في حوار له على قناة تلفزيونية أعاد الشيخ «يوسف القرضاوي» سرد رأي الشيخ «محمد أبو زهرة» رحمه الله في حد الرجم، وهي الرواية التي كان قد أتى عليها في مذكراته والتي سنقف معها بعد قليل، هذا الرأي الذي ذكره الشيخ «أبو زهرة» منذ أكثر من أربعين سنة قُبيل وفاته والذي ردّ عليه العلماء بأدلة قوية قاطعة، لا يزال البعض يفتح الباب عليه كل حين. مثيرًا بذلك عاصفة من الرد والنقد، وعلى الرغم من ردود العلماء على الشيخ أبي زهرة من القرآن والسنة والإجماع، فإن حالة من الجدل الواسعة هذه المرة استدعت منا بيانًا للقضية وردّا مفصّلاً حولها.


قنبلة الشيخ أبو زهرة!

ذكر الشيخ القرضاوي في مذكراته عند حديثه عن مؤتمر ندوة التشريع الإسلامي المنعقدة في ليبيا عام 1972م، تحت عنوان «أبو زهرة يفجر قنبلة»، قال: في هذه الندوة فجّر الشيخ أبو زهرة قنبلة فقهية، هيّجت عليه أعضاء المؤتمر، حينما فاجأهم برأيه الجديد. وقصّة ذلك: أن الشيخ رحمه الله وقف في المؤتمر، وقال: إني كتمتُ رأيًا فقهيًّا في نفسي من عشرين سنة، وكنتُ قد بُحت به للدكتور عبد العزيز عامر، واستشهد به قائلا: أليس كذلك يا دكتور عبد العزيز? قال: بلى. وآن لي أن أبوحَ بما كتمتُه، قبل أن ألقَى الله تعالى، ويسألني: لماذا كتمتَ ما لديك من علم، ولم تبينه للناس? هذا الرأي يتعلق بقضية «الرجم» للمحصن في حد الزنى، فرأى أن الرجم كان شريعة يهودية، أقرَّها الرسول في أول الأمر، ثم نُسخت بحد الجلد في سورة النور. قال الشيخ: ولي على ذلك أدلة ثلاثة:

الأول: أن الله تعالى قال: «فإذا أُحصِنَّ فإن أَتيْنَ بفاحشةٍ فَعَليهنَّ نِصفُ ما على المُحصناتِ مِن العذابِ» [النساء: 25]، والرجم عقوبة لا تتنصف، فثبت أن العذاب في الآية هو المذكور في سورة النور: «وليَشْهَد عَذَابهما طائفة من المؤمنين» [النور: 2].

والثاني: ما رواه البخاري في جامعه الصحيح عن عبد الله بن أوفى أنه سُئل عن الرجم، هل كان بعد سورة النور أم قبلها؟ فقال: لا أدري. فمن المحتمل جدًّا أن تكون عقوبة الرجم قبل نزول آية النور التي نسختها.

الثالث: أن الحديث الذي اعتمدوا عليه، وقالوا: إنه كان قرآنًا ثم نُسخت تلاوته وبقي حكمه أمر لا يُقرِّه العقل، لماذا تنسخ التلاوة والحكم باق? وما قيل: إنه كان في صحيفته فجاءت الداجن وأكلتها لا يقبله منطق.


رأي القرضاوي ورفض أبو زهرة!

