مع ارتفاع منسوب التوتر في الأراضي الفلسطينية المحتلة بسبب تكرار محاولات المستوطنين اقتحام المسجد الأقصى، يضع القادة الإسرائيليون أياديهم على قلوبهم خوفاً من تكرار سيناريو معركة «سيف القدس» في نفس الوقت من العام الماضي حين تساقطت الصواريخ على تل أبيب وانفجرت المواجهات في المدن المختلطة، وأثبتت الآلة العسكرية فشلها في توفير الأمن للكيان العبري.

وقد نجحت حماس وفصائل المقاومة في منع الاحتلال من تهجير سكان حي الشيخ جراح بالقدس، لكن بتكلفة كبيرة بلغت أكثر من 200 شخص ارتقوا في عداد الشهداء، فضلاً عن خسائر مادية فادحة طالت قطاع غزة.

ويشبّه القادة اليهود القدس بأنها مثل عود كبريت يمكن إن اشتعلت المواجهات بها أن ينتشر التصعيد الأمني في كافة المناطق، ولذلك أصبحت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تشعر بالقلق من الاحتكاك مع الفلسطينيين خلال شهر رمضان مع إدراكها هشاشة الوضع وقابليته للتفجير، فخفض الجيش من أنشطته العملياتية في المدن والبلدات الفلسطينية، وقلل عدد الاعتقالات.

إلا أن ذلك لا يعني وجود إجماع إسرائيلي على التهدئة بل تبقى هناك أصوات معاكسة ولها تأثير وثقل، في وضع يعيد التذكير بالأيام التي سبقت معركة العام الماضي، لكن الفارق هنا هو الإدراك العميق بأن التصعيد في القدس لن يقتصر عليها.

العصا والجزرة

 سعت تل أبيب بعد معركة سيف القدس العام الماضي إلى تحسين الشروط المعيشية للفلسطينيين -ولو بشكل لا يرقى للحد الأدنى من حقوقهم- كبديل عن تقديم حلول سياسية، وبدأت مفاوضات مع السلطة الفلسطينية منذ عدة أشهر من أجل تصفية مشاكل عالقة منذ سنوات تخص الأوضاع المعيشية للفلسطينيين، كتسهيل إجراءات لم شمل العائلات الفلسطينية على جانبي الخط الأخضر، وتعديل ظروف العاملين منهم داخل إسرائيل، وبحث تفعيل الملحق الاقتصادي لمعاهدة أوسلو الذي يطالب الاحتلال بتحويل 19 مليار دولار تقريباً لمصارف وجهات تابعة للسلطة الفلسطينية هي مجمل ما تقتطعه وزارة المالية الإسرائيلية من العمال الفلسطينيين على مدار أكثر من خمسة عقود تحت مسميات التأمينات والمعاشات وخلافه.

وتم إعطاء عمال غزة في إسرائيل نحو 20 ألف تصريح عمل كالتي تُعطى لزملائهم في الضفة الغربية، بالإضافة إلى تسهيلات في تنقل الفلسطينيين وبضائعهم بين الضفة وأراضي الخط الأخضر، والسماح لذوي معظم أسرى غزة بزيارتهم في شهر رمضان بعد أكثر من 7 سنوات من الحرمان.

ويقود هذه الخطة غسان عليان، منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، وهو ضابط عربي درزي برتبة لواء، شارك في اقتحام مخيم جنين عام 2002، وغزو لبنان عام 2006 وقاد كتيبة الاستطلاع في حرب غزة نهاية 2008، وقاد لواء «جولاني» في اجتياح القطاع أيضاً عام 2014، وارتكب مجازر بشعة ضد الفلسطينيين، واليوم يعد بمثابة الحاكم العسكري للضفة الغربية وغزة، لكنه لا يستطيع أن يمارس نفوذه داخل غزة بسبب سيطرة حماس.

ويعتمد عليان على أن تحسين الوضع الاقتصادي كفيل بالتأثير على الوضع السياسي، وأن منح الفلسطينيين مكاسب اقتصادية قليلة سيجعلهم يشعرون بحاجة للحفاظ على الهدوء لأن التصعيد يضر بهم، وهذا الأسلوب يمنح الاحتلال أدوات مواجهة غير عسكرية، تمكنه من التحكم في الشرايين الاقتصادية للعرب بجرة قلم، فمنع أكثر من 150 ألف عامل فلسطيني من دخول إسرائيل ليوم واحد قد لا يقل تأثيراً عن الدخول في مواجهات مع فصائل المقاومة.

ويحاول وزير الدفاع بيني غانتس منذ عدة أشهر ممارسة دور الرجل الطيب وتقديم نفسه كشخصية معتدلة، فهو أكبر مسؤول إسرائيلي التقى مؤخراً مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وفي بداية شهر رمضان كشف لعباس عن استعداده للتوسعة على الفلسطينيين إن سمح الاستقرار الأمني ​​بذلك.

وعلى غير المعتاد، لم يشن الاحتلال غارات على غزة رداً على صاروخ تم إطلاقه من القطاع ليلة 22 أبريل/نيسان، بل اكتفى غانتس بغلق معبر بيت حانون/إيريز أمام الفلسطينيين الذين يعملون بإسرائيل، وأعلن الجيش الإسرائيلي أن المعبر سيعاد فتحه حسب تقييم الوضع، وبعد يومين لم يشهدا أي تصعيد أعلن غسان عليان، أنه سيتم فتح المعبر في اليوم التالي مبيناً أن استمرار فتحه مشروط ببقاء الهدوء وعدم شن هجمات.

