شكّلت القضية الفلسطينية على مدى مراحلها ملامح الاقتصاد الفلسطيني واتجاهاته، فحلت به النكبة والشتات والنكسة والاحتلال، وكأنه مواطن فلسطيني، لم يستطع تغيير الأوضاع السياسية والتراجعات الديموغرافية، بل كان يتغير من خلالهم.على مدى القرن العشرين وحتى هذه اللحظة، كانت أفضل مؤشرات أداء الاقتصاد الفلسطيني هي التي حدثت في فترة الانتداب البريطاني السابقة للنكبة، إلا أنها كشفت عن نفوذ ومراكز قوى يهودية، ثم جاءت النكبة لتُدشّن الشتات الفلسطيني، وتُكبّد الاقتصاد الفلسطيني أفدح خسائره، ثم بوقوع النكسة في يونيو/حزيران 1967 خضع الاقتصاد الفلسطيني للاحتلال الكامل، ثم جاءت المفاوضات العربية الإسرائيلية لتجعله محل مساومة وتضعه تحت تبعية الاحتلال.ومع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وحدوث الانقسام الفلسطيني الفلسطيني تكبّد الاقتصاد الفلسطيني خسائر جديدة، وتعرّض لتشوهات هيكلية، ثم جاءت الحروب المتتالية على قطاع غزة، والتوحش الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس لترسخ تشوهاته، وتبعيته للاحنلال. لكن هل يمكنه – كشأن كل ما هو فلسطيني – أن يقاوم؟.


مهمة الانتداب البريطاني

بدأ الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1920، وخلال فترة الانتداب عملت السلطات البريطانية على خلق هيكل جديد للاقتصاد الفلسطيني، فعملت على ترسيخ ظاهرة ثنائية الاقتصاد، ليظهر الاقتصاد العربي والاقتصاد اليهودي، ثم خدمت تفوق الاقتصاد اليهودي.ارتبطت اتجاهات الاقتصاد الفلسطيني في فترة ما بين الحربين العالميتين بمعدلات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والتي نتج عنها تحويلات مالية متزايدة، ودخول صناعات ومنشآت إنتاجية إلى الاقتصاد، والتوسع في إنشاء المستوطنات الزراعية اليهودية، فبزغ داخل الاقتصاد الفلسطيني اقتصاد يهودي.

قامت السلطات البريطانية بتعزيز وسائل الإنتاج والتمويل والتسويق للاقتصاد اليهودي على حساب الاقتصاد العربي.

وفي حقيقة الأمر فإن السلطات البريطانية قامت بتعزيز وسائل الإنتاج والتمويل والتسويق للاقتصاد اليهودي على حساب الاقتصاد العربي، وأمّنت الخدمات الحكومية اللازمة لذلك، علاوة على تعزيز النفوذ اليهودي في دوائر صنع القرار بفلسطين، وعليه فإن الانتداب البريطاني قد وضع حجر الأساس للبنية التحتية للاقتصاد الذي سيصبح فيما بعد اقتصاد إسرائيل.ومع بداية الحرب العالمية الثانية، عملت سلطات الانتداب البريطاني على توجيه الاقتصاد الفلسطيني لخدمة المجهودات الحربية البريطانية، ضمن خطة لتأمين الحاجات البريطانية من السلع والخدمات داخل إقليم الشرق الأوسط بعد أن انقطعت اتصالاتها مع أوروبا بسبب الحرب.وبانتهاء فترة الانتداب البريطاني عام 1948، كانت سلطات الانتداب قد نجحت في ترسيخ ثنائية الاقتصاد الفلسطيني بخلق اقتصادين يهودي وعربي، ثم تعميق الفجوات بين الاقتصادين من خلال تقديم خدمات دعم الاقتصاد اليهودي، وأخيراً إعداد المؤسسات الاقتصادية اليهودية لبناء اقتصاد «دولة إسرائيل» فيما بعد. وصاحب ذلك تغير ديموغرافي من خلال ارتفاع معدلات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والتهجير القسري للعرب.وقد أفرزت فترة الانتداب البريطاني الاتجاهات التالية: تشير البيانات الفلسطينية إلى أنه في الفترة ما بين 1923-1935 قد ارتفع متوسط دخل الفرد اليهودي من 20 جنيهًا فلسطيني إلى 50 جنيهًا، فيما صدر أول تقدير لمتوسط دخل الفرد العربي عام 1936 بمعدل بلغ 17 جنيهًا فلسطينيًا. انخفضت نسبة السكان العرب في فلسطين من 92% عام 1918 إلى 67% عام 1948، وارتفعت نسبة السكان اليهود من 8% إلى 33% خلال نفس فترة المقارنة. وعلى الأرض، ازداد عدد المستوطنات اليهودية في الريف الفلسطيني من 73 مستوطنة عام 1922 إلى 363 مستوطنة عام 1948، بينما اندثرت 61 قرية عربية خلال فترة الانتداب.


