الأفغان على وشك مواجهة مجاعة مميتة، وهم حاليًا بالفعل يواجهون شتاءً باردًا. توقعات دولية أن يترك البرد القارس والجوع المحتمل عددًا كبيرًا من الضحايا. الانهيار الاقتصادي بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان كان متوقعًا، ولم يكن من المتوقع كذلك أن يصمد الاقتصاد الهش لطالبان طويلًا، لكن ما زاد الأمور قسوة هو العقوبات الأمريكية وتجميد الولايات المتحدة لقرابة 10 مليار دولار من الأموال التابعة لحكومة طالبان.

العشرات من الأفغان خرجوا في العاصمة كابول يتظاهرون، لا ضد طالبان، بل ضد العقوبات الأمريكية. فرغم الاستثناءات التجارية القليلة التي سمحت بها الولايات المتحدة في الأيام الأخيرة، إلا أن منظمة الصحة العالمية أصدرت تحذيرات متعددة من أن قرابة مليون طفل أفغاني قد يلقون حتفهم بنهاية الشتاء الحالي.

ينبغي أن يهتم أولئك الذين يعيشون في الغرب، الذين أعربوا عن قلقهم الشديد إزاء افتقار النساء الأفغانيات للحرية في ظل حكم حركة طالبان، ببقائهن على قيد الحياة أيضًا خلال هذا الشتاء.
جيورجيو كافييرو، زميل مساعد في مؤسسة مشروع الأمن الأمريكي.

الأطفال يحملون عبئًا كبيرًا في هذه الأزمة، فهم من يخرج للعمل لزيادة دخل الأسرة. وغالبيتهم يموت متجمدًا من البرد أثناء فرار العائلات من أفغانستان للدول المجاورة. ربما يمكن لوم جائحة كوفيد-19، والوضع السياسي تحت قيادة طالبان، لكن اللوم الأكبر يقع على عاتق الحكومة الأمريكية التي قررت معاقبة دولة على شفا الانهيار لدفعها نحو مزيد من التدهور.

روبرت شبيجل، مدير مركز الصحة الإنسانية في جامعة جون هوبكنز، كتب بعد عودته من رحلة ميدانية في أفغانستان أنه لو لم تغير الحكومة الأمريكية والحكومات الغربية سياساتها الخاصة بفرض العقوبات على أفغانستان فسوف يسفر ذلك عن وفاة عدد من الأفغان يفوق العدد المحتمل وفاته بسبب قيادة طالبان.

العقوبات الأمريكية تظهر تناقضًا غريبًا في التعامل الغربي مع أفغانستان. فقد كان المبرر الرسمي للاحتلال الأمريكي طوال عشرين عامًا هو حماية المدنيين الأفغان، وحفظ حقوق المرأة الأفغانية، والدفاع عن حق الطفل الأفغاني في الحرية. كل تلك الحجج تتلاشى أمام مظاهرات النساء والأطفال الأفغان لمطالبة الولايات المتحدة برفع العقوبات، وتكشف للداخل الأفغاني أن الولايات المتحدة لم تكن تبالي كثيرًا بهم عكس ما يُصر المسئولون الأمريكيون على التصريح به.

العقوبات لا تفيد

وأفغانستان ليست إلا مثالاً حديثًا عن نظام العقوبات الأمريكية الذي يُعتبر من أكثر الأدوات السياسية الأمريكية استخدامًا. لكنه في الوقت ذاته من أكثر الأدوات التي لا تؤدي غرضها. فمن قبل أفغانستان كانت الولايات المتحدة قد وضعت عقوبات شديدة القسوة على إيران بهدف إرغامها على التخلي عن برنامجها النووي. تلك العقوبات ازدادت قسوة في عهد الرئيس الأسبق دونالد ترامب، ثم استمرت في عهد الرئيس الحالي جو بايدن.

