لطالما فتنتني المدن عند تجوالي بها، في أبنيتها المعمارية المتنوعة وشكل أزقتها وأسواقها، وأعرافها الاجتماعية المختلفة من زقاق لزقاق ومن حارة لحارة. فطوال مدة إقامتي في العراق لم أجد تعريفاً صحيحاً يعبر عن انزعاجي من تصميم المدينة، إذ يعتمد التصميم الغالب والأعم فيها على البيوت الأفقية الواسعة، مصحوباً في العادة بفناء وحديقة خارجية، وتكون في العادة مبنية من الطابوق وغير مغطاة بعازل، مما يجعلها باردة بشكل لا يُقاوم في الشتاء، إضافة إلى افتقار المدن في الغالب إلى التشجير والمساحات الخضراء الواسعة، مما يعطي إيحاءً بالكآبة والقتم، كمدينة كالموصل مثلاً، رغم ما يتواجد بها من غابات، بجانب وقوعها على ضفاف نهر الفرات.

ولكن يختلف الأمر في بغداد، بسبب توفر أشجار النخيل بكثرة فيها، والتي تعطي المدينة طابعاً آخر، مع اختلاف في شكل البيوت مقارنةً بمدينة الموصل. اختلافاً كبيراً يعكس طباع المجتمع البغدادي، من انخفاض جدرانها إلى أبوابها الأصغر حجماً.

في دول عربية أخرى كالأردن مثلاً، يعتمد شكل البناء فيها على العمارات والشقق ومساحات خضراء قليلة، وتوفر زخماً في المطاعم والمقاهي، حتى تظن أنها أصبحت جزءاً من المدينة نفسها، بينما تحمل بعض الدول طابع الأبنية المعمارية القديمة، لتعطي طابعاً لطيفاً. وفي مدن أخرى عربية وأوروبية تحمل الشوارع أبنية تعود إلى حقب سابقة، وتجولك فيها يعطيك إيحاءً أنك في متحف مفتوح في الهواء الطلق.

كل تلك العوامل كانت كافية أن تدعني أتساءل: هل يؤثر نمط كل مدينة على ثقافة سكانها؟

والجواب باختصار نعم، لاحظت من تنقلي في المدن الفرق الشديد في التأثير على سعادتنا من عدمها دون أن ندري، فمدينة منغلقة مثل الموصل تجعل من الصعب على الناس امتلاك خيارات عديدة للقيام بنشاطات مختلفة، وبالتالي انعكس هذا على طبيعة سكانها، حيث تركزت طبيعة الحياة فيها على العلاقات والزيارات العائلية، وربما شبه انعدام للحياة الخاصة.

بينما في تركيا، على سبيل المثال، أثرت الطبيعة الخلابة التي تحملها، والمساحات الواسعة، على نفسيات الناس المقيمين، ودفعتهم للقيام بالعديد من النشاطات، وربما وفرت علاقات عائلية أقل بسبب بُعد المسافات ونمط الحياة فيها. كل ذلك انعكس بشكل مباشر على نفسية الناس داخل المدينتين، ولا يقتصر فقط الأمر على المساحات الخضراء، إنما شكل المكان والبناء المعماري الذي يؤثر تأثيراً مباشراً على طبائع الشعوب.

تطور معمار المدن

مر تطور المدن بفترات عديدة مختلفة، إذ اعتمدت قبل دخول الرأسمالية بشكل أساسي على توفير متطلبات المعيشة الأساسية، من خلال توفير مساحات بيوت مفتوحة، بشكل مختلف تماماً عن اليوم. وتحولت المدن من الشوارع والأزقة الضيقة والمتعرجة إلى مدن ذات شوارع كبيرة، معتمدة على المركبات، ولكن التغيير الأكبر الذي شهدته هو فترة التحول الصناعي، حيث يمكن فهم كيف اختلفت الحياة في فترة ما قبل الحداثة وما بعدها، إذا عقدنا مقارنة بين نمطي الحياة في المدينة والقرية، فالطرفان يحملان جوانب سلبية وإيجابية متعددة، ولكن من المؤكد أن الاختلاف في المعيشة أثر على هوية الفرد في المكانين. ويمكن وضع مقارنة كذلك بين القصور والبيوت الفخمة والبيوت الاعتيادية، وبين المدن الكبيرة ذات البناء المتعدد والمدن الصغيرة ذات البناء القليل، إذ تلاحظ – دون منازع – وجود فرق بين كل هؤلاء.

