بعد فترة من العمر ستكتشف أن هُناك في هذه الحياة ما لن يدركه عقلك بسهولة تامة، هناك مُعضلات ستقف أمامها عاجزًا، لا تفهم كيف جرت ولا كيف ستجري فيما بعد، أو ما سبب وجودها من الأصل. وإذا كُنت من متابعي كرة القدم فلن تجد مفرًا من تردد ذلك السؤال في عقلك حينما تقرر أن تمر على الفرق العريقة تباعًا، وهو: لماذا يستمر أرسين فينجر على رأس القيادة الفنية في أرسنال إلى الآن؟ وهنا تكمن إحدى كبرى المُعضلات في المستديرة في العصر الحالي. لابد أن للعلم إجابة.

بدأ أرسين فينجر مسيرته مع النادي اللندني في عام 1996، ونجح في الحصول على لقب الدوري بعد ذلك بعامين، ثم كرر الإنجاز ذاته مرتين عامي 2001 و2003، الأخير هو الإنجاز الأكبر، حيث أنهى البطولة دون هزيمة واحدة طوال 38 لقاء، وخلال مسيرته التي تخطت العشرين عامًا، نجح فينجر في الظفر بكأس الاتحاد والدرع الخيرية «كأس السوبر المحلي» 7 مرات. لكن انعدام الفوز بأي لقب أوروبي في مسيرة الفرنسي، وغياب البطولات لسنوات عدة أهمها بطولة الدوري التي لم تزر خزائن النادي منذ قرابة الخمسة عشر عامًا، يؤكد أن مسيرة فينجر الإجمالية كمدرب لا يمكن أن توصف بالناجحة، لكن ما يجب الخوض فيه الآن أنه من الظلم أن توصف بالفاشلة.

من السهل عليك أن تقول تخلصوا منه لكن من سيكون البديل؟ من القادر على قيادة أرسنال بهذا الشكل لمدة 20 سنة قادمة؟
السير أليكس فيرجسون.

فينجر، المفتش كلوسو

مسيرة فينجر التدريبية لم تبدأ فقط من داخل أروقة ملعب الإمارات، ولا حتى هايبري، وبالرغم من أن الكافة سيحاولون العودة بالذاكرة إلى سنوات المجد في موناكو، التي فاز فيها بالكأس والدوري الفرنسيين ووصل لنهائي أبطال الكئوس الأوروبية، كعودة مؤكدة لبدايات أرسين يتناولها النقاد دائمًا، لكن بداية فينجر الحقيقية كانت داخل أسوار نانس الفرنسي.

الزخم التكتيكي الذي صنعه فينجر داخل الكرة الإنجليزية منذ وصوله لم يكن الشيء الوحيد الذي يمكن إضافته لميزات الفرنسي، لكن هُناك أشياء عدة صنعها فينجر باقتدار داخل كل الفرق التي دربها: وهي حُسن الالتزام والقراءة الجيدة لأمور كرة القدم.

فور تعاقد الفريق الفرنسي –نانس- مع فينجر تعاقد هو مع خبير تغذية لضبط الأمور داخل الفريق، ومن ثم أقام معسكرًا للفريق في « فال تورين » حتى يتأقلم لاعبوه على اللعب في المرتفعات التي توجود بها الملاعب في فرنسا، وهو ما ساعد النادي –مع إضافات فينجر التكتيكية كتحويله لمهاجم الفريق الأساسي لمركز المدافع والجناح الأيسر إلى مركز المدافع الأيمن – في البقاء ضمن كبار الدرجة الأولى بعد أن احتل المركز الثاني عشر في الترتيب.

لم تكن تلك البداية تخص مسيرة فينجر الكروية مع البطولات، لكنها بدايته مع فهم أمور الكرة واللاعبين بشكل أكثر دقة، فهم استمر معه لسنواتٍ طويلة ولم يفارقه، كما فارقته البطولاتُ كثيرًا.

بعد عدة سنوات في موناكو ورحلة قصيرة المدى باللغة اليابانية، قرر فينجر أن يتبع قلبه وأن يذهب إلى إنجلترا، الدولة التي تحتوي على جذور اللعبة على حد وصفه، وتحديدًا لأرسنال ،قال في مؤتمره الأول إنه يُحب روح الفريق والطموح الذي يتسم به.

أرسين فينجر أثناء تقديمه لجماهير أرسنال عام 1996.

