بينما كان الجميع يجهز نفسه لحضور فعاليات كأس العالم بروسيا 2018، قرر الاتحاد الأرجنتيني أن يقدم للبعثة المسافرة، لاعبين ومدربين وصحفيين، ما يشبه الدورة التوعوية ليتمكنوا بسهولة من التأقلم والتعامل مع المجتمع الروسي.

خطوة رائعة لكنها لم تكتمل، حيث تفاجأ الجميع باحتواء كتيّب الشرح على فصل به العنوان التالي: ما عليك فعله لتحظى بفرصة مع فتاة روسية «What to do to have a chance with a Russian girl». إلى هنا وكنت أتمنى شرح الأمر بالعامية، لكني أظنه واضحًا كفاية وأن ذلك اللفظ الدارج قد قفز إلى ذهنك دون أن أذكره.

من أجل تحرش ناجح، يستفيض الكتيّب ليوضح أن التسرع من أجل الجنس لا يفيد، لأن الروسيات الجميلات – رغم رغبتهن في ذلك أحيانًا – تفضلن من يشعرهن بالأهمية. لذلك، يفضَل أن تعطي مزيدًا من المساحة لشخصياتهن، ولا تتسرع في الحديث عن المال.

يبدو لنا أن الاتحاد الأرجنتيني متحضر أكثر من اللازم، لدرجة أنه يحترم المرأة حتى عند التحرش وما بعده، لكن الصدفة أوقعتهم في شر أعمالهم، لأن تصرفات نفس الاتحاد مع لاعبات المنتخب الأرجنتيني كانت على النقيض تمامًا من تعليمات ذلك الكتيّب.

لا يلتزمون بالكتيّب

في عام 2015، فشل المنتخب الأرجنتيني للسيدات في التأهل لبطولة كأس العالم بكندا. ونتيجة لذلك، أظهر الاتحاد الأرجنتيني فتورًا غريبًا تجاههم، وكأنه لم يعد مهتمًا بوجود الفريق من الأساس. وعليه، ظل منتخب الأرجنتين مجمدًا لمدة عامين تقريبًا، لا مدرب، لا مباريات ودية، وبناءً عليه خرج من تصنيف الفيفا.

بحلول عام 2017، نظم الاتحاد الأرجنتيني مباراة ودية مع منتخب الأوروجواي. سافر الفريق ليصل صباح اليوم المقرر، قبل ساعات قليلة من موعد المباراة. انتهت المباراة واستقلت اللاعبات الحافلة مباشرة للعودة إلى «بيونيس آيرس»، وهن في حالة يرثى لها من الجوع والتعب، ليضقن ذرعًا بهذه الفوضى ويعلن التمرد على بيئة العمل غير الآدمية.

رفضت اللاعبات تمثيل المنتخب حتى يستجيب الاتحاد لمطالبهن، والتي تمثلت في توفير طاقم تدريب، ومقابل مادي يصل إلى 8.5 دولار عن كل مباراة وحصة تدريبية. ورغم بساطة المطالب، إلا أن ذلك الاتحاد الذي يحترم جمال الروسيات – سيرفضها، ويهددهن بلعب المباراة بلاعبات منتخب تحت 23 عامًا.

تصاعدت الأزمة بتدخل إحدى حركات حقوق المرأة، وبدأ الأمر في الظهور إعلاميًا أكثر فأكثر وامتدت أصداء الحملة لتشمل القارة بأكملها. ليضطر الاتحاد الأرجنتيني مرغمًا على الاستجابة، وكانت البداية بمنح 8 لاعبات عقود احتراف سنوية بمبلغ 330 دولار شهريًا في أبريل عام 2019، ورغم ضآلة المبلغ إلا أن المغزى قد وضح للجميع.

تنوع في المعاناة

تلك الازدواجية التي قدمها لنا الاتحاد الأرجنتيني في مشهد لا يوصف إلا بالسذاجة – تتشابه كثيرًا مع مواقف كثير من الدول والمجتمعات، حيث ما زالت السيدات تعاني للحصول على بعض حقوقها. وكرة القدم مجال عمل كغيره، فقط هي أوسع انتشارًا، وبالتالي يمكن إعادة تصدير هذه المعاناة من خلالها، تلك المعاناة لم تتمحور أبدًا حول المساواة في الأجور، بل إنها تشمل ما هو أهم.

