تُطارحُكَ قِصَّةُ «مجانين الله» لـ «إدوار الخرَّاط» فيضًا من الأسئلة، بعدَ أن تسكُبَ في أعماقك غَمرَةً من الجَمال وأنتَ تُطالعُ ريشَاتَه ترسُمُ بطلَه عازفَ العُود، فتنسابُ المعزوفَةُ الوَصفية للوحة المزيكاتي «مُتولِّي»، وكأنها تُضارعُه اللحنَ وتتشَاطَرُه الإلهامَ وتبلُغُ به حَدَّ الكَمال من الفَن والذّوبان في مُحيط الفَناء. واسمُ «متولِّي»، بوصفه علامة لغوية رمزية، يُعَدُّ تمثيلًا سيميولوجيًّا جماليًّا باشتقاقه من الجذر «وَلَّى»، فالعازفُ يُوَلِّي وجهَه شَطرَ الحقيقة الكليَّة الصافية بعَين الفن السحرية.

فلماذا اختار إدوار للعازف آلةَ العُود رفيقًا جماليًّا؟

ألأن العودَ عَلاوةً على كَونه شَرقيًّا أصيلًا يتألَّفُ جِذرُه اللُّغويُّ من مَدلول العَودة إلى الجَوهر والأصل بآلة الفَن الزَّمنية عندما تسكنُ تفاصيلَك وتُشعِلُ هِبَاتَك وتتوحَّدُ مع فنِّك؟ والذي يَتآلفُ أيضًا مع سؤال الخلود الذي يطرحُه المبدعُ في ثنايا النص؟

والعود آلةٌ وَتريَّة، فكأنّ الروحَ الهائمَ فنًا تُشَدُّ أوتارُه إلى حِسِّ الصّوت الذي يَشدو بأبجديّة تَعَارفه إلى سِرّ خلوده في موسيقاه. ولماذا انتُقِي له الجلبابُ البسيط والسياقُ الشعبيُّ الحافل بملايين الوجوه ومُحيط السيدة زينب وعبير الصُّوفة وشارع محمد علي مرفأً لملامحه وحضوره؟ ألِكَي يقولَ بإمكانية تماهي العالمين البسيط والمُترَف في سَاح الفَن الصادق، ويُودِعَ أيدي البسطاء مفاتحَ الرموز الفنيَّة التي تستعصي على ذوي الحسِّ الفَاتر والذِّهن البَليد؟

كما أن الفَوحَ الموسيقيَّ لهذه الشخصية الاستعارية برَحَابتها وبَساطتها يُعَدُّ تأصيلًا للحَدث الإبداعيِّ عَبرَ تاريخٍ من الإبداع البشريِّ بشتَّى أطيافه، والذي لا يمكنُ أن يتكادسَ ركامُه الحَضاريُّ بأثر فَرديٍّ، وإنما يتأتَّى من إرثٍ روحيٍّ وتاريخيٍّ باذخ الثراء، ولأن للجلباب نَفحًا صوفيًّا شَفيفًا خَفيفًا غَدا كِساءً استعاريًّا للتَّخَفُّف من أثقال الدنيا بأجنحة الإبداع ربما.

هل العازفُ هو «إدوار الآخر»، إدوار الفنان الشعبيُّ الموسيقيُّ، الذي تُفني الكلماتُ ذاته كلما بزغتْ في أفْق صفحاته وصافَحَتْ حقيقتَه ليتَّقدَ بنور الإبداع ويحترقَ بنَاره؟

فالعازفُ في دراما القَصِّ يموتُ بطعنة آلة حادَّة تُسَدَّدُ إلى صَدره وهي رمزٌ سيميائي يستحضرُ نظريةَ موت المؤلف لـ «رولان بارت»، والتي ينعكسُ في مراياها أن المبدع يموتُ بآلته/قلمه بعدما ينزفُ مدادَ الروح رواءً لسَرده. والفناءُ هنا يُعَدَّ ردفًا للكمال الذي تنسربُ لحظاتُه بعد أن صافحت الأداءَ الأجلَّ والجوهرَ الأصدقَ ليئدَها غيابٌ.

