في مشهدٍ وُصِم من خلاله بلقبه التاريخي «الصغير»، يجثو «أبو عبد الله محمد الثاني عشر» ملك بني الأحمر وصاحب غرناطة الأخير وآخر من حُكَّام الأندلس من المسلمين عام 1492م ومن خلفه أمه، أمامه «فيرديناند» ملك أراجون، في زهوة المنتصر، وعلى يساره امرأته إيزابيل ملكة قشتالة.

كان ينبغي على الصغير أن يُقبِّل يدي الملك والملكة في إشارة للاستسلام التام مقابل الأمان الموعود لأهله وللمسلمين بغرناطة. غير أنّ أمّه عائشة -المُلقَّبة بـ الحرّة- يخور تحملها، فتطلب من الإسبان أن يتركوا لابنها شيئًا من ماء وجهه، فيقبل الملك المنتصر أن يعفي الصغير من الإذلال الأخير كما تقول الرواية تمجيدًا في فيرديناند.

يُسلِّم الصغير مفاتح غرناطة لـ فيرديناند ثم يمتطي جواده المكسور ليصعد أعلى تلّة رحيله ويلقي نظرةً أخيرة على غرناطة، فيرى انكسار سهام شمس إيبيريا وانعكاسها من قصر الحمراء مدركًا أنّ هذه آخر نظرة يلقيها على الحمراء، وغرناطة، والأندلس. [1]

هنا عاش المسلمون لثمانية قرون. جاؤوا بعلومهم ودينهم فعمروا الأرض وأخرجوا ثمارها ونظموا مياهها وبنوا مدنها، لكنّهم تفرقوا إلى دويلات، وظنت كل دويلة نفسها دولة إلى أن تفرق جمعهم وسقط ملكهم كأوراق الخريف. تجوب تلك الخواطر داخل قلب أبي عبد الله وتُسقيه ألم سقوط القرون الثماني في لحظة فلا يتمالك نفسه وتفيض عيناه بالدمع وهنا، تزيد عائشة بؤس ابنها بقولتها الشهيرة.

ابكِ مثل النساء مُلكًا مضاعًا لم تحافظ عليه مثل الرجال.

هنا كانت زفرة العربي الأخيرة، كما سُميت التلّة، وكما تروي رواية المنتصر والتي كعادة الروايات تكذب لتزيد المنتصر انتصارًا وتزيد الصغير صغرًا.

ظنّ المسلمون الآمنون على الشطر الآخر من المتوسط أنه جلّ ما في الأمر الحزن على غرق الأندلس والدعاء لأهلها المخذولين بالرحمة وهم ما بين متنصرٍ قسرًا أو قتيلٍ أو مُهجَّرٍ. لم يعلموا أن حواضر الإسلام بشرقها وغربها لتسقط بسقوط الأندلس، وما أشبه الليلة بالبارحة.

بداية عصر الاستكشاف

لنرجع قليلاً إلى الوراء. لم تسقط الأندلس في ليلةٍ ولكن ظلت لقرونٍ تسقط، فقبل السقوط وفي خضم حروب الاسترداد، تحوّل البرتغاليون من الدفاع للهجوم وحاولوا شنّ ضربة استباقية لمصدر المال والرجال لمسلمي الأندلس وهو المغرب الإسلامي، وتحديدًا الدولة المرينية، والتي امتلكت المغرب بالفعل وعددًا من المدن بالأندلس. هاجم البرتغاليون مدينة سبتة عام 1415م في محاولة لقطع طرق تجارة المسلمين عبر المتوسط وإلى غرب أفريقيا، فاحتلوها ودامت بعدها عددًا من الحروب التي كانت سجالاً بين المرينيين والبرتغاليين، لكن وجود موطئ قدم للبرتغاليين في شمال أفريقيا لم يمنحهم فقط سبيل قطع التجارة الإسلامية مع غرب أفريقيا ولكن أضاف إلى ذلك وجود نقطة انطلاق لاكتشاف غرب أفريقيا والبحث عن الذهب والعاج والسكر والعبيد وغيرها من السلع.

