كأس العالم منظورة يمكننا اكتشاف العالم من خلالها. ثقافته واقتصاداته وسياساته. تتقاطع البطولة الأهم مع كل ذلك. صحيح أنها تُلعب بواسطة أحد عشر لاعبًا لكل فريق، وداخل المستطيل الأخضر، لكن الفوز بها يُعتقد أنه يتأثر بعدة عوامل، لا علاقة لها بما يدور داخل الملعب.

مع توغل علم البيانات والإحصاءات في كرة القدم، أصبحت هناك مئات التحليلات التي تتوقع حظوظ كل فريق في البطولة، وبنسب دقيقة جدًا، ولكنها جميعًا تُجرى وفقًا لمعطيات تتعلق بما يدور داخل الملعب، مثل النتائج السابقة للمنتخبات قبل البطولة، وكذلك وفقًا لتاريخ هذه المنتخبات في كأس العالم.

فمثلاً، قبل انطلاق مونديال قطر 2022، توقع علماء البيانات في «Serasa Experian’s DataLab» الفرق التي قد تفوز بالبطولة، وفقًا للنتائج السابقة لها قبل المونديال.

جاء منتخب البرازيل أولاً، كمرشح أبرز للحصول على البطولة بنسبة 20.9%، وفرصة 53.4% للوصول إلى الدور نصف النهائي، وأتى منتخب الأرجنتين ثانيًا بنسبة 14.3%، وفرنسا ثالثًا بنسبة 11.4%، وإسبانيا رابعًا بنسبة 9%، وألمانيا خامسًا بنسبة 3.4%.

بالرغم من الدقة التي وصل لها علم البيانات، لم يصدق التحليل السابق سوى في تواجد الأرجنتين وفرنسا في نصف النهائي، وخرجت البرازيل وألمانيا وإسبانيا، بل لم تصل نسب فوزها بالبطولة فعليًا إلى نصف النسب التي توقعها التحليل.

لكن ماذا إذا تم إجراء هذه التحليلات وفق عوامل جديدة، لا تمت للملعب ولا اللاعبين بصلة، لكنها يُعتقد أن لها تأثيرًا في فرص الفوز بالبطولة؟

التعداد السكاني: عامل مؤثر بشرط!

العامل الأول هو التعداد السكاني. تضم البرازيل -الدولة الأكثر تحقيقًا للمونديال بواقع خمس بطولات- أكثر من 213 مليون نسمة، ويُرجع البعض أن أحد أسباب تفوق البرازيل في كرة القدم، هي هذه القاعدة السكانية الضخمة، التي تسمح لها بوفرة المواهب، التي مكنتها تاريخيًا في التفوق في بطولة كأس العالم.

تكمن مشكلة الطرح الماضي في تعميمه، فيعتقد البعض أن زيادة عدد سكان دولة ما، قد يعطيها عاملًا إضافيًا للتفوق الرياضي، كما في حالة البرازيل، لكنه تعميم خاطئ، فلم توجد الصين والهند اللتان تضمان أكثر من 2.7 مليار نسمة في تاريخ البطولة من الأساس، سوى في ظهور وحيد للصين عام 2002.

وكذا الولايات المتحدة التي تضم أكبر عدد من السكان في مونديال قطر 2022، حيث يبلغ عدد سكانها 330 مليون نسمة، كانوا قد حققوا أفضل نتيجة لهم في كأس العالم عام 1930، عندما وصلوا إلى الدور نصف النهائي، وعندما كانت تُلعب البطولة بـ13 فريقًا فقط.

تم إثبات عكس هذه النظرية منذ أول بطولة لكأس العالم عام 1930، عندما فازت أوروجواي ، ثالث أصغر فريق تعدادًا سكانيًا في قطر هذا العام، بعدد سكان يبلغ 3.5 مليون نسمة فقط ، بالبطولة. وكرروا هذا الإنجاز في عام 1950.

