أستيقظ صباحًا استعدادًا للذهاب إلى العمل، قبل غسل وجهي أو تناول إفطاري، أفتح تطبيق فيسبوك لأرى ماذا أصاب أصدقائي ومعارفي والعالم أجمع خلال ساعات نومي القليلة التي لا تزيد عن خمس ساعات في الغالب.

أصل إلى عملي، أفتح المتصفح، وقبل أن أشرع في العمل لا بد من مطالعة فيسبوك سريعًا، فقد استغرقت ما يقرب من الساعة ونصف بعيدًا عن الموقع.

يُصادف وجود مناسبة سعيدة في ذلك اليوم، إنه عيد ميلاد إحدى الزميلات، سنُحضر الكعك ونحتفل إذن، ولا تنسَ التصوير من أجل ذكريات جميلة لا تنسى. انتظر، سأضع تلك الصورة على ملفي الشخصي في فيسبوك.

شارف يوم العمل على الانتهاء، سأتحقق من عدد الإعجابات التي حصلت عليها صورتي. اللعنة… لم أحصل إلا على ثلاثين (لايك) فقط. آه من أصدقاء هذه الأيام، لا يدعمون الفرد أبدًا.

هل تشعر بتشابه يومك ويومي؟ أعتقد أن أيامنا تتشابه مع أيام الكثيرين، فنحن نستيقظ صباحًا ونذهب إلى العمل، وربما نحتفل بعيد ميلاد شخص ما، وبالتأكيد نتفقد حساباتنا في منصات التواصل الاجتماعي المختلفة.

تستحوذ منصات التواصل الاجتماعي على الكثير من أوقاتنا، فقد ذكر المجلس القومي للاتصالات أن المصريين يسجلون حوالي 52 مليون زيارة في مُختلف منصات التواصل خلال الساعة الواحدة. فلماذا نُكثر من استخدام منصات التواصل الاجتماعي إلى هذا الحد؟ وهل يُعتبر تكرار استخدامها إدمانًا؟ وهل لاستخدامها أي أضرار أخرى؟

«وطن الدوبامين»

تحكي الدكتورة Anna Lembke، طبيبة الأمراض النفسية والأستاذة بجامعة ستانفورد، قصة أحد مرضاها في كتاب بعنوان: «وطن الدوبامين: العثور على التوازن في عصر التسامح»، والذي نُشِر اقتباس منه في جريدة وول ستريت.

تقول الطبيبة:

أحد مرضاي شاب في بداية العشرينيات من عمره، ذكي وطيب القلب، زار عيادتي لمعاناته من القلق والاكتئاب. لقد ترك الشاب جامعته وذهب ليعيش مع والديه، كان يُفكر في الانتحار من حين لآخر، وكان يلعب ألعاب الفيديو معظم ساعات النهار وحتى وقت متأخر في الليل.
منذ عشرين سنة، كنت سأصف لذلك الشاب تناول بعض الأدوية المضادة للاكتئاب، أما اليوم فعلاجي المقترح هو الصيام عن الدوبامين؛ أي البعد عن كل شاشات اللاب توب والموبايل، إضافة إلى تجنب ألعاب الفيديو.

يظن الكثيرون أن الاكتئاب لا يُصيب إلا أولئك أصحاب الحظ العَثِر ممن يعانون من الصدمات النفسية أو الفقر أو المشاكل الاجتماعية، وهو أمر غير صحيح. يُصيب الاكتئاب حاليًا الشباب ممن يعيشون في بيئة اجتماعية جيدة -وربما مُترفة- ويمتلكون العائلة والأصدقاء، وربما يكونون من الحاصلين على أعلى الدرجات العلمية! فما هو السبب إذن؟

تشير دكتور Anna أن المتهم في هذه الحالة هو الدوبامين. لعلك سمعت عن ذلك الدوبامين من قبل وارتباطه بالسعادة في وقت ما. فما هو؟

الدوبامين ناقل عصبي يُنتِجه المخ، والنواقل العصبية هي مُركبات كيميائية الهدف منها نقل (الرسائل) بين الخلايا العصبية، أو ما بين الخلايا العصبية والعضلات.

مثال بسيط للتوضيح: إذا وضعت يدك على جسم ساخن، تُرسل خلايا الجلد رسالة إلى الجهاز العصبي -باستخدام النواقل العصبية- لتنبيهه بوضع الخطر، فيرد الجهاز العصبي بإرسال رسالة إلى العضلات للتصرف المناسب وهو إزاحة اليد بعيدًا. تحدث تلك العملية بالكامل خلال أجزاء قليلة من الثانية.