حتى كوبا لا تزال العقوبات الأمريكية سارية عليها، رغم أنها فرضت في فترة الحرب الباردة، ولا يبدو أن هناك أسبابًا منطقية لاستمرار فرض تلك العقوبات حاليًا. لكن تستمر العقوبات في تكدير حياة المواطن العادي، وإبعاد الشركات الاستثمارية عن الدول محل العقوبة، ما يحرم المواطن البسيط من فرص في التنمية أو الاستثمار أو الطموح في بناء شراكة عابرة للحدود.

العقوبات المفروضة على كوبا لم تجدِ نفعًا يُذكَر في تحقيق أهدافها السياسية، ولم تُسفر العقوبات المفروضة عن تغيير النظام، بل كل ما أنجزته هو إلحاق الألم بالشعب الكوبي.
ويليام ليو جراندي، خبير في العقوبات الكوبية، وأستاذ جامعي أمريكي.

وسيكون الألم المُلحق بالأفغان مضاعفًا. فعلى مدى عشرين عامًا اعتمدت الحكومة الأفغانية بشكل أساسي وحصري على تلقي المساعدات الخارجية من أجل البقاء. والنظام الصحي الأفغاني قائم بالكامل على الدعم الأجنبي.

وقطع الإمداد المفاجئ يضع كافة الأفغان في خطر كبير، دون أن يكون له مردود سياسي إطلاقًا، فما لم تنجح فيه حرب العشرين عامًا، لا يمكن أن تنجح فيه العقوبات أو أن تساهم في بناء حكومة أفغانية مستقلة تستطيع أن تُبقي على طالبان بعيدًا عن السلطة أو خاضعة للمواثيق الدولية.

المعاناة جوهر العقوبات

المعاناة من العقوبات ليست أمرًا عرضيًا بل فعل متعمد. ريتشارد نيبو، نائب منسق سياسة العقوبات في وزارة الخارجية الأمريكية، في كتابه فن العقوبات أوضح أن هناك عاملين يحددان احتمالية استجابة الأهداف للعقوبات الاقتصادية، هما المعاناة والعزيمة. يوضح نيبو مقصده بأن فعالية العقوبات تكمن في مقدار المعاناة التي سوف يتكبدها الهدف، لكن ربما كان الهدف يمتلك من العزيمة والإرادة ما يمكنه من تحمل تلك المعاناة والتغلب عليها. وبناءً على هذين المتغيرين يمكن للسياسي أن يُحدد جدوى العقوبات، لذلك فنيبو وصفها بالفن.

لكن الحاصل حاليًا هو أن العقوبات الأمريكية باتت بمثابة السوط، تُلهب به الولايات المتحدة ظهر كل دولة لا تتوافق معها. ذلك السوط وإن كان يخيف بعض الدول، ويجعل البعض الآخر يخضع، إلا أنه يدفع العديد من الدول لحماية نفسها من الوقوع تحت السيطرة الأمريكية أو للتحايل على العقوبات المفروضة، ما يعني تداعي وتآكل الهيمنة الأمريكية على الدولة محل العقوبات في نهاية المطاف.

يفرضون عقوبات على الجميع من أجل كل شيء
ريتشارد نيبو- مؤلف كتاب «فن العقوبات»

الجدير بالذكر أن العقوبات الأمريكية هي الأداة الوحيدة التي تُقرب بين حلفاء وأعداء الولايات المتحدة. فمثلًا حين قرر ترامب أن يضع تركيا على قائمة الإرهاب، ويفرض عليها عقوبات شبيهة بعقوباته على إيران، أدى ذلك إلى اتفاق تاريخي بين موسكو وأنقرة باستخدام العملات المحلية في التعامل بينهما بدلًا من الدولار الذي أضحى سلاحًا سياسيًا، كما وصفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