يستكمل الشيخ القرضاوي كلامه قائلاً: وما إن انتهى الشيخ من كلامه حتى ثار عليه أغلب الحضور، وقام مَن قام منهم، وردَّ عليه بما هو مذكور في كُتب الفقه حول هذه الأدلة. ولكن الشيخ ثبُت على رأيه. وقد لقيتُه بعد انفضاض الجلسة، وقلت له: يا مولانا، عندي رأي قريب من رأيك، ولكنه أدنى إلى القبول منه. قال: وما هو؟ قلتُ: جاء في الحديث الصحيح: «البكر بالبكرِ: جلد مائة وتغريب عام، والثيِّب بالثيب: جلد مائة، ورجم بالحجارة». قال: وماذا تأخذ من هذا الحديث؟ قلتُ: تعلم فضيلتك أن الحنفية قالوا في الشطر الأول من الحديث: الحد هو الجلد، أما التغريب أو النفي، فهو سياسة وتعزير، موكول إلى رأي الإمام، ولكنه ليس لازمًا في كل حال. وعلى هذا فثبت ما جاءت به الروايات من الرجم في العهد النبوي، فقد رجم يهوديين، ورجم ماعزًا، ورجم الغامدية، وبعث أحد أصحابه في قضية امرأة العسيف، وقال له: اغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها. وكذلك ما روي أن «عمر» رجم من بعده، وأن «عليًا» رجم كذلك. ولكن الشيخ لم يوافق على رأيي هذا، وقال لي: يا يوسف، هل معقول أن «محمد بن عبد الله» الرحمة المهداة يرمي الناس بالحجارة حتى الموت؟ هذه شريعة يهودية، وهي أليق بقساوة اليهود.


لماذا رفضَ أبو زهرة حدَّ الرَّجم؟!

يُفهم من سياق الحوار الذي دار بين الشيخ أبي زهرة والشيخ القرضاوي أن أبا زهرة حين سمع أدلة القرضاوي عن ثبوت حد الرجم، كان رفضه نابعًا من الرحمة وليس اتكاءً على دليل قوي من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، لقد ظنَّ أن الرحمة النبوية تنافي حدَّ الرجم وإقامته، ولو عادَ إلى سيرة النبي r وسنته لرأى بهذا المنطق مواقف أخرى كان فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شديدًا، وهو – حاشاه – أن يكون كذلك، وإنما فلسفة العقوبات في الإسلام تنم عن رحمة في ذاتها، فقتل القاتل رحمة بأهل القتيل بل هي حياة جديدة لأسرته ومجتمعه كما نصَّ القرآن: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 179]، وقطع يد السارق رحمة بمكلوم مسروق فُقدَ ماله، ورجم الزانية رحمة بالزوج وبناء الأسرة وتماسك المجتمع، وكم من زناة هربوا من العقاب فاستحالت حياة أهليهم ومجتمعهم جحيمًا وعذابًا أليمًا، وهكذا كانت العقوبة رحمة بمن نالهم الأذى، ورحمة للمجتمع كله بِرَدْع كل من تسوّل له نفسه التعدي على حياة الناس وأموالهم وأبضاعهم، فتغدو حياة الناس آمنة وادعة.


ردّ عقوبة الرجم بقول الله «فإذا أُحْصِنَّ»!

أما الاستشهاد بقول الله تعالى: ﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [النساء: 25]، وأنه دليل على أن عقوبة الزنا للأَمَة هنا هي الجلد؛ لأن الرجم لا يُنصّف، فقد ردّ العلماء على ذلك من القرآن نفسه؛ حيث إن معنى الآية: أن عليهن نصف ما على الحرائر غير المتزوجات من العذاب، فالمحصنات في هذه الآية لا تعني المتزوجات، وإنما الحرائر غير المتزوجات، واستشهدوا على ذلك من القرآن الكريم من قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ [النساء: 25]؛ أي من لم يستطع أن يتزوج الحرائر فلا حرج عليه أن يتزوج من الإماء المؤمنات.