غير أن الهزيمة في الغرب قابلها انتصارٌ إسلاميٌ مدوٍّ في الشرق. ففي عام 1453م، تدخل جيوش السلطان العثماني محمد الفاتح مدينة القسطنطينية، ويتلقى العالم المسيحي الخبر المروع الذي يحمل انهيار الإمبراطورية الرومانية والكنيسة الشرقية في يد المسلمين، كذلك يتلقى التجار الخبر المفزع بوجوب عبور سفنهم الآتية من آسيا عبر مضيق بوسفور قسطنطينية العثمانيين الآن ومن هنا. وكذلك أضبح من الضروري والحتمي أن يبحث البرتغاليون عن طريق جديد يبدأ من البرتغال عبر سواحل أفريقيا ثم مباشرة للهند، لذبح شريان الاقتصاد التجاري الإسلامي.[2]

«رجاء أوروبا الصالح» وتطويق التجارة الإسلامية

خطة البرتغاليين واضحة، تحتكر البرتغال التجارة مع آسيا -وبخاصة التوابل- عبر الالتفاف حول غرب أفريقيا ومنها إلى آسيا، ثم رجوعًا إلى البرتغال ومنها إلى منافذ البيع بأوروبا ثم إلى أطباق الأوروبيين. قد يبدو للبعض سخافة أن تقوم الحروب من أجل التوابل، إلا أنه من الصعب تخيل أي طبق تقوم بإعداده دون التوابل، وبذلك كانت التوابل نفط القرن السادس عشر وكانت الهند خليج عربه.

يتطلب الأمر اكتشاف الطريق أولاً ثم إنشاء منافذ تجارة وقواعد عسكرية على طول الطريق لحماية التجار البرتغاليين وفتح الأسواق بالقوة إن دعت الضرورة، وكذلك من أجل التضييق على المسلمين وحرمانهم من كونهم الوسيط في تلك التجارة، بل وإغراق سفنهم وإكساد تجارتهم وتدمير أسواقهم.

من هنا وفي عام 1497م –أي بعد نحو خمس سنوات فقط من سقوط الأندلس– يبحر «فاسكو دي جاما» في أربع سفن من ميناء لشبونة معتمدًا على استكشافات غرب أفريقيا ممن سبقوه وعلى الخرائط الإسلامية بالأندلس والابتكارات البحرية الأندلسية إلى «جزيرة تنريف» ثم جزر الرأس الأخضر غرب أفريقيا ومنها إلى جنوب أفريقيا ثم التفّ شرقًا إلى موزمبيق، وتقول الروايات إنه نزل بها للتزود بالمؤن ليُفاجأ بأن أهلها مسلمون، فيتظاهر بالإسلام قبل أن يُكشف أمره ويفرّ إلى سفنه ويقصف المدينة ثم يبحر وينتهي إلى كالكوتا بالهند. [3]

بدأت طائفة التجار العرب والمسلمين بـ كالكوتا بمحاولة مقاومة التجار البرتغاليين الجدد لما رأوه من سحب بساط التجارة من تحت أرجلهم، ولكن وتحت مدافع البحرية البرتغالية تم تأسيس أول موقع تجاري برتغالي أو ما يُعرف بـ الفيتوريا (Fietoria).

والفيتوريا هي تلك الأماكن الحصينة بسلاح جند البرتغال، والتي تتم بداخلها التجارة الحرّة بين مملكة البرتغال وغيرهم من أهل المنطقة الأصليين. لكن تمت مداهمة فيتوريا كالكوتا التجارية من التجار العرب وتم قتل الحامية البرتغالية بها عام 1500م، ولذلك تم إرسال قوة برتغالية لتفتح أسواق كالكوتا بالمدافع والقوة، ولتقضي على أي تواجد إسلامي هناك، وبالفعل قامت السفن البرتغالية بإغراق سفينة تجارية مصرية مُحمَّلة بالتوابل والسلع في طريق عودتها لمصر، ومن ثمّ اضطربت التجارة بين مصر المماليك وبين الهند، مما رفع الأسعار، فكان بداية النهاية الاقتصادية للدولة المملوكية ولمصر كمركز العالم التجاري.