 ومع حجم الدمار الضخم الذي طال القطاع خلال معركة مايو/أيار 2021، تحاول حماس أن تخلق الأجواء المناسبة من أجل إعادة إعمار القطاع خاصة مع انتشار البطالة، لذا لم تعارض دخول العمال إلى إسرائيل أو الحركة التجارية معها لأنها تسببت في ضخ أموال كثيرة في شرايين غزة الاقتصادية التي شارفت على الهلاك.

وتبدو واقعة غلق المعبر ليومين مثالاً على اعتماد تل أبيب سياسة ردع جديدة أقل كُلفة، لكن تهدئة المواجهات مع غزة لم تمنع إطلاق صاروخ من لبنان باتجاه منطقة الجليل الأعلى، يُحتمل وقوف عناصر تابعة لحماس في لبنان وراء إطلاقه، مما يفتح الباب أمام احتمال أن تعمل المقاومة على تبريد الجبهة الجنوبية لمنع تدمير البنية التحتية في غزة بينما تشعل جبهات أخرى أقل كلفة خاصة مع عودة ظاهرة طعن وقنص جنود الاحتلال في الضفة الغربية وداخل الكيان العبري.

وبالتوازي مع ذلك أعلن تجمع لحركات المقاومة في غزة تشكيل «الهيئة الوطنية لدعم وإسناد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948» لتضم حماس والجهاد والجبهتين الشعبية والديمقراطية، بهدف توحيد نضال الشعب الفلسطيني، والتصدي لمحاولات عزل الفلسطينيين داخل الكيان الصهيوني عن بقية أبناء شعبهم، وتبني قضاياهم مثل أزمة تهجير بدو صحراء النقب.

الضفة الغربية على صفيح ساخن

مع تكرار حوادث اقتحام ساحة المسجد الأقصى فإن الأمور قد تشتعل في الضفة الغربية وقد يجبر هذا الوضع حماس وحركات المقاومة في غزة على التدخل، خاصة مع تراجع دور السلطة الفلسطينية برئاسة عباس، حتى أن حاتم عبد القادر، الوزير السابق لشؤون القدس، وعضو المجلس الثوري لحركة فتح، وصف دور السلطة تجاه الأحداث بأنه هامشي ولا يرقى إلى مستوى المخاطر التي تتعرّض لها المدينة، وأعلن أن منظّمة التحرير فقدت قدرتها وفعاليتها إلى حدّ كبير.

يأتي هذا بينما تتردد أحاديث عن سيناريو حل المنظمة أو انهيارها مما سيفتح باب المقاومة في الضفة الغربية وينهي أي تفاهمات يعتمد عليها الاحتلال لإدارة المشهد، لذلك أعلن الاحتلال بدء تحويل أموال العمال إلى رام الله لتعزيز السلطة مالياً مع بداية شهر أغسطس/آب المقبل.

وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية، نفتالي بينت، أصدر قراراً بمنع عضو الكنيست الإسرائيلي اليميني المتطرف، إيتمار بن غفير، رئيس حزب العظمة اليهودية، من المرور بمسيرة الأعلام من باب العامود والحي الإسلامي في القدس منعاً لتفاقم الأمور، خاصة في ظل تركيز قادة حركة حماس على القدس ودعواتهم المكررة إلى التجمع في المسجد الأقصى لحمايته من الهجمات الإسرائيلية.

وحذرت جهات إسرائيلية من أن عدم الاستجابة إلى مطالب الأردن فيما يتعلق بالمسجد الأقصى، سيسهم في تصعيد الموقف دون رغبة من الأردنيين، في ظل وصول عدد المصلين في صلاة التراويح إلى ربع مليون شخص وتجمعهم للرباط في المسجد الأقصى بأعداد كبيرة يصعب السيطرة عليها.

وتطالب عمّان بتسلم كل الصلاحيات اللازمة لإدارة شؤون المسجد الأقصى، ومنع المستوطنين من الدخول إلى ساحته، والتأكيد على التزامات اتفاق 2014 برعاية وزير الخارجية الأسبق جون كيري، التي تعني قصر حق أداء الصلاة في المسجد الأقصى على المسلمين فقط، وذلك حينما كادت تتسبب محاولة صلاة اليهود في الأقصى في اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة.

وعيّن الأردن مؤخراً عشرات الحراس الجدد في المسجد الأقصى، لكن الاحتلال رفض دخولهم وطلب الحصول على أسمائهم وهو ما رفضته الأوقاف الأردنية.

وتمارس المملكة الهاشمية الإشراف على المسجد، عبر وزارة الأوقاف والمقدسات والشؤون الإسلامية، وهو حق تعترف به تل أبيب وفقاً لاتفاقية وادي عربة المبرمة عام 1994، لذا فإن الملك عبد الله الثاني يعد وصياً على المسجد الأقصى بصفته ملكاً للأردن.

ويجري الكيان الصهيوني اتصالات مع الأردن لبحث سبل التهدئة، وقد استدعت عمان السفير الإسرائيلي احتجاجاً على الاقتحامات الإسرائيلية للمسجد في عيد الفصح اليهودي.

وتحاول عمّان منع انهيار السلطة، وقد استضافت القاهرة قمة ثلاثية جمعت الملك عبد الله الثاني، ومحمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي، والرئيس المصري، هي الثانية من نوعها التي تجمع قادة الدول الثلاث خلال شهر، بعد القمة التي جمعتهم برئيس وزراء العراق في مدينة العقبة الأردنية في 25 مارس/ آذار الماضي.

وبحث القادة الثلاث مدى إمكانية وقوع حرب جديدة مع غزة كما حدث العام الماضي، وسبل الحفاظ على بقاء السلطة كـممثّل للشعب الفلسطيني ومنع انهيارها، في ظل سخونة المشهد وتزايد احتمالات حدوث انتفاضة شعبية شاملة تنطلق من الضفة الغربية.