في القرن السابع عشر تأسست «الدونمة» في مدينة أزمير التركية كطائفة دينية، وحركة سياسية، حيث اتخذت شخصيتين مزدوجتين، الأولى إسلامية شكلية، والثانية يهودية أصلية، فكانت تمارس الشعائر الإسلامية ظاهريًا، مع أدائها طقوسها اليهودية داخل المعابد سرًا.

ويذكر عبدالله سالم ميلطان، في دراسته «تنظيمات وجمعيات يهودية تحارب الأديان.. حركة الدونمة نموذجًا (1626- 1675)، أن عقيدة هذه الطائفة تأسست على الإيمان بفكرة المسيح المُخلص في اليهودية، وهي الفكرة التي تضرب بجذورها في عمق التراث اليهودي، وأدبياتهم، حتى أن صلواتهم مليئة بالإشارات إلى الأمل المسيحاني، وانتظار المسيح، والتطلع إليه، وأن ظهوره من أصول المعتقدات اليهودية الثلاثة عشر التي وضعها الفقيه والفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون، والتي يجب على اليهودي الإيمان بها.

 ومع أن فكرة المسيح المُخلص أو المنقذ كما يراها اليهود لم يأت ذكرها بشكل صريح في التوراة، إلا أن هناك إشارات له ولعصره في بعض أسفارها منها «أن يكون من نسل النبي داوود، وأن يكون قاضيًا ومعلمًا للتوراة، وأن يكون نبيًا، من أفضل الأنبياء بعد موسى، عليه السلام، وأن ولادته يجب أن تكون في اليوم التاسع من آب، طبقًا للتقويم العبري، باعتبار أن التقاليد اليهودية ترى أن الهيكل اليهودي دُمر في هذا اليوم».

ظروف مواتية لظهور المسيح المخلص

لا يمكن فصل ظهور هذه الطائفة عن الأحداث التي مرت باليهود خلال القرن السابع عشر، حيث تعرضوا في كل أنحاء أوروبا وبخاصة في إسبانيا إلى محنة كبيرة، وأصبحوا في وضع سيئ للغاية لم يشهدوه من قبل على مر العصور، فتيقظت في أوساطهم دعوى المسيح المنتظر لينقذهم مما هم فيه من العنت والعذاب والإبادة.

ويذكر محمد علي قطب في كتابه «يهود الدونمة. أصلهم. نشأتهم. حقيقتهم»، أن هذه الأجواء كانت مواتية لادعاء شخص يدعى سباتاي زيفي النبوة، وهو الذي عرف بالذكاء والطموح، إضافة على ما كان عليه من علم ومعرفة في الشؤون الدينية، وكذلك اهتمامه الكبير بالرياضيات الروحية وإتقانه فن تحضير الأرواح، ما جعله قادرًا على الإتيان بأمور استحوذ بها على عقول البسطاء والسذج، وكذلك التغلب على مناقشيه ومحدثيه.

ووُلد سباتاي في عام 1626 بمدينة أزمير التركية، من أبوين مهاجرين من إسبانيا، إثر الاضطهاد الديني الذي عم اليهود هناك، حيث خضعوا بشكل وحشي كبير لمحاكم التفتيش التي أنشأتها الكنيسة الكاثوليكية، ما أدى إلى هجرتهم لبقاع عديدة منها ولايات الدولة العثمانية.

سباتاي زيفي
سباتاي زيفي
/

وفي سنة 1648، أشاع سباتاي بين أصحابه المقربين أنه نبي، فصدقوه واتبعوه، بعد ما أخبرهم أنهم سيحكمون العالم، وأن حكمهم لن يقتصر على أمم الأرض، بل سيتعداها إلى جميع المخلوقات في أعماق البحار، فكل هؤلاء مسخرون لخدمتهم ورفاهيتهم. لكن رئيس الحاخامات في أزمير جوزيف إيسكابا مع طائفة من رجال الدين ثاروا عليه وعقدوا محكمة دينية واتخذوا قرارًا بإعدامه وقتله، ولكن بغير طائل، لأن قوانين البلاد لم تكن تسمح بذلك.

أدرك سباتاي ضيق محيط أزمير وانحصار الأمر فيها، فارتحل إلى إستانبول، ونزل على أحد الحاخامين، ولكن الدعوة لم تجد صداها المطلوب فشد الرحال إلى أثينا، ثم عاد إلى أزمير عام 1659، وأقام في بيت أبيه لا يأتي بأي عمل يشد إليه الناس أو يجلب إليه الأنظار، وقد يكون سبب ذلك السلبية التي واجهها في رحلاته من الحاخامين والكهان.

وفي عام 1663، خرج سباتاي إلى القدس، ومنها إلى القاهرة، ثم عاد إلى القدس، وفي المدينتين لم يُظهر شيئًا من دعواه المزعومة خوفًا على نفسه.