ثمن النكبة

دشنت العصابات الصهيونية جرائمها اللا إنسانية ضد العرب في فلسطين بنهاية الانتداب البريطاني، وارتكبت جرائم التهجير القسري، والإبادة الجماعية لمئات الآلاف، لتعلن قيام «دولة إسرائيل» في 15 آيار/مايو 1948، على حساب نكبة العرب في فلسطين، وبدأ الشتات الفلسطيني.كان للنكبة ثمن فادح على كافة الأصعدة ومنها الاقتصادي، فقد اقتلعت النكبة حوالي 750 ألف عربي من 77.2% من مساحة فلسطين، ليصيروا لاجئين. واستقبلت البلاد العربية حوالي 300 ألف لاجئ فلسطيني في سوريا ولبنان والأردن والعراق، ونزح البقية إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما بقي 160 ألف فلسطيني عربي داخل الأراضي المحتلة عام 1948.

كلّفت النكبة الفلسطينيين خسائر شخصية قُدرت بـ 824 مليون و780 ألف دولار أمريكي بتقديرات عام 1948.

دمرت العصابات الصهيونية ما بين 360 و429 قرية عربية تمامًا، بينما تم دمج 81 قرية داخل مجتمعها ودولتها الجديدة، والتي كونت فيما بعد المدن المختلطة بين سكان عرب وإسرائيليين مثل يافا وحيفا، فيما بقت مدينة الناصرة فقط محتفظة بالأغلبية العربية.

قدرت لجنة الأمم المتحدة للتسوية القضية الفلسطينية UNCCP، عام 1962، الخسائر الشخصية للاجئين بحوالي 824 مليون و780 ألف دولار أمريكي عام 1948. لم تتضمن التقديرات خسائر الملكيات العامة من الأراضي، وأراضي الرعي. بينما أظهرت دراسة عربية ليوسف الضياغ، صدرت في عام 1966 عن معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة، أن العرب اللاجئين قد خسروا 6 مليون، و611 ألف دونم من الأراضي، وهو ما يُقدّر بمليار و625 مليون و702 ألف دولار بأسعار 1948. بالإضافة إلى 173 ألف مبنى تقدر قيمتهم بـ 954 مليون و304 ألف دولار بأسعار 1948. ومع استمرار إسرائيل في ضم الأراضي العربية أصبح العرب داخل إسرائيل لا يمتلكون سوى 4% من الأراضي بحلول عام 1962. كما منيت أراضي فلسطينية بالضفة الغربية وقطاع غزة بالانقسام بين الأراضي التي خضعت للسيطرة العربية، وبين الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي بسبب مرور خط إطلاق النار عبرها.أفضت النكبة إلى ضغوط اقتصادية شديدة الوطأة على الاقتصاد الفلسطيني بقطاع غزة والضفة الغربية، حيث استقبل قطاع غزة ذو الـ 80 ألف ساكن حوالي 250 ألف لاجئ، كما استقبلت الأردن والضفة الغربية ذات الـ 450 ألف ساكن حوالي 300 ألف لاجئ. مثّل هذا اللجوء ضغطًا على الموارد المحلية المحدودة للاقتصاد، في ظل تزايد غير مسبوق في حاجات اللاجئين الأساسية من سكن، وغذاء وخدمات صحية وتعليمية، وعليه فقد أنشأت الأمم المتحدة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين UNRWA لتتولى جمع وتنظيم وتوصيل المعونات للاجئين الفلسطينيين.