يقول الشعراوي رحمه الله: الرجم فقْدٌ للحياة فلا نصفَ معه، إذن فنصف ما على المحصنات من العذاب، والعذاب هو الذي يؤلم (أي الجلد). ونستشهد على ذلك بآية لنبيِّن الرأي القاطع بأن العذاب شيء، والقتل وإزهاق الحياة شيء آخر، ونجد هذه الآية هي قول الحق على لسان سليمان عليه السلام حينما تفقد الطير ولم يجد الهدهد: «لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ» [النمل: 21] . إذن، فالعذاب غير الذبح، وكذلك يكون العذاب غير الرجم. فالذي يحتجّ به البعض ممن يريدون إحداث ضجة بأنه لا يوجد رجم؛ لأن الأمَة عليها نصف ما على المحصنات، والرجم ليس فيه تنصيف نقول له: إن ما تستشهد به باطل؛ لأن الله فرَّق بين العذاب وبين الذبح، فقال على لسان سليمان: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} فإذا كان العذاب غير إزهاق الروح بالذبح، والعذاب أيضاً غير إزهاق الروح بالرجم.

والخلاصة في معنى قول الله تعالى: ﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ أن الأمَة المتزوجة عليها نصف ما على البكر الحرّة من العذاب أي خمسين جلدة، وهذا بخلاف الحكم على المرأة الحرة، فإذا كانت الحرّة بكرًا وزنت كان عليها مائة جلدة استنادًا للقرآن والسنة، وإن كانت حرة متزوجة وقعت في الزنا فحدّها الرجم لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولإجماع علماء الأمة عليه.


آراء جمهور علماء الأمة

والحق أنني لم أقف على رأي واحد من العلماء منذ عصر الصحابة وحتى يومنا هذا وافقَ رأيه الشيخ أبا زهرة إلا الخوارج، حتى الشيخ القرضاوي الذي أراد أن يجد تخريجًا للمسألة أكثر قوة واستنادًا على الدليل من أبي زهرة مع اعترافه بوقوع الرجم في زمن النبي وبأمره؛ رأى أن عقوبة الرجم قد تكون تعزيرًا على رأي من آراء المذهب الحنفي، والتعزير كما هو معلوم متروك للحاكم يفعله بالصورة التي يُقدّرها، لكن هذا الرأي رفضه الشيخ أبو زهرة أيضًا.

إن حدّ الرجم واضح ومقرَّر من السُّنة النبوية وفعل الصحابة وإجماع العلماء مِن بعدهم، فقد رجمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزًا رضي الله عنه حين جاءه معترفًا بجريمته، ورجم المرأة الغامدية التي جاءت معترفة بجرمها، ولم يشأ أن يُنزل العقوبة بها إلا بعد ولادة مولودها ثم بعد فطامه، «فلما فطمته أتته بالصبي في يده كِسرة خبز فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام. فدفَع الصبيَّ إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها، فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيُقبل خالد بن الوليد بحجرٍ فرمى رأسها فتنضَّح الدم على وجهِ خالد فسبَّها، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبَّه إياها فقال: مهلاً يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له» والرواية صحيحة متواترة في كل من صحيح مسلم وسنن أبي دواود والترمذي والنسائي وموطأ الإمام مالك ومسند الإمام أحمد وغيرهم.

وهناك أدلة أخرى صحيحة ذكرها البخاري ومسلم في صحيحيهما، فعن أبي هريرة قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله فقام خصمه وكان أفقه منه فقال اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي ؟ قال: قُلْ. قال إن ابني كان عسيفًا (أجيرًا) على هذا فزنى بامرأته، فافتديتُ منه بمائة شاة وخادم، ثم سألتُ رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لأقْضِيَن بينكما بكتابِ الله جلَّ ذكره المائة شاة والخادم ردّ وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغدُ يا أُنَيس على امرأة هذا فإن اعترفَت فارجمها. فغدا عليها فاعترفت فرجمها».