نعود إلى الدوبامين، والذي يلعب دورًا كبيرًا في التحفيز الإيجابي للعقل ومكافأته، بمعنى إذا ما كنت تعمل بجد واجتهاد للحصول على حافز مادي إضافي من شركتك، أو كنت تذاكر لتنجح في امتحان ما، فإن حصولك على الجائزة المادية أو النجاح في الامتحان يؤديان إلى إفراز الدوبامين، ما يُشعِرك بالانتصار والرضا عن إنجازك.

هل يُشعرك الدوبامين بالرضا -أو قل السعادة- فقط عند تحقيق إنجاز ما؟ بالطبع لا… لماذا تشعر بالسعادة عند تناول نوع البيتزا المفضل لديك؟ ولماذا يشعر الرجل بالسعادة بعد العلاقة الجنسية؟ ولماذا يشعر أحدنا بالراحة بعدما يذهب إلى المول وينفق مئات -ربما آلاف- الجنيهات؟

باختصار، يُفرَز الدوبامين عندما نفعل أمرًا ما محبوبًا إلينا. وللأسف، تُعد ألعاب الفيديو ومنصات التواصل الاجتماعي من محفزات إفراز الدوبامين، ما يحقق لنا السعادة.

كيف نُدمِن وسائل التواصل الاجتماعي؟

قد تتساءل عزيزي القارئ، يبدو أن إفراز الدوبامين ذاك يزيد من شعورنا بالسعادة، فلماذا إذن كل ذلك القلق؟ ألا نرغب في أن نكون سعداء طوال الوقت؟

اكتشف علماء علم الأعصاب أن الشعور بالسعادة والألم أيضًا يُعالجان في نفس المناطق بالمخ، ودومًا ما يحاول المخ فرض التوازن بين هذين الشعورين، فعندما يزداد شعور الإنسان بالحزن مثلًا، يعكس المخ ذلك الشعور في صورة كيميائية بالحد من الحزن وزيادة الشعور بالسعادة، وصولًا إلى التوازن. يُطلق على هذه العملية (Homeostasis).

تبدأ العملية بأدائك لفعل يزيد من سعادتك، فيفرز المخ الدوبامين الذي يصل إلى مستقبلاته، فيُفعِّلها لتشعر بالسعادة. في النفس الوقت تحقيقًا لمبدأ التوازن، يحد المخ من عدد هذه المستقبلات المُفَعَلة، أي يعمل على حث الشعور بالألم -كيميائيًا- إلى أن يُكافِئ مستوى السعادة. فما النتيجة النهائية؟

النتيجة هي شعورنا المؤقت بالسعادة لبعض الوقت، ثم العودة إلى الشعور العادي، لا سعيد ولا حزين. تُفسِر عملية التوازن تلك شعور البعض منا بالإحباط البسيط مباشرةً بعد حدوث موقف سعيد.

يبدو الوضع جيدًا حتى الآن، نمارس بعض الأفعال فنشعر بالسعادة ومن ثَم يسعى المخ إلى استعادة التوازن الطبيعي. ما ضرر ذلك علينا؟ وما هو الرابط بين منصات التواصل الاجتماعي والاكتئاب؟

الإنسان الطبيعي يقضي أوقاته ما بين السعادة والحزن، يسعد لتواصله مع أسرته، لمقابلة عدد من أصدقاء المدرسة، لممارسة رياضته المفضلة، لتناول وجبة مُحببة إليه بعد يوم عمل شاق. كذلك يُحبَط الفرد من فشل تجربة عاطفية، عدم النجاح في امتحان ما، حدوث خلاف بينه وبين زميل العمل، وقد يحزن لعدم إمكانية السفر في صيف هذا العام، أو لفقدان شخص مُقرب.

دعونا ننحرف قليلًا عن الموضوع الرئيس لنتحدث عن مشكلة أخرى وهي «الإدمان». الإدمان ببساطة هو تعاطي مادة كيميائية ما بغرض الحصول على السعادة، ويحدث ذلك -كما شرحنا سابقًا- بتحفيز إفراز الدوبامين. لا يكون الإدمان إدمانًا إلا بالتكرار، أي أن يعتمد المُدمن على هذه المادة الكيميائية أو تلك كمصدر وحيد لسعادته.

يتطور التناول المستمر لتلك المادة المخدرة من مجرد محاولة لاكتساب السعادة إلى عادة طبيعية، فالمخ الآن يحتاج لتلك المادة من أجل إفراز الدوبامين بالنسب الطبيعية للحفاظ على المزاج العام للإنسان! فما الذي يحدث إذا قرر الفرد التوقف عن تناول هذه المواد؟ يتعرض الفرد للأعراض الانسحابية المعروفة مثل التوتر والقلق والأرق، وربما الوصول إلى الاكتئاب.

