اسمه «ديديه دروجبا»، جاء ليقابل «ميشيل جوبا» في باريس.

رسالة وضعت على عنق طفل صغير وصل لتوه إلى مطار «تشارلز ديغول»

بالجزء الثاني من سلسلة الأفلام الكوميدية الأمريكية «وحيد بالمنزل – Home Alone»، فقد الطفل «كيفين» أثر أسرته في مطار مدينته المزدحم، لتكون المفاجأة غير السارة للعاملين بمطار نيويورك فور وصوله هناك وحيدًا بدون أي فرد من عائلته التي كانت جميعها على متن طائرة أخرى نحو فلوريدا.

هل تُدهشك قصة ضياع الطفل في هذه السن وحيدًا؟ يسعدني أن أخبرك أن في أفريقيا العديد من الأطفال يفقدون حنين أبائهم في أعمار أصغر ولكن بقصص أكثر قسوة وشقاءً.

في ثمانينيات القرن الماضي، وجد العاملون بمطار «تشارلز ديغول»، القريب من باريس، طفلاً أسمر اللون لديه من العمر ما يمكن عده على أصابع يد واحدة، معلقًا في عنقه تحقيق الشخصية الوحيد الذي يملك: اسمه واسم الشخص الذي جاء وحيدًا من بلاده إلى هنا ليقابله.

ترى، هل لو كان أحد من عائلة ذلك الطفل الأفريقي يملك جزءًا من الفراسة كان ليغير فحوى الجملة لتصبح: «اسمه دروجبا وجاء ليقلب قارتكم رأسًا على عقب»؟ لحسن الحظ، تكفلت السنون التالية بتعديل ذلك.


تذكرة ذهاب وعودة

لقد قال لي عندما كان صغيرًا: لا تقلقي، سأكون نجمًا.
«كلوتيلد دروجبا» والدة الأسطورة «ديديه دروجبا»

ظهر على شاشة ماكينة الكشف عن محتويات الحقائب بمطار «تشارلز ديغول»، حقيبة شبه بالية تحوي عددًا من الكتب متراصة في مستوى واحد، يخفي بأسفله كرة قدم فارغة من الهواء، كما لو أن صاحبها قد خبأها ليخفي بها شيئًا غير قانوني.

تلك الحقيبة تعود لطفل يظهر للمرة الثالثة في كاميرات المطار في عددٍ بسيط من السنين، بعمرٍ مختلف، لكن بنفس الملامح والهموم، عودة بسيطة إلى الوراء تكشف أنه نفسه الذي جاء قبل سنين مُعلقًا على صدره ورقة تؤكد أن اسمه «ديديه دروجبا».

ومن خلال جواز السفر، تبين أنه قد وُلد في الـ11 من مارس لعام 1978، محل الولادة في أبيدجان عاصمة كوت ديفوار. إنها ليست المرة الأولى له في باريس، والمؤكد أنه هنا مع نفس الشخص الذي جاء لأجله أول مرة: «ميشيل جوبا»، عمه الذي يعيش في مقاطعة «بريست» و يعمل كلاعب كرة قدم في أحد الأندية يُدعى: «ستاد بريستوا».

يبلغ عمره في هذه الأثناء 13 عامًا، قضى قبلها 8 أعوام رحلات ذهاب وعودة من وإلى دولة، ومن وإلى مقاطعات داخل نفس الدولة، التي تقع في قارة مختلفة عن مسقط رأسه. وبنسبه إلى أفريقيا، يمكن التأكد أن كونه وحيدًا يعود لأن التكلفة المطلوبة للسفر تجبر أسرته على اختيار شخص واحد للقيام بذلك. صغر سنه لا يمثل عائقًا هنا، بالعكس، ربما هو الوحيد في الأسرة الذي يملك فرصًا في مستقبلٍ قريب.

في ذلك العام بالتحديد، الذي يشار إليه في تقويم المطار بأنه 1991، كان قد فشل في تخطي عامه الدراسي. يُفسر ذلك إخفاءه للكرة داخل حقائبه، من المؤكد أن والديه قد منعاه عنها لأنها تعطله عن الدراسة.

في هذه المرة كانت الرحلة في جواز سفره تشير إلى مقاطعة «بواتييه»، في حين أن التي تلتها مباشرة كانت نحو «لو مان». لقد قرر شخص ما أن يُوقِع مع لاعب مغمور صغير السن ويعاني من إصابة غير معلوم نتيجتها. حقيبة هذه المرة لم تحتوِ على أي كتب، بل احتوت على مفكرة صغيرة لم تُلطخ أوراقها بأي حبر.