الحارس الإنجليزي الكبير وأسطورة أرسنال المُعتزلة، ديفيد سيمان، كان قد قال إنهم حين علموا بتعيين مدرب فرنسي يُدعى « أرسن فينجر » على رأس الفريق، وخلفًا للمدرب « بروس ريوتش »، جميع اللاعبين استنكروا وبدأوا يتساءلون فيما بينهم عن ماهية ذلك المدرب المغمور، لكنهم جميعًا اعترفوا فيما بعد، أن بقدومه كل الأشياء تغييرت.

منع فينجر تداول الكحوليات داخل الفريق، الذي كان سلوكًا متبعًا بكثرة لدرجة أنه بات عُرفًا، لدرجة أن سيمان قد أكد أن فينجر منعهم من شرب الكحول وقت احتفالهم ببطولة الدوري الأولى لهم معه، مؤكدًا أن لا شيء تغير من ناحية الكحوليات، ثم بدل اللحوم الحمراء في طعام اللاعبين إلى الدجاج الأبيض المسلوق كتعديل كان سخيفًا في البداية بالنسبة للاعبين.

واستمرارًا لإدراك فينجر لشئون اللعبة أُعْطِيَتْ حقن فيتامينات جميع اللاعبين، وذلك من أجل زيادة قدرة التحمل لديهم، ليساعدهم على الصمود في وجه التحامات الدوري الإنجليزي المعتادة. اللاعبون في عهد فينجر الأول أطلقوا عليه لقب «المفتش كلوسو»، وهو شخصية خيالية من فيلم «النمر الوردي»، وذلك لشدة انضباطه.


تحطيم الصنم الإنجليزي

إحد كبرى مميزات المدير الفني الإنجليزي لفريق وست برومويتش ألبيون، «توني بوليس»، أنه الوحيد من بين المدربين في الدرجة الأولى الذي يتمسك باللعب الإنجليزي المعتاد في الاعتماد على الكرات الطويلة، وهي طريقة اندثرت في الكرة العالمية تمامًا في الوقت الحالي، لكن حين تولى فينجر الإدارة في أرسنال كان ذلك هو الأسلوب السائد في المملكة بالكامل، لكنه بالطبع لا يناسب ذلك العقل المنمق.

لعب أرسنال معه كرة قدم لم تشاهدها إنجلترا من قبل، تمريرات قصيرة ممتعة، مثلثات هجومية على الطرفين، وسلاسة في نقل الهجمة من الدفاع للوسط للهجوم، عودة بسيطة بالتاريخ إلى الوراء ستذكرك بانطلاقات هنري وبيريز وليونبيرج وويلتورد وتمريرات بيركامب الإعجازية وظهور آشلي كول وإيتامي المميز رفقة الجانرز، كل هذا يظهر أمامك في أرسنال ما قبل الألفية الجديدة وما في بدايتها.

أبدى فينجر تنوعًا كبيرًا على المستوى التكتيكي للفريق، أقحم الشكل التكتيكي 4-2-3-1 في الملاعب الإنجليزية، وضبط إعدادات الفريق الاستراتيجية على الاختلاف المتناسب مع ظروف كل لقاء، جعل الفرق المنافسة تتفاجأ في كل مرة تواجه فيها فينجر ونجومه الذين كانوا أشباحًا بسببه.

مشاهدة الفيديوهات ثم المزيد من مشاهدة الفيديوهات، هذا ما يفعله أرسن فينجر في وقت فراغه، يشاهد الكثير من الفيديوهات للخصوم وللاعبيه حتى أنه لم يكن يدرك أنه يستمر في ذلك حتى أوقات متأخرة من الليل.

ريتشارد كونتي مدرب فريق كان الذي عمل معه فينجر كمساعد في بدايته.

لكن مع الوقت، انتهى كُل ما سبق، وتحول أرسنال –فينجر- من فريق قوي بقيادة قوية إلى اللا شيء. رجل التكتيك والفهم الكروي الواقعي المؤثر أصبح أكاديميًّا يُجيد وضع الحكم والمعلومات على السبورة التدريبية، لكنه فاشل جدًا في تطبيقها فوق أرض الميدان. ويظل السؤال الدائم مُتردد: لماذا تنتظره الإدارة، ولماذا يعاند فينجر الجميع، حتى نفسه؟


كاثوليكية الزواج «الفينجري»

أرسين فينجر أثناء تقديمه لجماهير أرسنال عام 1996.
أرسين فينجر أثناء تقديمه لجماهير أرسنال عام 1996.