لا يشكل قلة عدد سكان بعض بالضرورة عائقًا أمام النجاح، بخاصة في البطولات الأخيرة. وصلت كرواتيا التي تضم ما يقرب من (4 ملايين نسمة)، إلى النهائي في عام 2018، وعلى بعد خطوة واحدة من نهائي مونديال 2022، ووصلت ويلز (3.1 مليون) إلى الدور نصف النهائي من يورو 2016. وكانت كوستاريكا (5.1 مليون) قد وصلت إلى ربع النهائي بشكل مفاجئ في عام 2014، ما يجمع كل هؤلاء الدول بشكل أو بآخر هو تجذر علاقة كرة القدم بشعوبها، وهو ما يتيح لهم طيلة الوقت، توافر المواهب التي تساعدهم في تحقيق هذه الإنجازات، بغض النظر عن قلة الكثافة السكانية.

لا يقتصر الأمر على عدد السكان فقط، بل يعتمد بشكل رئيسي على توافر الطبيعة الاجتماعية لكرة القدم في هذه البلاد، أو ما يسميها علماء الاجتماع بروح كرة القدم.

يعتقد «لارس إيزيكي»، مدرب كرة قدم ألماني، وكان رئيسًا لأعلى مستوى تعليمي في مجال التدريب في الاتحاد الصيني لكرة القدم، أن النظرية التي تقول بأن مليار شخص لا بد أن يوجد فيهم 11 شخصًا يستطيعون ممارسة كرة القدم في أعلى مستوى، هي نظرية منقوصة السياق، فيقول:

تتطلب الرياضات الجماعية مستوى من القبلية التاريخية لتزدهر، بحيث يمكن للفرق أن تلعب  مسابقات واقعية تعكس مشهدًا أوسع. لكي تنجح رياضة ما في أمة، يجب أن تعكس هذه الرياضة المنافسات الجغرافية والسياسية والدينية والطبقية والعرقية لهذه الأمة لضمان استمرار المنافسة، بالفعل قد تتيح لك القاعدة السكانية الغريضة خيارات أكبر من باقي الدول، لكن بشرط توطيد روح اللعبة في هؤلاء السكان، والعمل على استغلالها في ما بعد.
لارس إيزيكي

الاقتصاد مهم لكنه وحده لا يكفي

أعظم لاعبي كرة القدم، يأتون من خلفيات متواضعة.
من كتاب«Soccernomics» لسيمون كوبر، محلل رياضي في موقع «ذا أثليتك».

يعتقد «سيمون كوبر»، أن معظم اللاعبين العظماء يأتون من خلفيات متواضعة اقتصاديًا، ويعزى السبب؛ أن كرة القدم تكون في معظم الأحيان بمثابة طوق نجاة لهؤلاء، ووسيلة لهروبهم من الفقر. لكن، كيف يتأثر كأس العالم بذلك؟

هنا يأتي دور العامل الثاني، الذي يُعتقد أنه يؤثر على فرص الفوز بكأس العالم، وهو معدل النمو الاقتصادي. 

بالقياس إلى الناتج المحلي الإجمالي للفرد، وفقًا لموقع ذا أثليتك، تعد السنغال أفقر دولة في كأس العالم 2022، ويليها الكاميرون وغانا وإيران والمغرب وتونس والإكوادور. والدول الأغنى في البطولة هي: سويسرا والولايات المتحدة والدنمارك وقطر وأستراليا، وهي الدول الخمس التي لديها أعلى نصيب للفرد من الناتج المحلي الإجمالي.

-الصورة من موقع «ذا أثليتك»

ومع ذلك، لم يكن لأيٍ من الدولة الغنية السابقة نجاح في في مونديال قطر 2022 لأبعد من دور الـ16 في البطولة، بغض النظر عن تاريخها الضعيف في تاريخ البطولة من الأساس، مقابل صعود إحدى الدول الفقيرة -المغرب- إلى نصف نهائي البطولة، فهل لا تؤثر اقتصادات الدول على فرص فوزها بكأس العالم؟ لنتابع.