أملك لاعبًا جيدًا، أنا لم أره يلعب حتى اللحظة، لكن باريس سان جيرمان يحتاجه وهو في هذه السن، علينا التوقيع معه.

الفرنسي «ويسترلوب» مدرب فريق «لو مان» الذي لعب له دروجبا في صغره


شعلة لهب في النفق الضبابي

في ضواحي باريس المجاورة، كان قد بدأ ببطء في صناعة اسم لنفسه بعد فترات من اللعب على الهامش، ومن ثم نجح ابن الـ15 عامًا -حينها- في الحصول على عقد مع فريق «ليفالويس» لينضم لهم كلاعب كرة قدم، ومنه إلى «لو مان» في الدرجة الثانية الفرنسية.

خطوة واحدة بعد ذلك إلى «جانجو» كانت الفاصلة قبل أن يحط الرحال في مارسيليا، المكان الأقرب لقلبه منذ زيارته لجنوب شرق البلاد حيث ملعب «فيلودروم». بدت الأمور هناك أنها تميل للأبدية، كأن كل شيء صنع وخلق ليعيش في مارسيليا، كانت كوطنٍ جديد يعوضه ولو بجزءٍ بسيط عن حنينه لأبيدجان وأهلها، لكن الأمور تحولت سريعًا ووجد ديديه نفسه مرغمًا على الرحيل مرة أخرى من وطنه الآخر بدموع طفل على وجنتي بالغ لا يمكن أن يظهر له بكاء.

الطريق إلى لندن معروف للكافة، ضبابي حتى تنعدم فيه الرؤية. بدا ذلك كحلم خالجه في طائرته نحو التوقيع لتشيلسي. رأى نفسه يسير في نفقٍ مظلم بوجه عبوس، لا يدرك متى ينتهي، لكنه يرى في نهايته شيئًا ما، برتقالي اللون تستطيع من بعيدٍ أن تميزه، إنها لافتة محفور عليها: «أسطورة دروجبا».

وفي الخلفية، يحكي الراوي عن مجد لا يمكن تلخيصه في أسطرٍ بسيطة، بدأ من إعادة الرخاء لقطب لندن الأزرق بعد خمسين عامًا عجافًا. وانتهت بتلك اللافتة التي اختلف فيها الحكائون، البعض يقول إنها برتقالية اللون لتشبه ألوان كوتديفوار المحببة دائمًا لقلبه، والبعض الآخر يؤكد أن اختيار لونها قد جاء ليذكر الجميع دائمًا بأن جحيم الـ«أليانز» المزعوم قد انتهى على يد ذلك الفيل الأسمر.


الناجون من جحيم «الأليانز»

اهتزت أرجاء ألمانيا بالكامل بحلول مساء السبت، الـ19 من مايو عام 2012. وصلت أصداء الجماهير من ملعب «أليانز أرينا» حتى مطار ميونخ، لكن تلك الهزة لم تطل. تبعها صمت دام ساعات طويلة، تبينت أسبابه بمجرد أن وصلت بعثة فريق تشيلسي لإنهاء إجراءات العودة إلى لندن، لكن بحمولة زائدة: هي كأس دوري أبطال أوروبا لنفس العام.

بعد أن وصلت الرحلة إلى أرض الوطن بسلام، جاب طاقم الطائرة أرجاءها كافة للتأكد من عدم وجود أية متعلقات تخص الركاب. اكتشف أحدهم وجود 3 ورقات على مقعد المهاجم دروجا، بهم رسومات «كروكية» تشير إلى أحداث ذلك اليوم الخالد تقريبًا.

الأولى: كانت تشير إلى كأس دوري الأبطال يتوسط ملعبًا به كثافة حمراء كبيرة، تعود إلى جماهير بايرن ميونخ، وأخرى أقل كثافة والتي تشير إلى جماهير الـ«بلوز»، في حين ظهر هو في أسفل الرسمة بهيكل سيئ الرسم. إنها اللحظة الأولى له فوق أرضية ملعب «أليانز»، أو كما يفضل عشاقه أن يشيروا: لحظات ما قبل الجحيم.

الثانية: ظهر فيها المرمى به مجسم لحارس عملاق: «مانويل نوير»، ومن أمامه عدد وافر من اللاعبين، لكن الكرة قد اختارت رأسًا واحدة فقط لتقبلها قبل أن تذهب لتعانق الشباك. أسفل تلك الرسمة التي توضح -مجازًا- الهدف الذي تعادل به الضيوف قبل انتهاء المباراة بدقائق قليلة، كان اسم «ميشيل».