تبعية ما بعد أوسلو

تعرض الاقتصاد الفلسطيني لتغيرات متعاقبة في النصف الثاني من القرن العشرين، تبعًا للتغيرات السياسية والعسكرية، فبحلول نكسة 1967 خضعت الأراضي الفلسطينية بكاملها للاحتلال الإسرائيلي الذي لم يتوقف – حتى اللحظة – عن مصادرة الأراضي العربية، وبناء المستوطنات، والاستيلاء على الموارد المائية والمعدنية للفلسطينيين في الضفة والقطاع.

يحتاج الاقتصاد الفلسطيني إلى إعادة هيكلة قطاعاته الإنتاجية، وبناء شراكات اقتصادية قوية خارج سيطرة الاحتلال.

اتجهت السلطة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات إلى الدخول في مفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي لتنتهي باتفاق أوسلو، والذي حدّد مناطق الحكم الذاتي للسلطة الفلسطينية عام 1993، وقد انبثقت عنه اتفاقية باريس الاقتصادية 1994، لتُنظّم العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، ولكنها في حقيقة الأمر رسخت تبعية الاقتصاد الفلسطيني لاقتصاد إسرائيل.

تم إنشاء لجنة اقتصادية مشتركة لمتابعة تنفيذ الاتفاقية، إلا أن هذه اللجنة قد سمحت لإسرائيل بإنفاذ قراراتها الاقتصادية للجانب الفلسطيني، حيث حددت إسرائيل من خلالها السلع المستوردة إلى الجانب الفلسطيني ودول الاستيراد، وغيرها من محددات السياسة المالية والنقدية، وعليه فإن هذه اللجنة ضمنت للجانب الإسرائيلي الاستيلاء على صنع القرارات المتعلقة بالاقتصاد الفلسطيني.

أعطت الاتفاقية الحق في جمع الرسوم الجمركية والضرائب للسلطة الفلسطينية، وبالتالي فقد أمّنت للسلطة مصادر للدخل إلا أنها في الوقت نفسه مكّنت إسرائيل من التحكم في هذا الدخل من خلال سياسات مالية ونقدية، فمثلاً على الرغم من أن إسرائيل يجب أن تحول 75% من ضريبة الفلسطينيين العاملين داخل إسرائيل والمستوطنات اليهودية إلى السلطة الفلسطينية، إلا أنها في حقيقة الأمر تستعمل هذه الأموال كأداة ضغط على السلطة، ولا تلزمها رقابة بهذا التحويل. نصت الاتفاقية أيضًا على إمكانية صك عملة وطنية فلسطينية بنهاية المرحلة الاولى لعملية السلام إلا أن هذا لم يتم لأسباب سياسية تتعلق بعرقلة وإفشال عملية السلام، وأسباب اقتصادية تتعلق بضعف القدرات الإنتاجية والتمويلية للاقتصاد الفلسطيني.


