المنسيون، هذا ما قلته بعد سماعي لأغنية «اتنسيت» بصوت الجمهور في حفل ساقية الصاوي، الذي أحياه المُغني المصري «مُسلم». ومما لا شك فيه، أن الأغنية تنتزع حواس ومشاعر المُستمع، وانتبه إلى أنني قُلت: تنتزع، لا تأسر أو تستحوذ، فمهما كان مقدار انشغالك، يصعب عليك– بحسب رأيي– تجاهل تلك الأغنية عند سماعك إياها على سبيل المُصادفة، هذا بجانب نقاء صوت المؤدي.

ومثل تلك الأغنية يُكتب لها البقاء، وأنا لا أعرف الفيلم الذي عُدت من أجله الأغنية خصيصًا، قدر معرفتي بالأغنية، وهذا يكفي!

لكن، عند سماعي لها بصوت الجمهور، قلت إنهم–جميعهم– منسيون! أصواتهم مذبوحة، وهناك بحّة ترن في غنائهم، كأنهم يُحاجّون أحدهم بتلك الأغنية. فسألت نفسي: هل جميعنا منسيون فعلًا؟

فيورباخ وجوهر الإيمان

ربما عليَّ أن أوجه شكرًا خاصًا لمسلم وأغنيته؛ لأنهما ساعداني على فهم أحد أصعب الكتب الفلسفية للكاتب الألماني فيورباخ «جوهر المسيحية»، وسيكون من المفيد أن أتنقّل بين صفحات الكتاب لتلخيص أهم النقاط المُستقاة منه.

يضم الكتاب جزأين أساسيين، الأول يدور حول أنثروبولوجية الدين (الله ككائن ينتمي إلى العقل/ الله كقانون وأخلاق)، أمّا الجزء الثاني، فحول جوهر اللاهوت؛ يتناول فيه تاريخ الأديان والفلسفات وبوادر ظهور الإله، فيهتدي إلى نقد واضح لفكرة الدين، مُقدمًا العديد من التناقضات حول رؤية البشر– قديمًا وحديثًا– للإله.

لم تكن دراسة فيورباخ تلك مُجرّدة، بل أيّدها بالعديد من الشواهد التاريخية والاجتماعية والواقعية من حياة الشعوب وعاداتهم عبر الأزمنة والأمكنة المُختلِفة، فاستحضر أنموذجًا أنثروبولوجيًا واضحًا لدراسة تاريخ الأديان، لينقضه في الأخير. ودائمًا ما يكون فيورباخ على رأس قائمة الفلاسفة الذين أرسوا أسسًا فلسفية نقدية حول جوهر الإنسان في عصر الحداثة، تلخصت أسس بنائه في البحث في ماهية الدين وعلاقة الإنسان والإله، لذا يقول فيورباخ:

إنّ نقد الدين هو أساس كلّ نقد يهمّ مسلمات أساسية هي: الإنسان أولًا، الواقع المادي ثانيًا، التاريخ أو زمان المستقبل ثالثًا. [1]

فخلاصة الكتاب، علاقة أذهاننا بما حولنا، بخاصة الدين، فالكتاب يُعد عملًا إنسانويًا في المقام الأول، فعلى عكس هيجل الذي وضع الإله مركز الكون [2]، قام فيورباخ بوضع الإنسان في مركز الكون، ورأى أن الإله ما هو إلا انعكاس لخيال الإنسان؛ فنحن لا نعبد الإله كإله، بل نعبد صورةً عقدناها ورسمناها في أذهاننا، فالله– عند فيورباخ– انعكاس للإنسان، ولأفكاره، فلا نحكم على إله بعينه، إنما نحكم على شعبه؛ فلو وجدنا في إحدى الأساطير إلهًا دمويًا، فلننظر إلى شعبه، لنعلم أنه ليس إلا انعكاسًا واضحًا للصورة المتخيلة في ذهن البشر.

ومن خلال ذلك الشرح، نستطيع أن نقول إن فيورباخ أول منْ وضع الأنثروبولوجيا الفلسفية، التي تهتم بدراسة الإنسان ومستجداته، ودراسة الدين، ولكن عن طريق الإنسان. أي أن الإنسان هو جوهر ذلك الدين.

فيورباخ يُعد أحد أعمدة عصر الحداثة، إن لم يكن المُستهل الأول لذلك العصر، فقد انتقد الفلسفات القديمة التي تناولت موضوع الدين (هيجل / سبينوزا)؛ فهيجل رأى– كما أشرنا– أن الله هو مركز الوجود، وبالتالي فقد نحّى الإنسان جانبًا، وهذا ما لم يُعجِب تلميذه فيورباخ الذي رأى العكس: أن الإنسان هو الجوهر والله صورة ونتاج متخيلة لذلك الجوهر.

أمّا سبنيوزا فقد رأى أن الله والطبيعة واحد، فهو جوهر الطبيعة، وذلك عند فيورباخ سيسمح بظهور الميثولوجيا التي سيخضع لها الإنسان، فالإنسان سيؤلف من تلك الطبيعة المُقدسة صورًا ليرضخ لها عن قناعة. لذا، انتقده هو الآخر، وجعل الإنسان مُستقلًا بذاته لذاته، كجوهر لا فوقه شيء وليس بمتعالٍ، فيكفي أن يكون المركز فحسب.

وبسبب تلك الفلسفة رأى كثيرون أن فيورباخ ومشروعه الحداثي ليس سوى مشروع إلحادي إنسانوي، أو لا ديني.