ومن أجل إدراك كيف يلعب التصميم الحضري دوراً مهماً في تشكيل البيئة الحضرية للمجتمعات، فقد أظهرت مجموعة كبيرة من الأبحاث أن التصميم السيئ يؤثر بدرجة كبيرة على نشاطنا البدني، وأن العيش في المدن قد يُضاعف من خطر الإصابة بالاكتئاب واضطرابات القلق.

وتذهب المفكرة والكاتبة، الدكتورة هبة رءوف عزت، إلى أبعد من ذلك في كتابها «نحو عمران جديد»، حيث تقول: إذا كانت الأرض مجال العمران، فغاية العمران هي الحياة الطيبة والإنسانية للفرد وللجماعة، فالعمران مثل العمارة لا ينفك عن تصورات الجسد وعلاقته بالمكان وبالسلطة، والعمران الذي يحافظ على جودة الحياة الإنسانية هو الذي يحترم الجسد حين يجب أن يُتحرك بحرية، ويمنح هذا الجسد الخصوصية في شئونه من خلال التخطيط العمراني ومواصفات البناء الإنساني والتشريع الذي يحفظ الجسد ويحفظ مجاله الحيوي من الانتهاك.

العمران يتأسس على مقاصد حفظ النفس وهذا المقصد مُعقد وعميق، يبدأ من نوعية الحياة التي يحظى بها جسد الإنسان من الأمن إلى الخدمات العامة، وصولاً إلى الحق في البيئة النظيفة والحق في الجمال، لأن القبح يستلب النفس ويهوي بها ويفسد نقاءها وخيريتها.

وتنتقد هبة رءوف عزت كيف تحولت المدن اليوم إلى مدن هدفها استهلاك الإنسان لآخر نفس، حيث باتت المدينة في العصر الحديث تنظر إلى الإنسان بنظرة وظيفية وصار السوق هو المحرك، وغلبت أولوية حركة رأس المال على نوعية الحياة الكريمة التي تكفلها للناس، ووضع الناس في قوالب وصور نمطية يستوي في ذلك الولع بكشفه، وثقافة العري، وتجارة الجسد، وحمى جراحات التجميل، لذا يصبح المشهد الاجتماعي مشهد «ثقافة الاستعراض» بالأساس، والغريب أن يحدث هذا في مجال القيم الأخلاقية والدينية، فيصبح الجسد أيضاً في هذه الثقافة الدينية مركزياً، وفي مقابل التعرية والكشف يكون الاهتمام الزائد بالتغطية والحجب.

وقد ساهم «ابن خلدون» في مقدمته الشهيرة في تحليل الأخلاق في سياق نظرته إلى العمران، فربط بعضها بالمناخ والجغرافيا، وتحدث عن تأثير الظروف المحيطة بالإنسان في رؤيته للقبح والحسن، فالتحولات السكانية والعمرانية وطبيعة الأعراف والتقاليد التي تنشأ، تؤثر في مسارات السلوك الإنساني والاجتماعي.

والعمارة كما يٌعبِّر عنها المهندس المعماري «محمد طنطاوي» هي مرآة لحالة مجتمعية وسياسية وأخلاقية وعاطفية من جهة، وكفلسفة للحياة وتصورات للدين بل للأساطير من جهة أخرى، ففي الأندلس والقاهرة الفاطمية والمدن الإيرانية كانت الزخارف الإسلامية مثالاً لحالة من التشبع الجمالي باللغة العربية ومفرداتها، فالحرفة التقليدية كانت تصر على الحفاظ على مكونات الجمال والخصوصية الثقافية التي تعبر عنها في آن واحد.

وقد عكست المدن منذ القدم ما مرت به المجتمعات من تغيرات فكرية، فالمدن الإسلامية حملت طابعاً معيناً في بنائها المعماري وجمالية ودقة التفاصيل فيه، ويمكنك أن تشعر بالألفة عند زيارتك للمتاحف التي تحمل بناءً معمارياً من حضارات الشرق والغرب على حد سواء، وتأثرك اللحظي هذا هو دليل بحد ذاته على تأثير المدن وبنائها المعماري على نفسيتك. وفي المقابل يمكنك فهم كيف للقبح أن يُفقِد الإنسان ارتباطه بالمكان ويصبح مجرد مصلحة يُستفاد من معيشته.