الانقسام

أدت الاوضاع السياسية بقطاع غزة، ثم وصول حركة حماس للسلطة، وتنازعها مع حركة فتح إلى حدوث متغيريْن ضربا الاقتصاد الفلسطيني بشدة، ونتج عنهما خسائر مباشرة وغير مباشرة باهظة التكلفة. فمنذ عام 2008 تفرض إسرائيل حصارًا قاسيًا وشديد الوطأة على قطاع عزة، نتج عنه نقص شديد في عرض السلع داخل القطاع، وخلال 8 سنوات شنت إسرائيل ثلاثة حروب على قطاع غزة دمرت البنية التحتية للقطاع، فبلغت خسائر الاقتصاد الفلسطيني في قطاع غزة حوالي 5 مليار دولار جراء الحرب الاخيرة في 2014 والتي استمرت 51 يومًا.أما الانقسام الفلسطيني الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس فقد شق الاقتصاد إلى نصفين أحدهما في الضفة والآخر في غزة، يتفوق فيه اقتصاد الضفة على أداء اقتصاد غزة، حيث مُني قطاع غزة بمعدلات خطرة من البطالة والفقر تجاوزت الـ 50%، بينما نشأت أنشطة اقتصادية موازية عبر الأنفاق بالقطاع، بعيدة عن التنظيم الرسمي، لا تخضع للقانون بقدر ما تخضع للاحتكار، ولكنها انتهت في عام 2015/2016 بفعل التغيرات السياسية في مصر؛ مما أدى إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية المؤسفة في قطاع غزة، ووصلت معدلات النمو الاقتصادي بالقطاع إلى -2%.على الجانب الآخر بالضفة الغربية، تمارس إسرائيل جرائمها الاستيطانية باستمرارها في بناء جدار الفصل العنصري، ومصادرة الأراضي العربية، وبناء المستوطنات، حيث خصصت سلطات الاحتلال 39% من أراضي الضفة لبناء المستوطنات، و20% مناطق عسكرية، و13% محميات طبيعية، وهو ما يعني منع الفلسطينيين من استغلال مواردهم وأراضيهم، كما أدى توزيع الاحتلال المجحف لموارد المياه إلى أن يصبح نصيب المستوطن الإسرائيلي 350 لترًا في اليوم، بينما الفلسطيني 20 لترًا فقط عام 2015.


والمقاومة؟

يأتي عام 2016 ومعه ارتفاع في عجز موازنة السلطة الفلسطينية، واستيلاء الاحتلال على أموال الضرائب الفلسطينية، وركود عملية إعادة الإعمار في غزة، مع أزمة تمويلية طاحنة بالأونروا. يُلقي كل ذلك أعباءً متفاقمة على كاهل المواطن الفلسطيني سواء بالضفة الغربية أو قطاع غزة.وعلى مدار القرن الماضي والسنوات المنصرمة من هذا القرن، ينزف الاقتصاد الفلسطيني تمامًا كنزف أبناء وطنه، ويبقى السؤال: هل يمكن للاقتصاد أيضًا أن يقاوم كأبناء الوطن؟.يبدو أن نضال الشعب الفلسطيني، وهبّات التغيير داخله قد حملت أسلحة مقاومة اقتصادية جديدة، تتمثل في المقاطعة الشعبية للاحتلال والتي اتسعت لتصبح عالمية أيضًا، غير أن هذا الاقتصاد في حاجة إلى وسائل دعم أخرى تتمثل في إعادة هيكلة لقطاعاته الإنتاجية، ودعم قدراته التمويلية، وبناء شراكات اقتصادية قوية خارج سيطرة الاحتلال.

المراجع
  1. "الاقتصاد الفلسطيني خلال الانتداب البريطاني حتى عام 1948"، موقع منظمة التحرير الفلسطينية.
  2. سامر أحمد موسى، "اتفاق باريس.. قراءة شاملة في مواده"، موقع الحوار المتمدن، 5 أغسطس 2007.
  3. ماهر تيسير الطباغ، "العام 2014 العام الأسوأ اقتصادياً على قطاع غزة"، موقع جريدة الاقتصادي، 30 ديسمبر 2014.
  4. بسام عليان، "الاقتصاد الفلسطيني تحت نيران الاحتلال الإسرائيلي"، موقع دنيا الوطن، 27 مايو 2015.
  5. "تقرير المراقبة الاقتصادية المقدم إلى لجنة الارتباط الخاصة"، البنك الدولي، 9 إبريل 2016.