وعلى هذا، تابع الصحابة رضي الله عنهم عمل النبي صلى الله عليه وسلم في الرجم عقوبة للزاني أو الزانية المحصنة (المتزوجة)، والجلد لغير المحصن، كما فعل علي رضي الله عنه مع شُرّاحة الهمدانية حين أقام الحد عليها، وحكى الإجماع على الرجم ابن المنذر في كتاب «الإجماع»، كما حكاه الإمام الوزير ابن هُبيرة عن اتفاق الأئمة الأربعة (مالك وأبو حنيفة والشافعي وابن حنبل) على رجم الزاني المحصن في كتابه «إجماع الأئمة الأربعة واختلافُهم» قائلاً: «وأجمعوا على أن من كمُلَت فيه شرائطُ الإحصان فزنى بامرأة مثله في شرائط الإحصان وهي أن تكون حرّة، بالغة، عاقلة، متزوجة تزويجًا صحيحًا مدخولاً بها في التزويج الصحيح بالإجماع، وأن تكون مسلمة، فهما زانيان محصنان عليهما الرجم حتى يموتا».


صيانة الدماء أصل ثابت في الإسلام

لقد استدلّ الفقهاء على الرجم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ومع ذلك فلا نكاد نرى في التاريخ الإسلامي حوادث متواترة «ظواهر» عن رجم الزناة؛ ذلك لأن الشروط التي وُضعت لذلك كانت ولا تزال صارمة تحافظ كل المحافظة على حياة الناس ودمائهم، فلا تستهين بذلك أبدًا، حتى إن كثيرًا من الحدود أُلغيت لوجود شبهة فيها تحت العمل بالقاعدة الأصولية: “درء الحدود بالشبهات”، وهي القاعدة المستمدة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجًا فخلُّوا سبيله فإن الإمام أن يُخطئ في العفو خير له من أن يُخطئ في العقوبة»، وهذا ما فعلَه النبي صلى الله عليه وسلم مع ماعز حين جاءه معترفًا فأعرضَ عنه أولاً، ثم ردّه أكثر من مرة، ثم قال له: «لعلَّك قبَّلتَ أو غمزت أو نظرتَ» رجاء أن يرجع ماعزًا عن اعترافه بشبهة أو غيره.

لذا؛ كان اعتراف الزاني أو الزانية بالفعل أصلاً وشرطًا لازمًا يستوجب العقوبة، فضلاً عن أن يشهد على هذه الواقعة أربعة من الشهود العدول، وهذا صعب التحقيق إن لم يكن مستحيلاً في مثل هذه الفاحشة، ومن ثم كان جُلّ من أوقع عليهم النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة الرجم ومن بعده صحابته إنما كان باعترافهم؛ تطهيرًا لأنفسهم من عذاب الآخرة.


أحاديث الآحاد والعمل بها

إن أعجب ما صاحب اجترار دعوة الإمام أبي زهرة حول ردّ عقوبة الرجم، حديثًا عن خبر الآحاد والعمل به باعتبار أحاديث الرجم منها!!

وهذا أمر شديد الغرابة، ومع غرابته كان الأئمة الأعلام قد انتبهوا إليه من قديمٍ، وردّوا عليه، قال الإمام الماوردي في «الحاوي»: «والدَّليل على وجوب الرَّجم ما قدَّمناه من الأخبار عن الرسول الله – صلَّى اللَّه عليه وسلَّم – قولًا وفعلًا، وعن الصَّحابة نقلًا وعملًا، واستفاضته في النَّاس وانعقاد الإجماع عليه حتَّى صار حُكمه مُتواترًا».

والحق أن دعوى التشكيك في خبر الآحاد والعمل به -تحت منطلق ظنية الدلالة- قديمة كان القدرية والجهمية والمعتزلة من أوائل من تناولوها، وكان الغرض من هذه الدعوة فتح الباب أمام تأويل أسماء الله وصفاته، والحديث في أبواب العقيدة بلا قيد أو ضابط؛ اعتمادًا على القرآن فقط، ولما كان أكثر السنة النبوية أحاديث آحاد، ومنها ما في صحيحي البخاري ومسلم؛ كان ردّها بمثابة ردّ لكل السُّنة النبوية، ومن ثم ردّ للأصل الثاني من أصول الإسلام.