لكن عند مروره بغزة التقى هناك رجلًا يدعى إبراهام نطحان، فتعارفا، وأظهر له سباتاي مكنون فؤاده ونبوته فصدقه إبراهام وتحمل تبعة التبشير له في محيطه وغيره من الأماكن، فكان رسول سباتاي إلى الناس.

وفي مطلع سبتمبر عام 1666 حط سباتاي رحاله في أزمير عائدًا إليها، وجمع حوله كثيرًا من الأنصار، وأضحى يهود أزمير رهن إشارته، وبدأت الوفود تأتيه من الخارج من رودس وأدرنة وصوفيا وألمانيا، وكان لقاء الناس معه يُعقد في جو مشحون بالتقاليد الدينية المألوفة.

وأجريت لسباتاي مراسيم لبس التاج، وبدأ ينظم أموره وأمور أتباعه ومريديه وفق نظم وتقاليد جديدة، إذ يستقبل زواره بمواعيد ومراسيم معينة.

وقسم سباتاي العالم حسب تعاليمه الجديدة إلى 38 منطقة، وعين لكل منها ملكًا، كما غير بعض العادات والتقاليد اليهودية، وكان يوقع رسائله إلى الخاصة والعامة بتوقيع «ابن الله الأول والوحيد».

«مسيح الدونمة» يُعلن إسلامه

وتذكر هدى درويش في كتابها «العلاقات التركية اليهودية وأثرها على البلاد العربية»، أن سباتاي قلب الشريعة اليهودية رأسًا على عقب، ولم يكن يتردد في جعل بعض الأشياء الممنوعة بصورة قطعية مباحة، ما أدى إلى بروز خطر وفوضى بين اليهود، الذين كانوا يخضعون من قبل لحاخاماتهم في نظام متماسك عبر القرون، إضافة إلى ارتباطهم في جميع حياتهم المعيشية بأوامر الشريعة.

كل ذلك كان كفيلًا بإثارة عدد من الحاخامين اليهود ضده، فأبلغوا السلطان محمد الرابع في أدرنة عن طريق القائمقام مصطفى باشا بادعاءات سباتاي، مؤكدين أنه رجل فاجر منغمس في الملذات، ويغير من طاعة أتباعه للسلطان، ويشجعهم على الثورة ضد الدولة، وأنه ينبغي التخلص من شروره.

في تلك الفترة لم تتدخل الدولة العثمانية في أمر المسيح المزيف تأكيدًا على تسامح العثمانيين الديني واستقلالية اليهود في الدولة، كما كانت الدولة العثمانية مشغولة بحروبها في كريت.

لكن في أواخر ديسمبر عام 1665 اصطحب سباتاي أتباعه وذهب بهم إلى إستانبول، ولدى وصوله قُبض عليه، واقتيد إلى سجن «زندان قابيسي» في جزيرة «غاليبولي».

وبسبب هذه الأفعال تسبب ساباتاي في إزعاج السلطات العثمانية، فاستدعاه السلطان العثماني محمد الرابع في 15 سبتمبر 1666، وخيره بين الموت أو إثبات دعوته، وهنا أدرك ساباتاي أنه لا مناص من الموت، فأنكر ادعاءه بأنه المسيح المنتظر، وأظهر رغبته في اعتناق الإسلام.

وبالطبع كان لا بد من تفسير ديني لما حدث، فأشاع أتباعه أن «شخصية سباتاي عرجت إلى السماء، وحلّ محلها بأمر الله مسيح يرتدي ثوب مسلم». وبهذا تحول ساباتاي من مسيح مزيف إلى مسلم مزيف، وتسمى باسم «محمد أفندي عزيز»، وخصص له السلطان ريع وظيفة رئيس البوابين في القصر السلطاني.

وأرسل سباتاي نشرة لأتباعه قال فيها «جعلني الله مسلمًا، أنا أخوكم محمد البواب، هكذا أمرني وأطعت». فعرف مريدوه أنه يطلب منهم البقاء على عهدهم له، وأنه فعل ذلك مجاراة للواقع، وتجنبًا لمخاطر الموت.

لكن ذلك لم يحل دون إصابة عدد من اليهود بالإحباط بسبب اعتناق مسيحهم الإسلام، بدلًا من نشر اليهودية في جميع أنحاء العالم كما كانوا يعتقدون، ونتيجة لذلك قدم إبراهام ناطحان تفسيره حول سلوك سباتاي، مستندًا إلى معرفته بالكتب الدينية، إذ رجع إلى بعض الكلمات الغامضة في هذه الكتب، وقال «إنه ينبغي دخول المسيح بين الأمم غير اليهودية، وإشعال الشرارات المقدسة الكائنة فيها، وتنبيه الأشخاص المقدسين والأولياء رغم جهلهم هذا، على أن حركة المسيح هذه هي أيضًا لأجل غاية إلهية، وبهذا فإن المسيح كان يخلع نفسه ورغبته من جذره المقدس، ويعيد نفي إسرائيل مرة أخرى في ذاته. إن ارتداد سباتاي كان جزءًا ضروريًا من وظيفته».