ويقول الطنطاوي في مقالته المنشورة على «منصة الجزيرة»، إن ارتباك هذه العلاقات بين احتياج الإنسان للسكن وبين حاجته للجمال يصل بالمجتمع بشكل عام إلى تعطيل قدرة الاستمتاع بالوجود، فتنتج حالات اجتماعية سيكولوجية مريضة تعجز فيه عن إنتاج تطور في التشكيل البصري المعبر عن الهوية، وتلتزم بأشكال ونصوص معينة بشكل رديء، تنتشر في المباني والمساجد بل حتى نوع الطعام.

فضاءات عامة مشتركة

المدينة ليست مجرد مكان والمباني المعمارية ليست مجرد شكل، ومن هذا المنطلق يمكننا فهم الكثير عن علاقتنا مع المعمار الحضري للمدينة. إذ هناك أوجه شبه كبير في النظام المبني عليه مدينة مثل «عمَّان» ومدينة مثل «دبي»، رغم الاختلاف الكبير في المدينتين وبين «إسطنبول» على سبيل المثال، إذ تتشارك هاتان المدينتان قلة في الفضاءات العامة المشتركة ويهتم بناؤها بشكل أكبر بالأبنية والعمارات والمُجمعات التجارية، وقلة في المساحات الخضراء الطبيعة التي يشترك بها الجميع.

بينما في «إسطنبول» بناء المدينة يعتمد على توفر أمتار قليلة لكل منزل، وهناك حدائق عامة لكل مجمع سكني، ومساحات خضراء خارجية، وبالطبع مناخ المدينة وطبيعتها يلعبان دوراً في توفر هذه الإمكانيات.

وقد بينت الدراسات أن سكان المدن يكونون أكثر سعادة عند إحساسهم بالانتماء، وتفاعلاتهم بعضهم مع بعض، ليشعروا أن المدينة ليست مجرد مكان، بل فضاء مشترك للجميع. وفي كتابه يناقش مونتغومري، واعتماداً على تعريف أرسطو للسعادة، كيف يمكن أن تكون المدينة سعيدة حين تكون كثافتها عالية، وأبنيتها ليست بعيدة بعضها عن بعض أو معزولة، وحين تُشجِّع التفاعل بين الناس، بأن تكون الاستخدامات فيها متنوعة، وتُسهِّل الشوارع وتقسيمها ذلك.

أي أن تكون الشوارع قصيرة مثلاً، فيها الكثير من التقاطعات مع شوارع أخرى، وفيها متاجر وأشغال متعددة (مصبغة، ملحمة، حلَّاق، خيَّاط، ورش خياطة، معاهد موسيقية، مشفى، مكاتب، شركات صغيرة وكبيرة … إلخ) ولا سيما عند التقاطعات، لكي تمنح استمرارية بالحركة من شارع إلى آخر. وتستفيد هذه الشوارع من الأعمال التي تستقر فيها، بزيادة التفاعل بين سكانها، وتعطيهم مساحة أكبر للاختلاط وتنمية علاقاتهم الاجتماعية، ليزيد شعور الألفة لديهم للمكان ولبعضهم، وهذا ما سمته «جين جاكوبس» – وهي مؤلفة وناشطة أمريكية لكتبها تأثير كبير في مجال تخطيط المدن وغيرها – «رقصة باليه» الشارع أو الرصيف، حيث لكل شخص وقت دخول ودور محدد.

وفي حين غيَّر شكل العمران الحداثي المدن التي نعرفها اليوم، وسبَّبت الرأسمالية – أو ما تُسمى النيوليبرالية الاقتصادية – في رسم شكل مُحدد وطابع موحد للمدن اليوم، هدفه إزاحة البيئة الاجتماعية والتخلص من المباني القديمة وإعادة بنائها بشكل حديث. فالحداثة العمرانية ليست دليلاً كافياً على تطور أي مدينة، ولا يمكن إنكار وجود مزايا في كل مدينة، ولا تخلو مدن من سمات جميلة يُعترف بها، لكن البناء الحداثي للمدن اليوم أصبح هدفه اقتصادياً بحتاً.

