كل شيء سار كما كان مخططًا له ومعروفًا سلفًا، فالمرشح إبراهيم رئيسي فاز برئاسة الجمهورية الإيرانية، وأقر منافسوه الثلاثة: محسن رضائي، عبد الناصر همتي، أمير حسين قاضي زادة هاشمي، بهزيمتهم وباركوا له النجاح الكبير.

فالسباق الرئاسي تعرض لما يُطلق عليه في إيران «هندسة» مُسبقة، أي ضبط الأمر مسبقًا للسيطرة على النتيجة، ويقوم بتلك المهمة مجلس صيانة الدستور المكون من 12 عضوًا، وهو الذي یختار المرشدُ الأعلى، علي خامنئي، نصفَ أعضائه بشكل مباشر، ويعين النصفَ الآخر رئيسُ القضاء الذي يعينه المرشدُ أيضًا، وتُشترط موافقة هذا المجلس على ترشح أي شخص للرئاسة أو البرلمان.

فلجنة الانتخابات الإيرانية أعلنت تسجيل طلبات ترشح 592 مواطنًا، اختار منهم مجلس الصيانة ٧ فقط، منهم ٥ من المتشددين المقربين من المرشد، ولم يتم إخطار أي من الآخرين بأسباب استبعاده، اللهم إلا ٤ فقط على أقصى تقدير، دون أن يتم الإعلان عن أسماء هؤلاء الأربعة!

تسبب هذا الأمر في تثبيط الملايين من المواطنين عن المشاركة في عملية نتيجتها معروفة سلفًا، وانتشرت حملات شعبية تدعو للمقاطعة باعتبارها أضعف الإيمان في الرد على قرارات مجلس الصيانة، فقد كان من ضمن المستبعدين الذين حُكم بعدم أهليتهم للرئاسة أحمدي نجاد، الذي شغل هذا المنصب لولايتين متتاليتين بين عامي ٢٠٠٥ و ٢٠١٣، وهو عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام حاليًّا.

سلطة مطلقة.. وفشل مطلق كذلك

حاول النظام استدراك الموقف دون جدوى، حتى إن صحيفة الجارديان نقلت عن إبراهيم رئيسي نفسه قوله إنه سيُجري بعض المشاورات لإيجاد درجة أعلى من المشاركة والتنافسية في الانتخابات، دون أن يوضح طبيعة تلك المشاورات.

ظهر المرشد علي خامنئي على التلفاز، واعترف بوقوع «ظلم» لبعض المرشحين، داعيًا إلى «رد الاعتبار» لهم. وعلى إثر ذلك، أعلن مجلس صيانة الدستور أنه قد يعيد النظر في الأمر. وقال المتحدث باسم المجلس عباس علي كدخدائي: «أوامر الزعيم الأعلى هي كلمة الفصل، ويجب طاعة حكمه، وسيعلن مجلس صيانة الدستور رأيه قريبًا، مع الاعتراف بأنه ليس منزهًا عن الخطأ»، لكن من الغريب أن شيئًا لم يتغير بعد كل هذا.

وكانت جبهة الإصلاح قد أعلنت في وقت سابق أنه ليس لديها مرشح في الانتخابات، وأعلنت لاحقًا رفض دعم عبد الناصر همتي، المحسوب على الإصلاحيين، لعدم إعطاء زخم وشرعية لهذه العملية «المهينة» على حد وصف المرشح الرئاسي السابق، مير حسين موسوي، أبرز زعماء الحركة الخضراء، التي تزعمت الاحتجاجات على تزوير الانتخابات عام ٢٠٠٩.

ويأتي استبعاد النظام للمنافسين الأقوياء كعلي لاريجاني ومحسن رفسنجاني ونجاد حتى لا يكون هناك أي احتمال لعدم فوز المرشح المُختار، وكي لا يتكرر سيناريو الحركة الخضراء، لا سيما وأن رئيسي كان من المسؤولين عن حملة قمع تلك الاحتجاجات، ووُقِّعت عليه عقوبات من الاتحاد الأوروبي عام 2011 بسبب هذا الدور.

وتشهد البلاد موجات احتجاجية متتالية منذ ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٧، بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، كان أبرزها الاحتجاجات التي عُرفت بـ«ثورة البنزين» في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، والتي وُضع اسم رئيسي على لوائح الإرهاب الأمريكية على خلفية تورطه في قمعها.

