إن عمر الأحلام هو بعمر الإنسانية تمامًا، فحيثما وُجد الإنسان وُجد معه الحلم، حتى أنه يمكننا أن نقول عن الإنسان إنه «حيوان حالم». والحلم من هذه الناحية يشبه «الدين»، وكذلك يشبهه من ناحية أخرى، وهي الاختلاف والتباين في تفسير الظاهرة، وفي تبين أصولها وجذورها وأسبابها.

في كتابه «اللغة المنسية»، تناول عالِم النفس الألماني «إيريك فروم» مسألة الأحلام، وأورد خلاله أيضًا آراء عالِم النفس النمساوي سيجموند فرويد، كذلك عالِم النفس السويسري كارل يونغ.[1]

يشير فروم إلى أن الأحلام نُظر إليها قديمًا على أنها آتية من قوة إلهية عُليا، فهي رسائل ترسلها لهم تلك القوى فوق الطبيعية، ولذلك كان يجتهد الإنسان في معرفة ما ترمي إليه تلك الرسائل وما تخبره به. بل أن هناك من كان يرى أن الأحلام هي خبرة فعلية من خبرات النفس.

«الأشنتي» إحدى القبائل البدائية، كانت تعتبر مثلًا أن على الرجل، إذا حلم بأنه أقام علاقة جنسية مع زوجة رجل آخر، أن يدفع الغرامة التي تتوجب عادة على من يرتكب فعل الزنا. إذ إن روحه وروح المرأة الآثمة قد أقاما علاقة جنسية وجد هناك أيضا التفسير الرمزي، حيث يكون لكل رمز يظهر في الحلم دلالة معينة فيتم تفسير الحلم من خلال تفسير الرموز الواردة فيه.


الأحلام عند فرويد

إن المبدأ الذي يحكم تفسير فرويد للأحلام ينبع من فهمه للنفسانيات بشكل عام. هذا المبدأ ينص على أننا ننطوي في دواخلنا على قوى ومشاعر ورغبات هي التي تملي علينا أفعالنا، رغم أننا لا نعي منها شيئًا.

القوى المذكورة تشكل في رأي فرويد ما يسميه بـ «اللاوعي»، مما يعني أمرين متلازمين: أولهما، أننا لا نعي وجود هذه القوى، وثانيهما، أن هناك «رقابة» شديدة تحول بيننا وبين وعينا لها.

هذه القوى المكبوتة لا تنعدم وجوديًا، ولكنها تختفي عن أنظار الوعي وتظهر أحيانًا متنكرة في زي الأعراض العصابية، التي اكتشف فرويد أنها تتحدد بعوامل داخلية.

وتشكل الأحلام فسحة كبيرة لهذه الدوافع المكبوتة لتظهر من خلالها، وحتى هنا، يرى فرويد، أن الرقابة تكون موجودة بحيث يكون التركيز في الحلم على أتفه الأمور بينما الدوافع الأساسية تكون فيه ثانوية ومهمشة.

وكما استطاع فرويد أن يرى بفضل فهمه لعمليات اللاوعي تفسير بعض الهفوات، مثل النسيان وفلتات اللسان، وذلك بردها إلى دوافع لا عقلانية. فنسيان اسم معين مثلًا مرتبط بالخوف أو بالغضب أو بشعور آخر من مثل هذه المشاعر، ولأن رغبتنا في استبقاء هذه الحالة المزعجة يجعلنا ننسى الاسم المرتبط بها.

ويتم فهم هذه الرغبات المعبر عنها في الحلم من خلال ما يسميه فرويد بـ «التداعي الحر للأفكار» وهي عملية رجوع بالذكريات إلى الماضي لمعرفة الدوافع المكبوتة. ويربط فرويد بين نظرية الأحلام ووظيفة النوم. حيث يقول:

ما الذي ينبغي لنا أن نقوم به عندئذ لكي نظل نائمين سوى أن نتخيل أن رغباتنا قد لُبيت وأُشبعت؟ وهكذا فإننا نتذوق حلاوة الانشراح والإشباع بدلًا من أن نعاني وطأة الكبت والقمع.