ليس الأعداء فحسب، بل حتى الاتحاد الأوروبي أكبر حلفاء الولايات المتحدة، قام بطرح أداة جديدة لدعم التبادل التجاري دون التقيد بالدولار الأمريكي، ويمكن المعاملة عبرها مع إيران دون أن يكون ذلك متعارضًا مع العقوبات الأمريكية. كما اتجهت فنزويلا وكوريا الشمالية للعملات المشفرة الرقمية كطريقة ناجعة للتحايل على القيود الأمريكية. كما تقوم روسيا بتحويل كافة احتياطاتها النقدية من الدولار إلى ذهب لتلافي، أو لتقليل تأثير، العقوبات الأمريكية الحالية والمستقبلية.

فوضى العقوبات تهدد الهيمنة

تعطيل العلاقات التجارية والمالية المتعارف عليها لأغراض سياسية وأمنية، يُعتبر ما سبق هو التعريف الأكثر شيوعًا للعقوبات الأمريكية. نظريًا يحق لأي دولة أن تفرض عقوبات على دولة أو شخص يعارضها، أو ترى فيه تهديدًا لوجودها. لكن الواقع أن الدول الكبرى ذات الاقتصاد القوي هي من يحق لها، أو يمكنها، فرض عقوبات لأنها هي من يمكنها التأثير على العديد من الأنظمة السياسية التي تتعامل معها اقتصاديًا. وفي الغالب ما تكون الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة التي تفرض العقوبات، والاتحاد الأوروبي أحيانًا.

بعض الكيانات يحق لها فرض عقوبات اقتصادية مثل مجلس الأمن والأمم المتحدة، لكن في تلك الكيانات تجب موافقة أغلب الدول الأعضاء، وهو ما يصعب تحققه في معظم الحالات. وتتأثر الدول المفروض عليها العقوبات بسبب هروب الاستثمار منها، وتراجع عائدات النفط في حالة روسيا، وبسبب منع التصدير كما في حالة إيران.

لكن مع استمرار الولايات المتحدة في فرض عقوبات أحادية الطرف، دون انتظار موافقة دولية، فإن الاحتمال الأكبر أن الدول الغربية الأخرى قد تتجاهل، أو ترفض، تلك العقوبات. ما يعني أنه في مرحلة ما سيكون على الولايات المتحدة منفردة تحمل عبء تنفيذ تلك العقوبات. كما أن طرق التحايل، بخلق كيان وسيط بين الولايات المتحدة والدولة المعاقبة، تجعل من تلك العقوبات بلا قيمة جوهرية.

ما يعني أن الولايات المتحدة سوف تدخل في حرب ضد الجميع، فستكون إما مضطرة لفرض عقوبات على الجميع، أو إلغاء العقوبات نهائيًا. مثلما حدث مع شركة روسال الروسية لإنتاج الألومنيوم، التي فرض عليها ترامب عقوبات اقتصادية عام 2018. تلك الشركة أنتجت 7% من إجمالي الألومنيوم في العالم، ومع فرض العقوبات عليها قفز سعر الألومنيوم بنسبة 10%، فاضطرت واشنطن تحت ضغط الشركات الأمريكية للتراجع عن تلك العقوبات نهائيًا.

التراجع أوضح أن العقوبات لم تكن مدروسة بشكل كافٍ، وأن الولايات المتحدة لم تكن تملك الإرادة اللازمة للمضي في دفع تكاليف عقوباتها. كما يكشف ذلك أنه في بعض الأحيان تكون أضرار العقوبات على منفذها أكبر منها على الهدف المقصود. التراجع عن العقوبات إهانة للجانب الذي فرضها. وستفقد الولايات المتحدة جانبًا مهمًا من تأثيرها، وتؤدي بفوضى العقوبات التي تمارسها إلى خلق مراكز اقتصادية قوية تمثل أماكن استيراد جذابة للدول المعاقبة، ما يساهم في تهميش الولايات المتحدة من موقعها كقلب نابض للعالم التجاري.