بعد ذلك، قام سباتاي بتقديم طلب للسلطان للسماح له بدعوة اليهود للإسلام، وعندما أُذن له أمر مريديه بإعلان إسلامهم، فلبوا دعوته، ولبسوا الجبب والعمائم، فكانوا في الظاهر مسلمين، وفي الباطن يهود، وبلغ عددهم حينئذ مئتي أسرة استقرت في مدينة سلانيك.

وأُطلق الناس على أتباع سباتاي لفظ «الدونمة»، وهي كلمة تُستعمل كصفة مشتقة من المصدر التركي «دونمك»، بمعنى العودة والرجوع، وهي صفة تعني «العائد»، أي الذي أسلم بعد أن كان يدين باليهودية، ثم أصبحت تعني اصطلاحًا «المسلم ظاهرًا، اليهودي فعلًا وباطنًا».

أما الدونمة فأطلقوا على أنفسهم أسماء ضخمة مثل «المؤمنين» و«المجاهدين»، وكانوا يتسترون عن الناس بكل ما يثبت أنهم يهود، فتخفوا بأسماء إسلامية لا يستعملوها في بيوتهم، ولكن استعملوها في حياتهم العامة، وكانوا يستعملون العبرية في صلواتهم، والتركية في حديثهم مع عامة الناس، وكانوا يمارسون الشعائر الإسلامية إلى جانب الشعائر اليهودية.

18 مادة تؤسس عقيدة الدونمة

وتروي «درويش» في كتابها المذكور آنفًا، أن سابتاي تعلم أركان الإسلام وكان يذهب إلى معبد اليهود يقدم مواعظ تتعلق بمعتقداته، وكان يدعوهم إلى الإسلام من الناحية الشكلية فقط، وعندما سئل عن سر ذهابه إلى المعبد قال إنه يدعو الناس إلى دين الحق.

وقدم ساباتاي قائمة من 18 مادة تتضمن عقيدة الدونمة، وأسس دعوته، ومنها الإيمان بأن مسيح الله هو المسيح الحق، ولا مخلص غيره، و«هو سيدنا وملكنا سباتاي زفي، وأنه من نسل داوود.

وتضمنت القائمة عدم القسم بالله أو المسيح كذبًا، لأن اسم الله مندمج فيه أيضًا، وأنه يجب تناقل وشرح ودراسة سر المسيح من مجتمع إلى آخر، إضافة إلى ضرورة اجتماع كل الأتباع في بيت من البيوت في اليوم السادس عشر من شهر كيلسف (الشهر التاسع من السنة اليهودية)، على أن يتداولوا فيما بينهم ما سمعوه عن المسيح، وعن سر الإيمان بالمسيح، وكذلك أن يتم الاحتفال بسرور بالغ بالعيد الواقع في هذا اليوم من كل عام، وهو اليوم الذي أسلم فيه سباتاي في سراي أدرنة.

ومن بين المواد التي تضمنتها قائمة عقيدة الدونمة، قراءة مزامير داود سرًا كل يوم، ومراعاة عادات الأتراك المسلمين ذرًا للرماد في أعينهم، وعدم إظهار الضيق بصوم شهر رمضان، أو عند تقديم الأضحية، ونصت الأوامر أيضًا على عدم الزواج من المسلمين.

خلفاء سباتاي: مسيح تلو الآخر

بعد سنوات من إسلامه أحس الأتراك بخطورة سباتاي فنفوه إلى ألبانيا، وحددوا إقامته في قرية داخلية سكانها جميعًا الأرناؤوط، ويصعب على اليهود الاقتراب منها، وهي قرية «الباسان»، وهناك عاش يتصل باليهود عن طريق الرسائل والمندوبين إلى أن مات في 30 سبتمبر سنة 1675 بمرض الكوليرا، ودُفن في مقابر المسلمين الأتراك في هذا المكان، بحسبما ذكر نبيل أنسي الغندور في كتابه «المسيح المخلص في المصادر اليهودية والمسيحية».

بعد موت سباتاي ورثه ابنه يعقوب في رئاسة الفرقة، فادعى أيضًا أنه المسيح وأمر أتباعه بإظهار الديانة الإسلامية، فتبعه نحو أربعمائة يهودي أعلنوا الإسلام سنة 1687، وسافر إلى مكة للحج سنة 1690، وفي طريق العودة مرض ومات في الإسكندرية.