بعد هدم ملعب الهايبري وإقامة مشروع اقتصادي فوق إرث الأساطير، كان على أرسنال الدخول في وضع اقتصادي متأزم بديون تتراكم سنويًا، كانت للإدارة اللندنية شروط وضعت على طاولة التفاوض قبل البدء فيه، توفير النفقات تقليل المال المصروف البقاء ضمن الكبار.

كمدرب لفريق إنجليزي، هناك 3 مستويات من التحدي يجب أن تمر بهم، الأول هو حياة اللاعبين، يجب أن يكن لك تأثير ملحوظ وإيجابي على اللاعبين. الثاني هو الحفاظ على تناسق النتائج مع أسلوب اللعب الذي تحاول تطبيقه. الثالث، ويعتبر شخصي بالنسبة لحالتي، وهو كيفية تطوير النادي، وأن تتأكد أن النادي يمضي قدمًا بالقرارات التي تتخذها في كل مرة

أرسن فينجر في أحد اللقاءات التليفزيونية التي تتحدث عن حياته.

وافق فينجر، واستمر في الحفاظ على قيمة الفريق المادية من عام 2006 وحتى عام 2012، وهي الفترة التي تكاومت فيها ديون النادي لكنها كذلك الفترة التي أضاع فيها فينجر عقله التدريبي ووضع مكانه عقلًا اقتصاديًا جامدًا لا يقبل المتغيرات. لكن هذه الفترة كانت كافية جدًا لأن تضع علاقة فينجر مع إدارة المدافع في حد الزواج الكاثوليكي الذي لا يقبل الطلاق أبدًا، باستثناء وحيد، وهو أن يطلب فينجر بنفسه فك ذلك الارتباط بكامل قواه العقلية.

وحول رفض فينجر إتمام ذلك حتى الآن يُجيب أحد المقربين من فينجر منذ صغره، حين قال إنه تأثر كثيرًا بالطابع الألماني الذي يجري في دمه، حيث ولد فينجر في مدينة ستراسبورج داخل منطقة قديمو تُعرف بـ «ألزاس»، تقع على الحدود الشرقية لفرنسا وبالقرب جدًا من ألمانيا، واستكمالًا لرأي «تيبورس دارو» المقرب لفينجر، فإن العرق الألماني متحكم جدًا في صفاته الشخصية، فهو عنيد جدًا في كل الأمور ويظل يدفع أفكاره إلى حد بعيد من التمسك يجعل الكافة تغضب عليه.

وحسب تجربة علمية جرت في معهد ماكس بلانك الألماني، فإن كل من العالمين «كلاين وأولسبرجر» توصلا إلى نظرية مفادها أنه انخفاض الناتج من الدوبامين يعني أن بعض الناس يكونون ببساطة غير راضين عن قرار أو عمل تبين أنه خاطئ، ومن ثم فإنهم يكررون أخطاءهم. أما الأشخاص الذين يكون لديهم قدر كبير من الدوبامين فإنهم يقنعون من أول وهلة بأن الخطأ هو خطأ ومن ثم لا يشعرون برغبة في تكراره. الحالة الأولى توصف في المصطلحات الدارجة بالعند غير المبرر.

وقال الدكتور تيلمان كلاين، أحد القائمين على هذه الدراسة: ماذا كنا سنفعل لولا تلك القلة التي ترفض أن تقبل الفشل وتواصل العمل، في الوقت الذي يقبل فيه غيرهم الهزيمة، ولا يقومون بإعادة المحاولة؟

يعود فينجر ليؤكد: هناك حد من الاستمرار لابد أن تتبعه مع أفكارك، أن تكون عنيدًا هو شيء صعب جدًا، حينما تكون على صواب يجب أن تُكمل في قرارك وفي اتباع ما يمليه عليك عقلك، لكن حين تُخطئ؛ يبدأ الجميع بوصفك بالعنيد.

أكاد أجزم أن مشوار التعلم عند فينجر توقف عند حدٍ معين، حد ربما لم ندركه حتى الآن، لكن الأكيد أنه يراه.

المراجع
  1. بداية مشوار أرسين فينجر.
  2. فيلم وثائقي من إنتاج ال BBC عن أرسين فينجر.
  3. فيلم وثائقي من إنتاج Bein عن أرسنال فينجر.