وهكذا يصل فرويد إلى الجزم بأن جوهر الحلم هو تلبية الرغبات اللاعقلانية تلبية خيالية، وإن وظيفته هي المحافظة على النوم.

ثم يصل فرويد إلى نتيجة أخرى متعلقة بطبيعة الأحلام، فالرغبات اللاعقلانية التي يعبر الحلم عن تلبيتها تعود في أصولها إلى فترة الطفولة من حياتنا؛ وأن هذه الرغبات كانت قد ظهرت ذات مرة عندما كنا صغارًا، ثم استمرت موجودة فينا بصورة مستترة ودفينة. لذا فهي تعود وتحيا من جديد في حياة أحلامنا.

قلنا إن فرويد يرى أن الـ «رقابة» تظل موجودة حتى في حالة الحلم، لذا فهو يذهب إلى أن العملية الأساسية في لغة الحلم هي عملية تقنيع الرغبات اللاعقلانية وتحريفها، وأن هذه العملية هي التي تمكننا من الاستمرار في النوم دون أن ينتابنا الانزعاج، ففرويد يعتقد أن وظيفة الرمز الرئيسية هي أن يعمل على تقنيع الرغبة الدفينة وتحوير شكلها. إنه يعتبر اللغة الرمزية كناية عن «كود سري» كما يعتبر تفسير الحلم كناية عن عمل يرمي إلى كشف سرية هذا الكود.

والكلام الرمزي عند فرويد لا يعتبر كلامًا للتعبير بصورة أو بأخرى عن جميع أنواع المشاعر والأفكار، بل هو كلام يعبر عن الرغبات الغريزية البدائية وحدها، فمعظم الرموز، في رأيه، هي من طبيعة جنسية.

ويشير فرويد إلى عاملين آخرين يجعلان فهم الحلم أمرًا عويصًا، ويزيدان من أهمية الوظيفة «التحويرية» في عمل الحلم. العامل الأول هو أن عناصر الحلم كثيرًا ما يكون معناها مضادًا لها بحد ذاتها. أما العمل الثاني، فهو أن مختلف العناصر لا تتسلسل في الحلم الظاهر تسلسلًا منطقيا.

إن تشديد فرويد على الطبيعة الطفولية للحلم لا يعني أنه لا يسلم بوجود صلة انفعالية بين الحلم والزمن الحاضر. فهو يعتقد أن الحافز على الحلم هو دائمًا حدث متعلق بالحاضر، وهو حدث يحصل عادة في النهار نفسه أو المساء نفسه الذي يسبق الحلم. لكن الحلم لا يمكن أن يتولد إلا عن أحداث على علاقة بميول تعود إلى الطفولة الأولى.

فالطاقة اللازمة إنما تنجم عن زخم التجربة الطفولية. لكن هذا الزخم لا يبرز أبدًا إلى حيز الوجود ما لم يحصل للحالم حدث قريب العهد من شأنه أن يحيي تلك التجربة القديمة، مما يجعل حصول الحلم في الوقت الذي حصل فيه بالذات أمرًا ممكنًا.


الأحلام عند يونغ

رأى كارل يونغ، وهو من أبرز تلامذة فرويد، تلك العيوب التي تشكو منها نظرية أستاذه، فخط لنفسه طريقًا، خاصة في تفسير الأحلام. فتخلى عن نظرية «التداعي الحر»، وسعى إلى تفسير الحلم بوصفه تعبيرًا عن حكمة اللاوعي، فهو يرى أن الفكر اللاواعي قد يكون في بعض الأحيان قادرًا على الإعراب عن ذكاء وإرادة أرفع بكثير من طاقتنا الواعية والمعتمَدة في مواجهة الأمور.