ويُقارن معاذ لافي، الباحث الأكاديمي والمتخصص في فلسفة العمارة، بين المدن التي امتلكت عمراناً خاصاً بها، والمدن التي بُني عمرانها من أجل هدف اقتصادي، وضرب مثالاً لمدينتي دبي ولاس فيجاس، حيث صنعت دبي نظاماً اقتصادياً ورأسمالياً مفتوحاً، شبيهاً باقتصاد لاس فيجاس مثلاً؛ حيث إن الحاجة الاقتصادية هي التي حرَّكت العمران، وهي المُحرِّك الرئيسي للحركة العمرانية، والتي ولَّدت سوقاً معينة لتلك العمارة التي تعبر عن الإثارة: أطول مبنى، ومبنى على شكل خيمة، وغيره.

يؤكد «لافي» على أن دبي لم تخترع تلك الأنماط العمرانية؛ بل هي موجودة في العالم، لكن الذي ميَّز دبي عن غيرها؛ أن مساحة المشروع نفسه غير معتادة، بجانب التقليد المباشر لبعض الرموز الموجودة في البيئة هناك مثل النخلة. كما يتم تصدير ذلك كان من خلال المباني ذات الأرقام القياسية، لكنه في الأصل يظل مفهوماً مؤقتاً؛ فأطول مبنى في العالم سيلحق به مبنى آخر في مدينة أخرى أطول منه. إن الهدف الرئيسي من العمران في دبي لفت الانتباه والأنظار والتسابق، ومن الخطأ أن تحاول الدول الأخرى تقليد البناء العمراني للدول دون مراعاة الطبيعية التاريخية والعمرانية الخاصة بكل بلد.

أشباه المدن

ربما أكثر ما يثير القلق بالنسبة لي هو إلى أين سنصل؟ وكيف سيصبح شكل المدن في المستقبل؟ هل سننتقل إلى شكل مُوحَّد كما تُصوِّر أفلام الخيال العلمي، باعثة على الكآبة، وكأنها مدن ذات بعد واحد معدومة الحياة لا روح فيها؟

فالتصاميم للمدن المستقبلية التي تخيلها مخرجو الأفلام لافتة حقاً، كناطحات السحاب العديدة، مروراً بالطرق السريعة المبنية في الهواء، والسيارات الطائرة، والسيارات بدون طيار، وسرعة الحياة المعتمدة بشكل كامل على التكنولوجيا، وكاميرات المراقبة في كل مكان، والشوارع التي يمكن تفكيكها وإعادة تجميعها، مع توفير كبير للرفاهية، فتصبح مدناً ممسوخة من ذاتها.

وأفلام الخيال العلمي كان لها صدى قوي في كيفية تشكيل مدننا المعاصرة. والأمثلة على ذلك عديدة. فالمهندس المعماري الشهير «أدريان سميث»، وهو الذي صمم برج خليفة في مدينة دبي، يقول إن مصدر إلهامه لتصميم البرج جاء من مشاهدة فيلم The Wizard of Oz عندما كان طفلاً.

ويجري بناء مدن في دول مثل ولاية «جوهر» الماليزية، تشبه إلى حد كبير مُدناً صوَّرتها أفلام الخيال العلمي؛ فهناك مشروع ضخم يمتد على أربع جزر من صنع الإنسان، ويتمحور على تخطيط مدني متعدِّد الطبقات وثلاثي الأبعاد. كما أنه يتميز بالنباتات الخضراء الموزعة بشكل عمودي على المباني، بما يستحضر في الأذهان صورة الغابة الحضرية.

وبدأت دول مثل السعودية وقطر، وضع خطة لإحداث هذا التحول إلى المدن الذكية. ففي قطر تم وضع رؤية لتتحول بحلول عام 2030 إلى نموذج للمدن الذكية، بدأ حالياً بمدينة «لوسيل». كما بدأت مدينة دبي بالفعل في نشر الخدمات الذكية بين سكانها، إلى جانب مدينة «مصدر» التي تم إنشاؤها في الإمارات أيضاً.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.