مقاومة المماليك للغزو الاقتصادي الصليبيّ بالهند

بعد قصف البرتغال لـ كالكوتا عام 1500م لفتح أسواقها ورد الاعتبار لمن قُتلوا حديثًا من تجار البرتغال، وإغراق السفن التجارية المصريّة وما تبع ذلك من أزمة اقتصادية في القاهرة، تنبّه السلطان المملوكي «قانصوه الغوري» للخطر المحدق وفي عام 1505م تم تجهيز الأسطول المملوكي للدفاع عن التجارة المملوكية مع الهند.

تحرك الأسطول بقيادة الأمير «حسين الكردي» إلى جدة وعدن على البحر الأحمر والخليج العربي لتحصينهما. لكن كانت التحصينات بلا جدوى، حيث بدأت القوة البحرية البرتغالية بشن الهجمات على جزيرة العرب من أجل إغلاق التجارة عبر مضيقي هرمز وباب المندب، لمنع التجارة من بر فارس وبحر مصر.[4]

وأسفرت الدبلوماسية المملوكية إلى إنشاء تحالف بحري إسلامي بين المماليك والسلطنة الكثيرية بحضرموت من جهة، وبين المماليك وجمهورية البندقية بإيطاليا من جهة أخرى، حيث إنهم تضرروا كذلك من تحول التجارة من البحر المتوسط.

قاتل الأسطول الإسلامي باستبسال رغم ضعف وخفة مراكبهم في معركة شاول عام 1508م، فانتصر المماليك ضد عدوهم في انتصار ساحق مات على إثره قائد الأسطول البرتغالي لورنسو دي ألميدا. وصلت أخبار الهزيمة لوالده الأدميرال البحري ووالي البرتغال بالهند فرانشسكو دي ألميدا، الذي أقسم بأن ينتقم لابنه الغريق.

 وصلت إمدادات البرتغاليين بعد نحو عشرة أشهر وانقلب النصر المملوكي إلى هزيمة بعدما وصلت الإمدادات البرتغالية عام 1509، وتم تدمير أسطول التحالف المملوكي الهندي بالكامل بالقرب من ميناء ديو في معركة يصفها العديد من المؤرخين بكونها إحدى أهم معارك التاريخ لأنها سمحت للأوروبيين باحتكار التجارة ثم الاستعمار ثم تكديس الثروة ومنها لعصر النهضة. من هنا ركّز البرتغاليون على القضاء التام على التجارة الإسلامية عبر تهديد ونهب مدن البحر الأحمر من مصر والجزيرة العربية، والأدهى أنّه جال بفكر أحد أكثر بحّارتهم كرهًا للإسلام، الوالي البرتغالي على الهند ألفونسو دي ألبكيركي، محاولة احتلال مكة وتدمير الكعبة ونبش قبر النبيّ محمد كما تروي الروايات.

البرتغاليون على أبواب الجزيرة العربية

اخترق دي ألبكيركي قائد الأسطول البرتغالي البحر الأحمر عام 1513م ومعه 24 سفينة حربية، وشنّ الهجوم البحري والبري على مدينة عدن باليمن، إلا أن الاحتلال البري فشل، فبقي على الحصار البحري ثم دمر الأسطول الصليبي ميناء قمران باليمن، وأغرق السفن التجارية المملوكية، وبذلك تم خنق التجارة عبر البحر الأحمر، وهُددت حركة الحجاج، مما وضع قانصوه الغوري بوصفه حامي الحرمين في وضع مشين، دفعه للاستعانة بأعدائه المستقبليين (العثمانيين) على البر.

حاول المماليك الاستعانة بالعثمانيين، والذين أرسلوا بالفعل الريّس سليمان البحري لقيادة الأسطول المملوكي الجديد ومعه نحو 1300 جندي تركي.[5] قام الأسطول الإسلامي بتجديد الدفاعات بجدة وحصّنوا ميناء قمران. بدأ ألبكيركي بالهجوم على مدينة عدن عام 1513م لتكون موطئ قدمه في جزيرة العرب والبحر الأحمر، وربما تكون الخطوة الأولى لغزو مكة وتدمير الكعبة كما تتناقل الروايات، إلا أن الحصار والهجوم لم ينجحا ومُني البرتغاليون بهزيمة قاسية على يد أميرها السلطان مرجان الطاهريّ وأهل عدن.[6]

لملم ألبكيركي بقية قواته وظلّ في الأحمر يضايق التجارة ويُغرِق الحُجّاج ويحتل المدن وينهب أهلها ونجح باحتلال ونهب ميناء كمران عام 1513م وحاول بعدها احتلال جدة ليقترب أكثر من مكة، غير أنّه واجه الأسطول المملوكي-العثماني عام 1517م، ونجح الأخير في هزيمة الأسطول البرتغالي ورفع حصاره عن جدة.