ويونغ لا يتوقف عند هذا الحد، بل يدافع عن وجهة النظر التي ترى أن هذه الظاهرة بالأساس هي ظاهرة دينية، والتي ترى أيضًا أن الصوت الذي يتكلم في أحلامنا ما هو بصوتنا، بل هو صوت يأتينا من مصدر فوقاني.

وهو يرفض رأي أستاذه في أن الحلم يعمل على تقنيع وإخفاء حقيقة دوافعه، فيقول:


الأحلام عند إيريك فروم

إنني أشك في مقدرتنا على القول بأن الحلم هو شيء آخر غير ما يبدو عليه، لهذه الأسباب جميعًا أعتقد أن الحلم، عندما يتكلم عن الدين، فهو بالفعل يتكلم عنه. إذ مادام الحلم نتاجًا متبلورًا ومتماسكًا، فبأي حق نسمح لأنفسنا أن تأبى تحليه بشيء من المنطق، أو أن تكون له غاية من الغايات؟ بتعبير آخر، لماذا نأبى عليه أن يكون محددًا من قبل أحد بواعث اللاوعي الذي يجد التعبير عنه تعبيرًا مباشرًا في مضمون الحلم؟
الحلم عند فروم هو من إبداع الحالم، حيث يقول:
وكائنا ما كان الدور الذي يقوم به الحالم أثناء حلمه، فإنه هو الذي يبتدع هذا الحلم. إنه حلمه هو، وهو الذي ابتدع حبكته ولا أحد سواه، وبالرغم من أن الأحلام لها صفات عجيبة، فهي لا تخضع لقوانين المنطق التي تحكم فكرنا أثناء اليقظة. كما أنها تجهل مقولتي الزمان والمكان جهلًا مطبقًا، ويتصف الحلم أيضًا بأنه يبعث في الذهن أحداثًا وأشخاصًا لم يسبق لها أن خطرت للحالم ببال منذ سنوات طويلة، ولم يكن له أن يتذكر وقائعها في حالة اليقظة أدنى تذكر.

رغم هذا، تظل الأحلام، بنظر فروم، أمورًا فعلية بالنسبة لمن يحلم بها، طالما أنه يحلم بها. وهي لا تقل فعلية عن أي خبرة من الخبرات التي تحصل لنا في حياة اليقظة.

واللغة الرمزية عند فروم هي اللغة الأجنبية الوحيدة التي ينبغي لكل منا أن يتعلمها. إذ إن فهمها يجعلنا نضع أيدينا على مصدر من أغنى مصادر الحكمة، كما أن هذا الفهم يضعنا على صلة بأعمق الركائز التي تقوم عليها شخصيتنا.

ولنلاحظ هنا أن فروم يستخدم تعبير «فهم» بدلًا من «تفسير»، فالكلام الرمزي كلام من نوعية خاصة، وإذا كان يشكل في جوهره اللغة الجامعة الوحيدة التي قيض للجنس البشري أن يبتدعها، فإن فهم هذه اللغة يصبح بالنسبة لنا أوجب بكثير من تفسيرها كما لو كنا حيال كود سري مصطنع. واللغة الرمزية لغة تتعبر بواسطتها الخبرات الحميمة والمشاعر والأفكار كما لو كانت خبرات معيوشة في العالم الخارجي أو أحداث من هذا العالم.

يميز فروم بين ثلاثة أنواع من الرموز: الرمز الاصطلاحي، الرمز العرضي، والرمز الجامع. الرمز الاصطلاحي هو المعروف لدينا والمستخدم بشكل شائع في كلامنا اليومي. مثلًا، دلالة كلمة «طاولة» على الشيء نفسه المسمى بهذا الاسم، حيث لا علاقة فعلية بين أحرف كلمة «طاولة» وبين الشيء الذي نسميه بها. وكما تكون الكلمات رموزًا اصطلاحية فقد تكون الصور أيضًا كذلك. مثل أعلام الدول.