يمكن أن نبدأ بقصة منع المشجعات الإيرانيات من حضور المباريات في الإستاد – حتى مباراة إيران وكمبوديا – والتي تضخمت بعد واقعة «سحر الخضيري». التي قُبض عليها عند محاولتها التنكر ودخول الملعب لحضور مباراة لفريقها المفضل، استقلال طهران. لكن الأمر انتهى بالقبض عليها، ومحاولتها الانتحار بإضرام النيران في جسدها، ثم وفاتها بالمستشفى بعدها بأيام.

ثم ننتقل إلى رئيس اتحاد كرة القدم لدولة أفغانستان «كيرامودين كريم»، الذي تم إيقافه مدى الحياة من قبل الفيفا بعد اتهامه بالتحرش بـ 5 لاعبات على الأقل. ولا تظن أن الأمر يقتصر فقط على المجتمعات المتخلفة أو التي تعاني من تعصب ديني، لأن دولة كفرنسا قدمت لنا نموذجًا لا يقل عن هؤلاء في الرجعية.

بمجرد النظر لمنتخبي فرنسا الفائزين بكأس العالم 1998، 2018، ستظن أن فرنسا قد استطاعت تجاوز كل حواجز العنصرية سواء بسبب الأصل أو اللون لتشكيل منتخبها على مستوى الرجال. وعلى مستوى السيدات لم يختلف الأمر كثيرًا، حتى قرر الاتحاد الفرنسي لكرة القدم منع ارتداء الحجاب في ملاعب كرة القدم، على الرغم من سماح قواعد الفيفا بذلك.

ومن فرنسا إلى إنجلترا وتحديدًا في عام 2015، حيث قام بعض الأكاديميين في جامعة «ليفربول جون موريس» بدراسة شملت استطلاعًا للرأي لقياس تجاوب المجتمع مع وجود الجنس الناعم في كرة القدم. شمل الاستطلاع 10 مدربات، 4 منهن كن يدرسن للحصول على الرخص التدريبية A,B. واتفق الرباعي على التعرض لمحاولات سخرية متعمدة، مما يعني أن تقبل السيدات ما زال محل شك.

أولويات مقلوبة

قبل المتابعة، أود أن أذكرك أني مثلك تمامًا، مللت من المبالغة في صراعات حقوق المرأة وأجواء «يا نساء العالم اتحدوا»، لكن المواقف السالف ذكرها هي أبعد ما تكون عن تلك المبالغة. فكل موقف يرمز إلى حق من حقوق المرأة، يشمل كل عناصر اللعبة، بل يمتد ليشمل المجتمع ككل. وبدلاً من تصدر المشهد، توارت كل هذه المواقف خلف حملة أكثر سطحية بعنوان «Equal Pay».

انطلقت حملة المساواة في الأجور على يد منتخب السيدات الأمريكي لكرة القدم عقب فوزه بكأس العالم في 2015. في ذلك العام، حقق منتخب السيدات أرباحًا أكثر من منتخب الرجال بما يعادل 20 مليون دولار. ورغم أنها حالة نادرة لتفوق منتخب السيدات على الرجال من ناحية الإنجازات والتسويق، إلا أن الحملة انتشرت وتصدرت العناوين، لتصل إلى ذروتها في كأس العالم 2019.

كما ذكرنا فإن الانتشار الواسع لحملة «Equal Pay» ساهم في تجاهل أحداث تمثل قضايا أكثر أهمية للمرأة في عالم الرياضة، وتركز الحديث حول مغالطات بديهية، كفيلة بنسف الحملة من الأساس. فلا حاجة لأن تكون خبيرًا في التسويق أو إدارة الأعمال لتدرك أن طلب التساوي في الأجر هو محض نكتة.

بإمكانك النظر إلى كرة القدم كصناعة، مزيد من الاستثمارات والتسويق يؤدي لزيادة الأرباح، ومن ثم رفع الأجور. لكن هذا لم يحدث لا في كرة القدم للسيدات ولا في معظم رياضاتهن بشكل عام. ففي الفترة بين 2011 و2013 ووفقًا لمجلة «Forbes»، كانت الشركات الراعية للرياضات النسائية تمثل 0.4% من إجمالي الرعاة في الرياضة ككل. ورغم أن المؤشرات الحالية تشير إلى زيادة معدلات المشاهدة إلا أن نسبة 0.4% تحتاج إلى أكثر من ذلك.