صُممت منصات التواصل الاجتماعي لتتكيف مع نظام المكافأة الموجود في المخ؛ فعندما ينشر أحدنا صورة ما أو منشورًا فكاهيًا أو سياسيًا مثلًا، فإن أول ما ينتظر الحصول عليه هو الإعجاب أو (Likes)، فتجدنا نزور منشورنا كل خمس دقائق لمشاهدة عدد الإعجابات المتزايد، ويا للصدمة إذا لم يحصل ذلك المنشور على أي إعجابات!

عمومًا، زيارتنا المتكررة لمنصات التواصل الاجتماعي بحثًا عن الإعجابات مشابه تمامًا لتناول الفرد للمواد المخدرة، حيث إن الإعجابات تحفِّز إفراز الدوبامين وتُفَعِل نظام التوازن، الأمر الذي يؤدي إلى إدمان زيارة تلك المواقع.

عقدة المقارنات الاجتماعية

في مفارقة قد تبدو طريفة، إلا أنها حزينة في حقيقة الأمر، نشرت صحيفة النيويورك تايمز قصة نشوء خلاف بين زوجين أثناء قضائهما شهر العسل، والسبب هو منصات التواصل الاجتماعي.

يُعبِّر الزوج السيد سميث صاحب الأعوام الثمانية والثلاثين عن المشكلة قائلًا:

لقد كان الأمر مُشابهًا لجلسة تصوير خاصة بإحدى المجلات… لقد شعرت بالعذاب.

كانت الزوجة، السيدة سميث تعمل في مجال التسويق الرقمي، الأمر الذي حفّزها على نشر أحداث شهر العسل على موقع إنستغرام، الأمر الذي أدى للأسف إلى استغلال نصف عدد أيام الإجازة في التصوير، ثم تحرير تلك الصور لجعلها أفضل ما يكون، بالإضافة إلى وضع خطة نشر كاملة.

تقول الزوجة:

لقد كان ينبغي أن أُثبت للعالم أنني أقضي وقتًا ممتعًا… كان زوجي حزينًا معظم الوقت لكنني لم أجعل تلك المشكلة حائلًا بيني وبين التقاط أفضل الصور في مُختلف الأماكن والأوقات… المشكلة هي أن زوجي لن يتذكر إلا تلك اللحظات المزعجة عندما يتذكر إجازتنا لقضاء شهر العسل.

للأسف لا يمتد تأثير مداومة زيارة منصات التواصل الاجتماعي إلى ذلك الحد فقط، تتحدث الطبيبة «جاكلين سبيرلنج»، أخصائية الأمراض النفسية في مستشفى مكلين (McLean)، عن رأيها بشأن أضرار إدمان منصات التواصل الاجتماعي، وتضيف:

حتى لو استطعنا إزالة زر الإعجاب من مُختلف منصات التواصل الاجتماعي، سيظل بإمكانية الزوّار إجراء المقارنات بينهم وبين الآخرين، كما يستطيعون الحصول على تقييمات الآخرين طالما ما زال بالإمكان كتابة التعليقات.

وتعليقًا من الطبيبة على أسباب إدمان مواقع التواصل الاجتماعي، تقول: «طالما كان رد الفعل غير متوقع، فغالبًا ما يتكرر السلوك».

يسعى زوّار منصات التواصل الاجتماعي إلى الحصول على تقييمات إيجابية، كما يحصلون على قيمتهم المعنوية عن طريق الانتماء للدوائر الاجتماعية المختلفة.

فهل ذلك يعني أن نُغلق كافة حساباتنا على منصات التواصل الاجتماعي؟ ربما! ولكنه ليس الحل الأمثل بالتأكيد، فخير الأمور الوسط! الحل الأمثل هو التعامل طبيعيًا مع هذه المنصات، ووضع حد لاستخدامها المُكثف!

نعود إلى صديقنا مُدمن ألعاب الفيديو… في اعتقادكم، ما هي النصيحة العلاجية التي وجّهتها دكتور Anna إليه؟ الابتعاد عن ألعاب الفيديو تمامًا لمدة شهر.

كانت النتيجة رائعة، لقد انخفضت حدة الاكتئاب والقلق لدى الشاب. صرّح الشاب أنه أفضل حالًا منذ سنوات طوال، ونصحته الطبيبة بلعب ألعاب الفيديو لمدة يومين فقط أسبوعيًا، بمعدل ساعتين في اليوم الواحد.

يُمكننا الاستمتاع بكل الرفاهيات المتاحة حولنا طالما استخدمناها بحد معقول، وذلك للحفاظ على صحتنا الذهنية، والتي غالبًا ما تكون آخر اهتماماتنا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.