أما الرمز العرضي فهو لا يكون شائعًا ومعروفًا، مثلًا هناك شخص عاش فترة بائسة في مدينة معينة فإن اسمها يصبح رمزًا للبؤس والشقاء بالنسبة لذلك الشخص.

يشترك كل من الرمزين، الاصطلاحي والعرضي، في أنهما لا يحملان علاقة جوانية مع ما يرمزان إليه.

أما الرمز الجامع فهو يتصف بوجود مثل هذه العلاقة الجوانية. مثل إشارة النار إلى الحيوية والدفء والنشاط والماء إلى الحياة والاستمرارية والحيوية.

يشير فروم إلى الترابط بين نمط النشاط الذي نقوم به وبين عملية التفكير الملازمة لهذا النشاط، فيقول:

إن الفرق بين الوظائف الحيوية أثناء اليقظة وأثناء النوم هو الفرق الذي يميز، في الواقع، صيغتين من صيغ الوجود، فإن مهمة الإنسان المستيقظ تتلخص في الحفاظ على بقائه. ولذا فهو يخضع للقوانين التي تحكم الواقع، في حين أن الإنسان النائم لا يهتم أدنى اهتمام بإخضاع العالم الخارجي لغاياته ومآربه. إنه يصبح عاجزا، ولذا سُمي النوم بحق شقيق الموت.

ويضيف: «رغم ذلك فنحن نكون أحرارًا خلال النوم، بل أكثر حرية مما نكون عليه خلال اليقظة، بل إننا نشبه الملائكة من حيث عدم خضوعنا لقوانين الواقع. خلال النوم يتراجع ملكوت الضرورة ويخلي مكانه لملكوت الحرية وتغدو كينونة الأنا مرجعية الأفكار والمشاعر الوحيدة. من هنا كان النشاط الذهني يخضع خلال النوم لمنطق مختلف تمامًا عن منطق اليقظة. فالتجربة التي يعيشها النائم لا شأن لها البتة بخصائص الأشياء التي لا تهمنا إلا عندما نواجه الواقع».

من هنا يقف فروم موقفًا وسطًا بين فرويد وبين يونغ في النظر لطبيعة اللاوعي، فلا هو ذلك الملكوت الأسطوري المشبع بخبرة متأصلة موروثة عن الجماعة العرقية، كما يقول يونغ، ولا هو ملكوت القوى اللاعقلانية الناجمة عن الليبيدو «الغريزة الجنسية»، كما يقول فرويد.

بل ينبغي أن يفهم بناءً على المبدأ التالي: «إن ما نشعر به وما نفكر فيه خاضع لما نقوم به». فالوعي هو النشاط الذهني الذي هو نشاطنا نحن في انصرافنا إلى مواجهة العالم الخارجي، أي بتعبير آخر، عندما نكون قادرين على الفعل، أما اللاوعي فهو الخبرة الذهنية التي هي خبرتنا عندما نعيش تلك الصيغة من الوجود التي ينقطع خلالها كل اتصال لنا مع العالم الخارجي.

هكذا يخلص فروم إلى أن للنوم «وظيفة متعددة الأبعاد، به يتجه غياب صلتنا بالحضارة إلى استخراج أفضل ما في دواخلنا وأسوأها في آن معًا. وبالتالي، فنحن قد نكون أثناء الحلم أقل ذكاءً وحكمة وحياءً مما نحن في حالة اليقظة، لكننا قد نكون أيضًا أفضل حالًا وأشد حكمة».

من هنا يرى فروم أن بعض الأحلام لها القدرة على التكهن بالمستقبل، كما أن هناك أحلامًا قد تعبر أيضًا عن حكم أخلاقي، وقد يقوم الحلم أيضًا بعمليات ذهنية أرقى من أفعال الذهن المستيقظ، مع أن الأحلام، كما يرى في الوقت نفسه، قد تكون تعبيرًا عن الوظائف الذهنية في أدنى درجاتها وأشدها لا عقلانية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. اللغة المنسية، إيريك فروم، ترجمة د. حسن قبيسي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، ١٩٩٥.