انتخابات.. واستفتاء على النظام أيضًا

إذًا لم يكن التحدي أمام نظام ولاية الفقيه في شخصية الفائز المعروفة سلفًا، بل كان هذا الاقتراع تصويتًا على شرعية النظام نفسه، وهو ما أدركه رؤوس السلطة الذين ألحوا بشكل غير مسبوق على ضرورة المشاركة في الانتخابات، بدءًا من المرشد الأعلى للثورة، علي خامنئي، الذي تمحور خطابه الأخير حول التحذير من مقاطعة الاقتراع، قائلاً إن «عدم المشاركة في الانتخابات يعني إبعاد الشعب عن النظام، وإذا انخفضت المشاركة في انتخابات يوم الجمعة، فسنشهد ضغوطًا متزايدة»، في إشارة إلى أن المقاطعة تعني إضعاف موقف النظام في الخارج. وفي خطابه السابق، أفتى بحرمة التصويت بورقة بيضاء، واستشهد بمقولة لسلفه الراحل روح الله الخميني، اعتبر فيها أن مقاطعة الانتخابات في فترات معينة قد تكون من أفظع الذنوب والمعاصي.

ووصل الأمر بإمام جمعة مدينة مشهد وممثل المرشد في محافظة خراسان رضوي أحمد علم الدين، وهو صهر رئيسي، إلى التشكيك في إسلام من يرفض الذهاب إلى التصويت، وقد أوضح رموز النظام بكل صراحة أن نسبة المشاركة أهم من نتيجة الانتخابات، فقد كان تدني نسبة المشاركة في التصويت متوقعًا، بعد الانتخابات التشريعية في فبراير/شباط من العام الماضي، التي سجلت أدنى مشاركة منذ قيام الجمهورية قبل أكثر من أربعة عقود.

وبناء على ذلك، عملت الأجهزة الحكومية على حشد الناخبين بأي طريقة، وقد تم رصد توزيع الرشاوى الانتخابية العديدة لا سيما الأطعمة على الفقراء، وحشد الموظفين والعسكريين، وكانت الحافلات تنقل المواطنين إلى اللجان التي يزورها المراسلون والصحفيون للتصوير.

رغم أن مقاطع فيديو تم نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي من مدن مختلفة في أنحاء البلاد، تشير إلى خلو الكثير من مراكز التصويت، هذا مع العلم أن الانتخابات لم تكن رئاسية فقط، بل أيضًا انتخابات المجالس البلدية والانتخابات التكميلية لكل من مجلسي خبراء القيادة والشورى، أعلن النظام عن نسبة مشاركة تقارب الخمسين بالمائة، بينما أعلنت المعارضة في الخارج أن النسبة لم تصل إلى عشرة بالمائة.

رئيسي: رجل المرحلة

لا تعد رئاسة الجمهورية في إيران المنصب الأعلى، فلا دخل للرئيس في تحديد اتجاهات السياسة الخارجية الإيرانية، بل ينفذ السياسة التي يختارها المرشد، فليس له دورٌ مؤثر في تقرير عودة إيران مثلًا إلى الالتزام بالاتفاق النووي من عدمه، وغير ذلك من الأمور المصيرية التي تُترك للمرشد من أجل البت فيها. فالمفاوضات التي تستضيفها العاصمة النمساوية فيينا بخصوص الاتفاقية النووية لن تتأثر برحيل روحاني أو مجيء رئيسي، بل إن نتيجة تلك المفاوضات أكثر تأثيرًا في السياسة الخارجية الإيرانية من نتيجة الانتخابات الرئاسية.

لكن نجاح رئيسي في الوصول إلى هذا المنصب يعني توحيد السلطات الثلاث، فهو يرأس القضاء بالفعل منذ عام 2019، كما أن مجلس الشورى يهيمن عليه التيار المتشدد منذ فبراير/شباط من العام الماضي، وبذلك يتحقق الاتحاد التام بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية تحت المرشد الأعلى الذي يملك مقاليد السلطة الحقيقية بما يملكه من صلاحيات، وبما يسيطر عليه من هيئات ومؤسسات غير منتخبة تتبع له مباشرة.

ويأتي هذا الحدث في وقت حساس بالنسبة إلى النظام، إذ لم تُحسم بعد مسألة خلافة خامنئي، ويبدو رئيسي الشخصية المُعدة لتبوُّء تلك المكانة التي تتضاءل أمامها سلطة الرئيس، فهو منذ اختياره عام 2016 سادنًا للعتبة الرضوية (إحدى أضخم الكيانات الاقتصادية في البلاد بجانب مكانتها الروحية الكبيرة) بات ينظر إليه باعتباره المرشد المنتظر، ورافق مسيرته منذ ذلك الوقت صدور عدة إشارات من المرشد، على غرار دعوته له لتدشين «مرحلة قوية تليق بالخطوة الثانية على طريق الثورة»، وذلك حين عيَّنه رئيسًا للقضاء عام 2019.

ويبدو الظرف اليوم مشابهًا للوضع إبان اختيار خامنئي لمنصب المرشد، إذ كان حينها رئيسًا للجمهورية، وكان الخميني قلقًا بشأن خليفته، وخشي من تفريط أتباعه في السير على خطاه، فأعاد ترتيب المشهد بشكل أكثر حزمًا، وأعدم آلاف المعارضين في صيف عام 1988 قبل وفاته بأشهر، وحينها كان رئيسي أحد قضاة «لجنة الموت» المسؤولة عن تنفيذ تلك المجزرة.