في الحُب

سأحاول إسقاط رؤية فيورباخ على الحُب.

في علاقات الحُب؛ نحن لا نحب الشخص الماثل أمامنا بكلهِ وجوهرهِ، بل نحب تلك الصورة التي رسمناها له، فنرتبط به من خلال تلك الصورة، ظانين أنها الصواب كله. لكن الحقيقة تأتينا بالعكس، فمع أول صدام يحدث بين اثنين، لا بد وأن يشعر أحدُهما بصدمة في الآخر، لا لشيء، سوى أن الشخص الذي صدمنا لم يكن مثل الصورة التي رسمناها في أذهاننا له؛ فهو ليس ذلك المخلوق «الفاضل» كما ظننا، وليس عفيف اللسان، وليس شخصٌ كامل. لقد خلعنا عليه صفات تنقصنا نحن، نتمناها فينا.

فأيُنا المُخطئ، هو أم أنا؟

أنا الذي قيّدت حريته ورسمته ضمن إطار ذهني أردت أن أطبعه عليه بشكل عفوي. منْ سلب حرية الآخر؛ أنا أم هو؟

بالتأكيد أنا، ونحن جميعنا نسلب حرية بعضنا حين نؤطر الآخرين وفق صورة نُخضعها لمخيلاتنا لتتطابق مع ذواتنا. وهذا عين الاستبداد ورفض الاختلاف، بحسب رأيي.

دور الضحية

عودة إلى ساقية الصاوي، حيث الجمهور المذبوح المجروح. الجميع مجنيٌ عليه، إذًا، من هو الجاني؟

لو ظللنا نلعب ذلك الدور؛ دور الضحية، فلن نُقدم أي شيء. الجميع يدّعي المِثالية، ويضع في ذهنه عن الآخر صورة طوباوية، فما ينقصني سأحاول إيجاده فيك، أو خلقه فيك، بصرف النظر عن مدى توافق تلك الصورة مع حقيقتك؟

وذلك هو المشكل، المثالية المُفرطة في كل شيء، حتى في الحب، والتي تدفع بنا– أقصد المثالية- إلى إتقان دور الضحية عن جدارة، رغم أنك لو تنصلت من تلك العباءة لبرهة من الوقت، ودقّقت في الصورة من زاوية أوسع، لوجدت نفسك في جزء منها جانيًا، وفي جزء آخر مجنيًا عليك. إن لم تكن أكثر جناية وجُرمًا.

فأنت جانٍ حين تختلق في ذهنك صورة عن الآخر ليست منه في شيء، فكأنك تود استلاب حريته وتقييده وفقًا لهواك. وأنت جانٍ حين ترميه بالجناية عليك، رغم أنك البادئ، والبادئ أظلم.

فحين تقول له إنك صدمتني فيك بشدة، ففي الواقع، هو لم يصدمك، بل أنت من صدمت نفسك بنفسك، من خلال تلك الصورة الذهنية المثالية التي خلقتها له. فهو إنسان له عيوب وآمال وطموحات، فعليك توقع كل شيء: عيوبه قبل حسناته، وليس عليه أن يعوِّضك عن نقص فيك أو فشل عابر، أو جرحٌ غائر، أو أمل غابر، فالشخص ليس بالضرورة مرآة لك؛ ترى فيها ما ينقصك يا صاح.

الخلاصة

الجميع يجيدون دورَ الضحية، لأن ادعاءَ المَظلمة أهونُ من الاعتراف بالخطأ والتقصير المُتبادل من كلا الطرفين. فماذا لو واجه كُلٌ حقيقة نفسه، واعترفت– مثلًا- بخطئك، فتحمل جزءًا ولو يسيرًا من الخطأ، ولا يحمل ندُك– خليلك بالأمس- الخطأ كله. فالإنسان يحمل في نفسه بذور الخير والشر، أي لا وجود للكمال المُطلق الذي يطمح إليه الراجي في علاقته المنشودة، فقد قالوا: «ما كامل إلا خالق الكون الشامل». فلا تُقرِن نفسك بصور فضفاضة، مثالية، تجلوها الآمال، صعبة المنال، إنما اعلم أن النقص وارد، ولتكتمل صورة الإنسان، لا بد من توافر التناقضات فيها.

فالصورة المُتخيلة في ذهنك عن الله والحبيب، لا تقرب الواقع والحقيقة شبرًا واحدًا، فمع كل علاقة حب جديدة ستخوضها، ضع كل الاحتمالات أمامك، وتوقع من الغريب الجديد العابر أي شيء. وحين تقف بين يدَي الله، انزع عن ذهنك تلك الصورة وحطِّم أعمدة ذلك المخيال الظالم المُضني، فالمشكل هنا، أننا قيّدنا الإله– تعالى الله- وأطرّنا ملكوته وجبروته اللا محدود داخل عقلنا المحدود، أو لم يقل أهل الحضرة المتصوفة: «كُل ما جال في ذهنك عنه، فهو باطل»، فحرِّر ذاتك واسبح في ملكوت الله من دون أن تراه أو تتخيله، فيكفي أنه هو منْ يراك، لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ.

المراجع
  1. لودفيغ فيورباخ، «جوهر المسيحية»، ترجمة: جورج برشين، دار الرافدين، بيروت، صـ12.
  2. فريدريك هيجل، «محاضرات في فلسفة الدين»، الجزء الثالث، مكتبة كلمة، القاهرة، 2002، صـ 14-15.