السر يكمن في معدل التنمية البشرية

يخبرنا «سيمون كوبر» أن النظرية الماضية منقوصة، فلا يؤثر مؤشر التنمية الاقتصادية على فرص الفوز بكأس العالم، دون النظر إلى عامل آخر مهم، وهو، معدل التنمية البشرية. 

وهو مقياس يجمع بين نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي وجودة التعليم ومتوسط ​​العمر المتوقع.

يُظهر تصنيف الفرق حسب مؤشر التنمية البشرية ارتباطًا أكبر بالنجاح في بطولة كأس العالم. فبالرغم من تصدر سويسرا صاحبة التاريخ المتوسط في بطولة كأس العالم، لكن المنتخبات الكبيرة وصاحبة التاريخ الكبير في البطولة مثل ألمانيا وفرنسا وأسبانيا وهولندا وإنجلترا جاءت جميعًا في مراكز متقدمة. 

و من بين 16 فريقًا في النصف السفلي للترتيب،  يوجد منتخبان كبيران في تاريخ كأس العالم فقط؛ وهما البرازيل والأرجنتين. فهل تتوقف العوامل الخارجية عند هذا الحد؟

الدول الديمقراطية أكثر عرضة للفوز

لا شك أنه إن كان للاقتصاد والتعداد السكاني تأثير في فرص الفوز بكأس العالم، فمن المؤكد أن لأهم مجال تتقاطع معه كأس العالم خارج الملعب، وهو المجال السياسي، تأثير هو الآخر.

في أكثر كؤوس العالم تسييسًا منذ كأس العالم في الأرجنتين 1978، كان التصنيف السياسي للدول المشاركة في مونديال قطر 2022، باعتبارها ديمقراطية الحكم أم استبدادية حاضرًا. وفقًا لتصنيف «Pew Research»، فإن 57% من الدول تقع تحت حكم أنظمة ديمقراطية تمامًا، و13% استبدادية بالكامل، و30% ما بين هذا وذاك.

والسؤال الآن؛ هل تؤثر الديمقراطية حقًا على فرص الفوز بالمونديال؟

تعتقد الدكتورة والكاتبة «ليليان تورام»، والمشاركة في البحث أعلاه، أنه من المرجح أن تفوز بلدك بكأس العالم إذا كنت دولة ديمقراطية، حتى لو كنت ديمقراطية صغيرة، مثل أوروغواي، التي فازت بكأس العالم مرتين، وتُحكم بنظام حكم ديمقراطي.

إسبانيا: مثالية داخل التحليلات فقط

تؤكد الدكتورة ليليان أنه من خلال حساب متوسط ​​البيانات، للعوامل التي السابقة، من التعداد السكاني، والنمو الاقتصادي، ومعدل التنمية البشرية، نظام الحكم، كانت الدول المثالية للفوز بالبطولة، وفقًا لهذه المعطيات كالتالي: 

سيكون عدد سكان هذه الأمة 49.7 مليون نسمة وحجمها 1.278.735 كيلومتر مربع. من الناحية الاقتصادية ، سيكون نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي حوالي 29701 دولارًا أمريكيًا، ومكانتها في مؤشر التنمية البشرية العالمي في المراكز الـ15 الأولى، وسيتحدثون الإنجليزية أو الإسبانية أو الفرنسية أو العربية، ويكونون تحت أنظمة حكم ديمقراطية في الغالب.

كان من المفترض أن تكون الدولة الأقرب لتحقيق مونديال قطر 2022 وفق هذه التحليلات، هي «أسبانيا»، لكننا كما أخبرناك في البداية، أنه هذه التحليلات بالرغم من دقتها لا تصدق دائمًا؛ لهذا السبب وقعنا جميعًا في عشق هذه البطولة إلى الأبد.

صحيح، وكما تعلم أن الخبر السعيد الآخر، أن من أقصى إسبانيا، المرشح الأول للقب وفق هذا التحليل، كان منتخبنا العربي، منتخب «المغرب».