بعبارات مقتضبة لكنها واضحة أعلن رئيس الوزراء الهولندي، مارك روته، أنه سيقدم استقالة حكومته بالكامل إلى الملك، مارك قال إنه ليس سرًا أن شركاء التحالف الحاكم لديهم آراء مختلفة بشأن سياسة الهجرة، وأن تلك الخلافات وصلت إلى مرحلة يستعصي معها الحل، لذا فالحل الأخير هو تقديم الاستقالة للملك، لتُنهي تلك الاستقالة ائتلافًا هشًا صمد لمدة 18 شهرًا بأعجوبة.

تلك الخلافات تنهي حكم روته الذي أصبح أطول رؤساء الوزراء حكمًا في تاريخ هولندا برصيد 12 عامًا، واستغرقه الأمر 271 يومًا كاملة كي ينجح في تكوين الائتلاف الأخير.

الخلافات المشتعلة منذ مدة طويلة سببها الإجراءات المراد اتخاذها للحد من الهجرة، والانقسام بين حزب مارك روته المُحافظ، المعروف اختصارًا بحروفه الثلاث الأولى VVD، وبين نظرائه في الائتلاف، روته وحزبه يدفعان البلاد لتشديد القواعد المنظمة للهجرة واللجوء، بينما الائتلاف يرفض ذلك، فمثلًا يُصر روته على موافقة الأحزاب الثلاثة الأخرى في الائتلاف على تحديد سقف لعدد الأطفال الموجودين في مناطق النزاع الدولية والتي يحق لهم تقديم طلب لجوء لهولندا.

كما طالب الرجل بعدم السماح مستقبلًا للاجئين المستقرين في هولندا باستقدام أطفالهم أو أسرهم، فقد حدد الرجل حصة شهرية قدرها 200 طفل لكافة الأسر واللاجئين المستقرين، قضية مارك مع اللاجئين ليست جديدة، وفي كل مرة يكون الرجل مستعدًا لانهيار الحكومة بأكلمها ما لم تُمرر خططه، حتى حين تَوَافق الائتلاف حول ما عُرف بزر الطوارئ، حيث قرروا الموافقة على خطة مارك بالكامل، إذا تجاوز عدد اللاجئين فعلًا طاقة هولندا.

لكن الرجل عاد لممارسة هوايته المفضلة في تعطيل الحكومة كلها، ففي عام 2021، وسط الإجراءات المشددة لمكافحة فيروس كورونا والركود الاقتصادي، اتهم روته أكثر من 26 ألف فرد من الأسر مُعيلي الأطفال اللاجئين، وصفهم روته بالاحتيال للحصول على الأموال وأرغمهم على رد مبالغ ضخمة للحكومة، معظم من نالهم اتهام مارك كانوا من مزدوجي الجنسية، أي أنهم لم يكونوا هولنديين في الأصل ما فتح بابًا ضخمًا من اتهامات بالعنصرية ضد الرجل.

لكنه قدّم استقالة الحكومة، ودعا لانتخابات مبكرة وكله ثقة أنه سيحصد الولاية الرابعة في الانتخابات التالية، وقد نجح رهانه، ففاز حزبه حزب الشعب من أجل الحرية والديموقراطية بالانتخابات ووصل الرجل للسلطة مرة جديدة.

قمع تدفق اللاجئين

ينطلق مارك من قناعة أن اللاجئين لن يتوقفوا عن التدفق على هولندا إذا ما استمرت الإجراءات الصعبة حاليًا، لكن ممكن التواكب معها من قبل اللاجئين. يثبت صحة منطقه بارتفاع تلك الطلبات من قرابة 37 ألف طلب في عام 2021 إلى 38 ألف طلب في عام 2022، ويُتوقع أن يكسر حاجز الـ 50 ألف طلب بحلول نهاية العام الجاري، في بعض التقديرات المحايدة من المتوقع أن يصل الرقم إلى 77 ألف لاجئ وطلب لم شمل.

هذه الأرقام تضع هولندا في ما يصفه المتعاطفون والمنددون بأزمة، فتلك الحشود تتراكم أمام مراكز استقبال طلبات اللجوء في مدينة تير أبيل، ويضطر الآلاف من طالبي اللجوء إلى النوم في العراء خارج تلك المقرات، تتألف هولندا من 345 بلدية، واحدة فقط منهم هي التي استجابت لدعوة عام 2022 من وزير الدولة لشؤون اللجوء، إيريك فان ديور، ووفرّت 1700 سرير لطالبي اللجوء دون الـ 18 عامًا.

حاليًا يعيش أكثر من 30 ألف لاجئ في مساكن طارئة مثل القاعات الرياضية، والعبّارات، والمتنزّهات، لأن بلديات هولندا تتعنت في توفير أماكن إقامة لهم، في الإحصاءات الرسمية تقول إن 3 بلديات فقط، من أغنى 25 بلدية هولندية، هم من استجابوا فقط لتوفير أماكن إقامة للاجئين على مدار السنوات العشر الماضية.

ديور كان يريد تقديم تشريع إلى البرلمان يسمح للحكومة بإجبار السلطات المحلية على استقبال اللاجئين بنظام الحصص، لكن بالطبع لم ينجح الرجل في تقديمه في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2022، ولا في يناير/ كانون الثاني عام 2023، لكن ما صدر في تلك الفترة كان أمرًا من محكمة لاهاي تطالب فيه السلطات الهولندية بتحسين ظروف اللاجئين، وتقدمت الحكومة بطعن على هذا القرار فور صدوره.