نصيحة «ميشيل جوبا» التي أهداها لابن أخيه «دروجبا»

الثالثة: ظهر بها ثلاثة أشخاص، الكرة، والمرمى. دروجبا في مواجهة الحارس الألماني، ومن بينهما الكرة، الشخص الثالث كان «بيتر تشيك»، الذي نال، طوال الرحلة، الثناء من قبل مهاجم فريقه على دوره الفعال في تلك البطولة. كان الأخير بقفازات ذهبية في تلك الرسمة، كناية عما يشعر به الإيفواري تجاهه.

بعد ابتسامة مكتومة، أضاف ذلك الفرد من طاقم الطائرة رسمة جديدة، تُظهر ديديه حاملًا بيده الكأس. يركض في سخرية وسعادة ومن ورائه الجحيم المزعوم لا يأكل إلا أصحابه.


أن يعيش فيك الوطن

عليك أن تقفز متأخرًا عن المدافعين بكسر من الثانية، وقتها ستتمكن من رؤية الكرة، ومن ثم ضربها بشكلٍ أفضل.

إنه النداء الأخير للطائرة التي ستحط الرحال في «دروجباكرو»، تلك المدينة المسماة نسبة لأفضل إنجازات «أبيدجان». يوجد على متن تلك الطائرة الكاتب «ديبي بيكرمان» والمختص في كتابة السير الذاتية للشخصيات المرموقة. بعد وصوله، ومن أمام المطار، استقل سيارة أجرة يقودها أحد المواطنين المحليين يُدعى: «كواسي أوغستين».

أثناء الرحلة إلى الحي الذي ترعرع فيه ديديه دروجبا، حكى السائق لراكبه عن الطفل «نوبل» الذي سبق أن أقله إلى المطار نحو رحلة علاجية مدفوعة الأجر بالكامل من قبل مهاجم فريق تشيلسي، لكنها فشلت في النهاية ومات الطفل بمرض اللوكيميا الذي يموت به العديد من الأطفال في دولتهم.

لا يستطيع أغلب سكان هذه البقعة من العالم أن يحصلوا على فرصة التواجد في نفس الرحلة نحو المطار قبل السفر للعلاج بالخارج، ولا يمكن البحث عن توفير مال لكل هؤلاء بشكلٍ مستمر، لذا فكّر دروجبا في أن يقيم مستشفى لهم لتتكفل بتلك النقطة.

تلك المنشأة التي بدأت فكرتها في عام 2009 بعد انهيار جدار الملعب الوطني بالدولة، والتي كانت متوقفة حتى استقرار أمور الحرب الأهلية، بعدما أشعل ديديه بنفسه فتيل ذلك الاستقرار وطالب بدعوة للحوار بين المتنازعين، لم تكن الأولى ولا الأخيرة لأعماله داخل البلاد، وحسب تأكيد «أوغستين» فإن الوقت لن يسعفهم لذكر ملخصها حتى.

في غضون دقائق قليلة، وصل «بيكرمان» إلى الموضع الذي ينتظره فيه الفيل الإيفواري لبدء رحلة طويلة في تفاصيل حياته، لكنه خلال تلك المدة القصيرة من المطار وحتى الحي الواقع على أطراف العاصمة، كان قد وصلته فكرة عن الشخص الذي سيخوض معه رحلته القادمة.

اقرأ أيضًا:«جورج وايا» يمهد طريق لاعبي كرة القدم لرئاسة بلادهم.

ذلك الخيّر الذي لم يبخل بجهدٍ لصالح فريقه أو أهله، كتب قصة طويلة من الكفاح على وشك أن تُحول إلى كتابٍ بعد ذلك بقليل، لكن المؤكد أن أكثر الأسئلة التي جالت في خاطر الكاتب قبل أن يطرحها على دروجبا هي: هل سيفكر في أن يرأس بلاده سياسيًا واجتماعيًا بترشحه لمنصب رئيس جمهورية بلاده، أسوة بـ«جورج ويّا» في ليبيريا، بعد اعتزاله؟

لسنا بحاجة لانتخابات للإجابة على هذا السؤال، إنه بالفعل أهم من الرئيس، إنه ساحل العاج نفسها.
«كواسي أوغستين» سائق إيفواري غير مشهور مصرحًا لـ«تيليجراف»