته وعلى حساب قيمة العدل أيضاً.

وبشكل عام لا يوجد مزايا للاستبداد، وفي الحالات القليلة التي حقق فيها حكام مستبدون وعسكريون بعض الإنجازات كان هذا على حساب كرامة الإنسان وحقوقه، هذا عدا أن هؤلاء الحكام لم يقيموا مؤسسات حقيقية وظل جُل إنجازهم مرتبط بشخوصهم ومن ثم زال بانتهاء حكمهم.

وإنما النقاش لا بد أن يكون حول قدرة المؤسسات على العمل من أجل الخروج من الأزمة بأقل الخسائر الممكنة، وتحويل الأزمة إلى فرصة للبدء في معالجات جذرية وإعادة هيكلة النظام الديمقراطي ذاته على أسسٍ أكثر عدالة سياسياً واقتصادياً، على مستوى القيم والمؤسسات، وعلى نحو يضمن تمكين المواطنين وتوسيع مساحة الفعل الفردي والمجتمعي في المجال العام.

تمتلك النظم الديمقراطية -برغم مشكلاتها الهيكلية ومكامن الضعف في هياكلها وممارساتها الحالية- آليات للتطوير والتعديل، هذا بجانب أنها توفر قدراً من الحريات للشعوب لا توفره أي من الأنظمة الأخرى. وبالتالي فإن الحفاظ على الديمقراطية أولوية كبرى.

يمكن أن تكون الأزمة فرصة لمعالجة أزمات هذه الديمقراطية عبر التفكير في سبل توسيع صلاحيات المؤسسات البرلمانية والتمثيلية، وتعزيز الدور الرقابي للأفراد والمجتمع المدني، ومنع تسييس أجهزة ومؤسسات الدولة العامة وقطاعات أخرى في المجتمع، وتحييد المال السياسي، وتعزيز ثقة الناس في المؤسسات السياسية، ورقابة الانفاق والمال العام، وضمان الشفافية في تداول المعلومات وتعزيز الإعلام الحر وتخليص وسائل التواصل الاجتماعي من التلاعب الذي تقوم به الأنظمة التسلطية والشركات الكبرى، وتعزيز استقلال القضاء والجامعات ومراكز الأبحاث والمجتمع المدني والأهلي.

وسيتطلب الأمر عدم الاكتفاء بإصلاح المؤسسات الديمقراطية القائمة فقط، وإنما التفكير جدياً في أمرين أساسيين، الأول، تغيير منظومة القيم الحاكمة للنظم الديمقراطية بما يسمح بتعزيز قيم التعددية وتمكين المجتمع ونبذ الهيمنة، والثاني، إنشاء آليات ومؤسسات جديدة للوصول إلى تلك الغايات بما في ذلك الآليات التي تعمل على المستوى العابر للدول وذلك لضمان الفاعلية والمتابعة ونقل الخبرات.

وثمة أيضاً أهمية لتعاون المنظمات والمؤسسات الدولية والإقليمية العاملة في مجال الديمقراطية والحكم الرشيد والشفافية والحريات، وتخصيص موارد أكثر من أجل دعم الديمقراطية وتبادل الدروس والخبرات.

في عالمنا العربي، تتحرك الشعوب منذ سنوات من أجل الكرامة والحرية والعدالة، إلا أن القوى الديمقراطية الغربية خذلتها، بينما احتضنت الدول التسلطية قوى الثورات المضادة، وهي اليوم تقدم الاستبداد كبديل للديمقراطية. ولهذا يكتسب النضال من أجل الديمقراطية أبعاداً جديدة، فهل سيعي العرب أنه لا مستقبل من دون منظومة قيمية راسخة، ومجتمع مدني قوي، ومؤسسات «حكم ديمقراطي» فاعلة ويمكن مراقبتها ومحاسبتها؟

وهل ستعي الدول الغربية أن المعايير المزدوجة في التعامل مع قضايا الديمقراطية تمثل خطراً على الجميع في ظل الحديث عن بدائل تسلطية لها، وأن الديمقراطية ذاتها تحتاج إلى «بيريسترويكا» شاملة تقدم نسخة جديدة لها، وتوقف سياسات الصين وروسيا التي تستهدف تقديم النظم التسلطية كنموذج يحتذى؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.