غير أن تلك النجاحات -وما تلاها من المعارك- لم تُسهم في فتح باب التجارة المُغلَق في البحر الأحمر، وتحولت التجارة مع آسيا بالكامل إلى الاحتكار البرتغالي، مما سبّب أزمة اقتصادية كبرى ساعدت على هزيمة المماليك في مواجهة العثمانيين عام 1517م، ومن بعدها تحطمت مكانة مصر كطريق تجاري مهم حتى حفر قناة السويس بعد ما يقرب من ثلاثة قرون.

بداية النهاية

كانت تلك بداية النهاية للاقتصاد الإسلامي وبداية تكديس الثروة في أوروبا. فمن هنا احتكرت البرتغال ومن بعدها جارتها إسبانيا التجارة بين أوروبا وآسيا بشكل مطلق، ومن ثَمَّ تحولت الفكرة إلى سؤال: لماذا نحتاج إلى التجارة مع الهنود والسكان الأصليين لتلك البلاد البعيدة ونخضع لأسعارهم في حين أننا نستطيع بجنودنا أن نستعبدهم وننشئ مزارعنا الخاصة في أراضيهم الحارّة ونجعلهم يزرعون التوابل والسكر والقهوة والشاي؟

من هنا نشأت فكرة الاستعمار لتبدأ مرحلة الاستعمار الأوروبي، والذي بدأ بعد البرتغاليين والإسبان عن طريق شركتين أوروبيتين وهما: شركة شرق الهند الإنجليزية وشركة الفوك الهولندية، ومن ثَمَّ تتكدس الثروة وتتكوم بشكل مهول في أوروبا، مما يدفع بعجلة العلوم والثورة الصناعية ومن هنا يأتي التساؤل الآتي: هل نحن كمسلمين وكعرب علينا أن نلوم أجدادنا ونتهمهم بالتخلف والتقصير والجهل لأنهم لم يستطيعوا أن يواكبوا الرجل الأبيض الذي -حسب الرواية السائدة – فجأة نهض ليستكشف العالم ويضع أسس العلوم والتكنولوجيا، ويقود العالم في كل ميادين الحياة؟

هل لتخلفنا وخسارتنا سبب منطقي يكمن في طريقة تفكيرنا أو طريقة معيشتنا أو ديننا أو تراثنا كما نبرر الآن، أم أنّ الأمر كله أحداث تُوالي بعضها، بدأت بالهزيمة العسكرية في زمن كانت الحروب بيننا وبينهم سجال، أدت بجانب استخدام الأوروبيين لبطاقة الاستعمار إلى تكديس الثروة في بلادهم وتوسيع الفجوة بين الشرق والغرب ودفع أوروبا للنهضة الصناعية؟

وعليه، فهل تكدس الثروة جاء نتيجة للنهضة الأوروبية، أم أن العكس صحيح وأن النهضة نفسها نتيجة لتكدس ثروات سرقة المحيط الهندي؟

فلندع مزيدًا من البحث يفتح لنا مجالاً لإجابة تلك الأسئلة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. The Moor’s Last Stand: How Seven Centuries of Muslim Rule in Spain Came to an End, Chapter 6.
  2. Payne, Stanley G., A History of Spain and Portugal, Vol. 1, Chap. 10 “The Expansion”.
  3. Vasco da Gamma Seeks Sea Route to India” Archived 22 December 2011 at the Wayback Machine, Old News Publishing, Retrieved 8 July 2006.
  4. K. N. Chaudhuri, Trade and Civilisation in the Indian Ocean: An Economic History from the Rise of Islam to 1750, Cambridge University Press, 7 Mar 1985.
  5. Firearms: a global history to 1700 by Kenneth Warren Chase p.103.
  6. Historic Cities of the Islamic World, Clifford Edmund Bosworth (2007), Pp 222-223.