قد تكون البداية بظهور المزيد من الموهوبات أو بالأحرى خارقات في مختلف الرياضات، على غرار مايكل فيليبس وأوسين بولت من عالم الرجال. ومن عالمهن، سيرينا ويليامز وغيرها من لاعبات التنس، اللاتي حققن نجاحات مكنتهن من التساوي بل وتجاوز الرجال في الأجور، لكن حتى ظهور الخارقات في عالم النساء يخضع لقواعد قد تؤدي بنا إلى تقسيم جديد للرياضيين.

الجنس الثالث

لا، ليس هذا التقسيم الذي ظننته عند رؤيتك للعنوان الفرعي. فنحن لا نقصد المتحولين جنسيًا ولا أصحاب الميول الجنسية الشاذة، لكنها حالة جديدة تم طرحها عند إيقاف العداءة «كاستر سيمينيا» عن ممارسة اللعبة. العداءة الجنوب أفريقية هي حاملة ذهبية سباق الـ 800 متر في أولمبياد ريو 2016، وتم إيقافها لأنها لم تعد مصنفة كـ «Female Athlete».

كما قرأت تمامًا، الاتحاد الدولي لألعاب القوى لم يعد يعتبرها سيدة. وهذا الأمر تكرر مسبقًا، لأنهم كانوا وما زالوا يتشككون في أن تكون المتسابقة متسابقًا متنكرًا. ومع تقدم التكنولوجيا، تطورت الفحوصات، بداية من الكشف الظاهري الذي استمر حتى 1966، ثم الـ «Sex Testing» بداية بتحليل الكروموسومات من 1967 حتى 2011، ثم تحليل هرمون التستوستيرون من 2011 حتى الآن.

يفرَز هرمون التستوستيرون في كل من النساء والرجال بنسب مختلفة، كما أن له تأثيرًا مباشرًا على أداء الرياضي، لكن ما لم يتم تحديده، هو نسبة هذا التأثير. خضعت «كاستر سيمينيا» للتحليل، وثبت أن جسدها يحتوي على نسبة أعلى من المعتاد. وبمجرد ظهور دراسة تؤكد تأثير الهرمون على الأداء في سباقات الـ 400، 800 متر، اعتمدها الاتحاد وتم حرمان «كاستر» من مزاولة اللعبة.

رغم أن نسبة الهرمون العالية في جسد «كاستر» طبيعية، إلا أنهم طالبوها بتناول الأدوية لخفضها مهما كانت الآثار الجانبية، وهو ما رفضته اللاعبة وأيدتها في ذلك الجمعية الطبية العالمية، ليظل الأمر معلقًا في المحاكم الرياضية.

محددات الأداء للمتسابقات وفقًا للاتحاد الدولي لألعاب القوى
محددات الأداء للمتسابقات وفقًا للاتحاد الدولي لألعاب القوى
/ VOX

حتى يحين موعد الحسم، ستظل الحقيقة الواضحة التي لا مفر منها، أننا أمام تقسيم جديد في عالم الرياضة، إذ لم يعد بإمكاننا تقسيم المسابقات إلى رجال وسيدات بخط مستقيم واضح يفصل كليهما، وعلى ذلك العالم المنفتح أن يجد مسمى جديدًا لـ «كاستر» وأمثالها.

وقبل الختام، نسيت أن أخبرك بأن الاتحاد الأرجنتيني قد اعترف بأن دليل التحرش بالروسيات قد طُبع سهوًا، وأن ما يحدث مع «كاستر سيمينيا» هو إرساء لمبدأ تكافؤ الفرص، وأن العالم بخير وحقوق الأقليات محفوظة، وبطولة ويمبلدون 2019 قد شهدت اشتراك أول ثنائي نسائي شاذ جنسيًا. فقط كل ما قرأته بالأعلى هو مؤشر ضعيف على أن ما قد تعانيه الفتاة لممارسة الرياضة سيتجاوز ما تعانيه لركن سيارتها.