وأحاديث الآحاد هي كلُّ حديث لم يَبلُغْ حدَّ التَّواتُر، حتَّى وإن كان مستفيضًا، ولو كان صحيحًا مِمَّا اتَّفق عليه البخاريُّ ومسلمٌ، وأخذته الأمة عنهما بالقبول.

ولقد وقف كبار الأئمة أمام المشككين والرافضين العمل بأحاديث الآحاد في أبواب العقائد أو الأحكام (الفروع)، وردّوا في ذلك ردًّا شافيًا كافيًا من قديم، قال الإمام الشافعي في كتابه «الرسالة»: «ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديما وحديثاً على تثبيت خبر الواحد، والانتهاء إليه، بأنه لم يُعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبَّته جاز لي. ولكنْ أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفتُ من أن ذلك موجوداً على كلهم». أي إن الشافعي وهو المتوفَّى في بداية القرن الثالث الهجري لم يسمعْ من شيوخه أن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وكبار علماء السلف حتى زمنه قد اختلفوا فيما بينهم حول حجية العمل بأحاديث الآحاد عمومًا.

وزاد على ذلك الإمام ابن عبد البرّ القرطبي وهو من علماء القرن الخامس الهجري في «التمهيد» قائلاً: «أكثر أهل الفقه والأثر وكلُّهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات ويعادى ويوالى علها ويجعلها شرعًا ودينًا في معتقده على ذلك جماعة أهل السُّنَّة ولهم في الأحكام ما ذكرنا».

فإذا كان سلفنا وعلماؤنا في تراثنا يقبلون العمل بأحاديث الآحاد في مسائل الاعتقاد وهي أصل الدين وأسّه، فكيف نردّ هذه الأحاديث في الأحكام وفروع المعاملات؟

إن شبهات المشككين في السنة النبوية صارت مكرورة منذ المستشرقين، وكان ردّ العلماء عليها بكل ثقة وأناة وأدلة قاطعة مزيدًا في تبيان صحة هذا الدين وشريعته، وقطعًا للطريق أمام كل مستهزئ أو جاهل يريد العبث بنظام الإسلام وقوانينه، وكم كتبَ الكُتّاب في فلسفة العقوبات في الإسلام، وعظمة نظامها وآثارها في حفظ أنفس الناس وأموالهم وأعراضهم وأبضاعهم ومجتمعاتهم، لكن بعض بني جلدتنا لا يغرنهم إلا صفير الصافر، وتهييج غبار المعارك الفارغة التي لا يتكئون فيها على أرض صلبة لا لشيء إلا شد الانتباه إليهم!

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. صحيح البخاري، تحقيق مصطفى البُغا، دار ابن كثير، الطبعة الثالثة – بيروت، 1987م.
  2. صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
  3. الشافعي: الرسالة، تحقيق أحمد شاكر، مكتبة الحلبي – القاهرة، 1940م.
  4. ابن عبد البر: التمهيد لما في الموطّأ من المعاني والأسانيد، تحقيق مصطفى بن أحمد العلوي , محمد عبد الكبير البكري، نشرة وزارة الأوقاف المغربية.
  5. الماوردي: الحاوي الكبير، تحقيق الشيخ علي محمد معوض – الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى – بيروت، 1999م.
  6. تفسير ابن كثير، تحقيق سامي محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، 1999م.
  7. ابن المنذر: الإجماع، تحقيق فؤاد عبد المنعم أحمد، دار المسلم للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2004م.
  8. ابن هُبيرة: إجماع الأئمة الأربعة واختلافُهم، تحقيق محمد حسين الأزهري، دار العلا للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى – القاهرة، 2009م.
  9. الجرجاني: الديباج المُذَهَّب في مصطلح الحديث، مصطفى البابي الحلبي وشركاه – القاهرة، 1931م.
  10. تفسير القرآن الكريم للشعراوي، مطابع أخبار اليوم – القاهرة.
  11. يوسف القرضاوي، ابن القرية والكتاب «المذكرات الشخصية»، دار الشروق – القاهرة.