خطة تقسيم اللاجئين

هولندا عمومًا تنتعش فيها الأحزاب اليمينيّة المتطرفة، ومارك واقع تحت تأثير تلك الأحزاب سواء لاقتناعه بها، أو لأنها الذراع القوي في حزبه وعليه الخضوع لها كي يبقى في السلطة، كما أن معارضي مارك الأقوياء هم أحزاب يمينية أشد تطرفًا، على رأسهم المعارض الشعبوي خيرت فيليدرز.

لهذا فكلما أراد سياسي الوصول للسلطة فعليه أن يتجه نحو اليمين أكثر. روته ذاته في رحلة صعوده كان يراهن على تلك النقطة، لذا في عام 2003 حين كان وزير دولة هاجم البلديات وأوصاهم بالحذر من أن المقيمين الصوماليين يحتالون على البلديات للحصول على المساعدات الاجتماعية، من تلك اللحظة بدأ نجم روته في الصعود حتى تربّع على عرش 4 حكومات متعاقبة، ويطمح للخامسة.

عبر إعلانه خطته للعامة وطلب موافقتهم عليها، يقول روته إنه يريد تقسيم اللاجئين إلى مجموعتين؛ الفئة الأولى هي التي تخشى الاضطهاد الشخصي المباشر في بلدها الأصلي، يمكن لتلك الفئة أن تتمع بمزايا اللجوء، أما الفئة الثانية فهي التي فرّت من خطر عام يهدد بلدها مثل الحرب، تلك الفئة يكون من حقها البقاء في هولندا فترة أقصر، ويصبح حقهم في لم شملهم بأسرهم أمرًا مقيدًا.

تلك الخطة التي لم يقتنع بها حزب الاتحاد المسيحي، وحزب الديموقراطيين 66، يبدو أنها قد تجذب الناخبين، خصوصًا من حزب الفلاحين اليمينيين، المتوقع حصوله رفقة حزب روته على 23 مقعدًا كحد أدنى، وبالإضافة لحزب يميني آخر يمكن لروته أن يشكل الحكومة ويَمضي إجراءاته.

لكن ما أغفله الرجل أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن 72% من الناخبين لم يعودوا يرغبون في وجود روته على رأس الحكومة، ليس اعتراضًا على سياساته، لكن اعتراضًا على غياب المنافسين، وأن الرجل أغلق الطريق أمام البدائل الأخرى، لذا فتلك المجازفة التي خاضها الرجل قد يدفع ثمنها بأن تكون الحكومة المستقيلة هي آخر حكومة يكون على رأسها.

الرهان على عنصرية الشعب

الانتخابات العامة التي تنتظرها هولندا لن تجري قبل نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، ما سيفتح المجال للمزيد من الأحزاب اليمينية للتنافس على جذب أصوات الناخبين الرافضين للجوء، طبعًا ليس كل اللجوء، فالإحصاءات تظهر ترحيبًا كبيرًا على المستوى السياسي والشعبي باللاجئين الأوكرانيين، وتشهد إجراءاتهم سلاسة شديدة، ولا يحتاجون للمرور بكل الصعوبات التي يواجهها لاجئو إفريقيا، أو دول أخرى مثل سوريا.

ويتعرض اللاجئون لهجمات عنصرية في أماكن إقامتهم، أو حتى في منازلهم المستقلة التي حصلوا عليها بعد إتمام أوراق ثبوتيتهم، من تلك الهجمات حادثة شهيرة جرت عام 2020 حيث أطلقت امرأة هولندية كلابها على سيدة سورية، وقام الزوج الهولندي بإطلاق الألعاب النارية على منزل السوريين متسببًا في إحراق جانب كبير منه.

ويمكن للانتخابات القادمة أن تُسفر عن عودة خيرت فليدرز للواجهة مرة أخرى، عبر حزبه الحرية، الحزب يتخذ خطًا واضحًا بمعاداة المسلمين خاصة، والمهاجرين عامة، وتتلخص خطته في إغلاق الحدود أمام المسلمين، ومنع دخول اللاجئين القادمين من سوريا والعراق، وإلغاء إقامة كافة اللاجئين الموجودين حاليًا في هولندا، كما ينوي الرجل غلق المساجد ومنع تدريس القرآن الكريم، بجانب حظر الحجاب، وحظر أي مظهر أو شعيرة إسلامية.

إذًا، فاللاجئون في هولندا على موعد صعب في الانتخابات القادمة، وتبدو كافة السيناريوهات لا تصب في صالحهم، وعلى الرغم من أن الجالية المسلمة في هولندا تتجاوز المليون فرد، ونسبتهم 5.1% من أصل 17 مليون نسمة هم عدد سكان هولندا الإجمالي، ويحتل الدين الإسلامي المرتبة الثانية بعد المسيحية في أكثر الأديان انتشارًا في هولندا، فإن تمثيلهم السياسي، وقدرتهم على إحداث فارق لكفة أي مرشح تعتبر ضئيلة في الظروف الراهنة، ويترقبون جميعًا ما ستسفر عنه الانتخابات القادمة.