وورثه ابنه بركيا (1695 – 1740) وادعى أيضًا أنه المسيح المنتظر، ثم جاء واحد من نفس فرقة الدونمة فزعم نفس الزعم وقال إنه المسيح ابن يوسف.

وفي نفس الفترة ظهر مسيح آخر من أتباع سباتاي اسمه «مردخاي» من مدينة ايزنشتادت النمساوية، وقاد حركة كبيرة مؤداها أن رجوع سباتاي من السماء سيكون بعد ثلاث سنوات، ومرت هذه المدة دون أن يرجع صاحبه، فقلق أتباعه، ولكنه أقنعهم بفتوى مفادها أن سباتاي أضاع صفة المسيح لأنه عندما ظهر في هذه الدنيا أصبح كثير المال وواسع الثراء، ومن علامات المسيح المنتظر أنه يركب حمارًا، ولما كان هو نفسه فقيرًا جدًا، فقد ركب لهم حمارًا وادعى أنه هو شخصيًا المسيح بن داوود.

وصل صيت مردخاي إلى إيطاليا، فدعاه يهود روما للاحتفال به سنة 1680، ولكن قساوسة محاكم التفتيش علموا بأمره وقرروا قتله، فهرب من روما إلى بولندا، وعاش بها مختفيًا إلى أن مات.

فرق «الدونمة»: منهج واحد وفروع مختلفة

يذكر «ميلطان» في دراسته المذكورة آنفًا، أن وفاة سباتاي قبل أن يكمل مشروعه كانت سببًا مباشرًا ورئيسيًا في افتراق جماعته وأنصاره إلى مجموعة من الفرق، رغم اتفاقهم على تنفيذ ذات المشروع، لذا فإن فرقة الدونمة لم تنته بموته، بل استمرت من بعده كعقيدة ومنهج، مع بعض الاجتهادات من قبل رؤساء تلك الفرق.

 وانحصرت «الدونمة» في ثلاث فرق رئيسية، منها «اليعقوبيون»، نسبة إلى زعيمهم يعقوب جلبي شقيق زوجة سباتاي المسماة «بوهيفيد»، والتي أعلنت إسلامها وسميت «عائشة».

وقسم «جلبي» جماعته إلى قسمين، الأول للأغنياء، والآخر للفقراء، وكان لكل منهم زي خاص، ورجال الفرقة تميزوا بحلق شعورهم بالموسى، وإرسال لحاهم، وكانوا أكثر فرق الدونمة عددًا.

وبحسب «ميلطان»، خالفت هذه الفرقة بعضًا من أوامر سباتاي كما حدث في مسألة الطلاق، الذي لم يكن يجيزه، كما أنهم نادوا بمنح المرأة النصف من الميراث، وحظروا عليها التبرج أمام الغرباء، حتى أظافرهن، إلى جانب إلزامهن بلبس نوع معين من الملابس البيضاء بدلًا من السوداء.

والفرقة الثانية هي «القراقاشية»، وتنسب إلى مصطفى جلبي، وهو من جماعة اليعقوبية لكنه انفصل عنهم سنة 1689، بعد ما رفض وصايا يعقوب بضرورة التظاهر بالإسلام من حيث العادات، ومسايرتهم بصوم رمضان، فابتدع خرافات وأساطير كثيرة، وأضاف وصايا على المرأة والذكور من حيث اللباس والاحتفال بالأعياد، وطالب بإيقاف العمل بالستة والثلاثين حظرًا التي وردت في التوراة والتي تعرف باسم «القاطعة»، وغلب على أفراد هذه الفرقة الفقر إذ كان أفرادها يعملون كحرفيين مثل الحمالين والإسكافيين والجزارين، إلا أن وضعهم تغير فيما بعد وأصبح الكثير منهم تجارًا خاصة في تجارة الأقمشة.

أما الفرقة الثالثة، فهي «القابانجية» وتسمى أيضًا «بابولار»، وتعني «الأنصار الحقيقيين»، ويطلقون على أنفسهم «كالفيروس» أي الفرسان أو الأشراف، وهم طائفة انشقت من «اليعاقبة» عام 1820، كما انشق بعض منهم عن «القراقاشية».

وحافظ أفراد هذه الفرقة على المعتقدات والطقوس الباقية من «سباتاي»، وأطلقوا على أنفسهم اسم «الأزميريين» تأكيدًا على ارتباطهم بالمؤسس الأول للطائفة الذي ولد في أزمير، والكثير من أعضاء هذه الفرقة عملوا مهندسين ومعلمين ومحامين، وكانوا أكثر ثراءً من أعضاء الفرعين الآخرين، وكانوا يحلقون لحاهم ويرسلون شعر رؤوسهم، ونساؤهم يضفرن شعورهن ضفائر رفيعة.