فإدوار هنا يَعزفُ ذاتَه لحنًا صوفيًّا مرادفًا للتجرُّد من الدنيا، بالتحليق فيما وراءها من وجوديات برزخيَّة، وكأن العازف هو المبدع في دنيا الله يبحث بداخله، في أَوْج تألُّقه الفنيِّ وانصهاره في أتون لَحنه، عن الإبداع الكُليِّ ليختزلَ وجودَه في لحظة التَّماهي، مع كُليَّة الإبداع والحلول في الأثير الكوني، معتليًا لأرفع درجات الصدق، كي يقولَ شيئًا يستحقُ الاندماج في هذا الكون. ومن ثَمَّ، يطرحُ الإبداعُ جدليَّة اللحظة الزائلة والخلود. فالأثرُ الإبداعيُّ الراسخُ أزمنةٌ من البقاء ورحلةٌ تحتضن العمرَ الروحيَّ الذي لا يُفنيه مَوَاتُ الجسوم.

تمتدُّ اللحظةُ الجَمالية التي تنهمرُ فيها ذات العازف في نَهر ألحانه، والتي تمثِّلُ الزمنَ الشعوريَّ الذي يتردَّدُ في موجات أغوارنا ونتماهى معه ويُشكِّلُ عالمَنَا الأصدقَ ويصوغُ أحلامنَا، لينزاحَ بحُلوله الزمن الآخر الذي يُمليه الواقعُ وشخوصُه وطقوسُه وتقاليدُه فتنفتح الذاتُ على آلياتها المعرفيَّة من ذهن وحدس وشعور، تلك الأدوات التي تحفظُ لها وجودًا فَرديًّا يُصنَعُ من داخلها بتفاعُلها الخاص مع الموجودات من حولها، لا تتلقَّنُه مسبقًا عن محيطها الخارجيِّ وأفراده، ويتجلَّى فيه كمالُ جوهرها سريع الأفول.

الليالي أمواجٌ زرقاء تترقرقُ تجليَّاتُها الجمالية في مخيِّلات البشر، عندما ينسرحُ الذهنُ في عالم الأحلام السحريِّ بمصابيحه السماوية الكاشفة. ذاك العالمُ المنسوجُ بخيوط الخفيِّ وما وراء الإدراك والخيوط التي تنفلتُ من أصابع الوعي وأحكَام العقلنَة، والتي تتوهجُ في ظلام النوم لتُجلي ما يستعصي على المثول… هكذا تلتقي إدوار الخراط في مجموعته «أمواجُ الليالي» وهو يُطلقُ مادةَ إبداعه… تلك الانسيابية الحرة المشحونة بطاقات ما يعتور النفسَ مما تخافُه وترتجيه وتحاوره وما تصنعُه ويصنعُها ويتعالقان مع حواجز غربتهما. هو ذاك القاصُّ الذي تتمزقُ أغلفةُ كلماته الرمزية، في إيقاعها الموسيقيِّ، عن صوته العميق الذي تتدرجُ نبراتُه وهي تلامسُ جداريةَ العالم الشعوريِّ والإدراكيِّ الداخليِّ وتنفذُ إلى رموزه الجمالية ومدلول الفن الساكن فيها.

بالعودة إلى «مجانين الله» الذين يسكنون أمواج لياليه، تلجُ إلى حجرة أسرار الذهن عندما تلتجئ إلى مَلء الفجوات النصيّة وإزاحة الدلالة الكنائية لتلتقي بالمعنى الأصليِّ للسطور وتَلمَسَ ذاكَ الوصفَ الفريدَ للعازف، على الرغم من أن الراوي لا يستطيعُ أن يراه فهو ينفي بتلك العبارة: «لا أستطيعُ أن أراه» جثومَ الواقع لإثبات المتَخيَّل حين يُبصرُ بعيني أوهامه غيبًا ماضويًّا ضَمَّ تفاصيلَ العازف وملامحَه ونمطَ عَيشه، وتَأبَّى على التكشُّف والتبدِّي لأنه لم يقع في خبرة الراوي. فالسردُ الموسيقيُّ هنا يتناص مع العازف في قمة كماله وهو يقنصُ تمثُّلًا لغير المرئيِّ، فنلفي الراوي، واصفًا إياه بنظرة أخيلته ونفاذ لبِّه، يقولُ:

كان يَلبسُ عدةَ جلاليب أحدها فوق الآخر ومع ذلك فإن عظمَ صدره المضلَّع يظهرُ من ورائها جميعًا، يمشي حافيًا على الأسفلت، قدماه سوداوان تقريبًا مفلطحتان تقريبًا أصابعهما عريضة خشنة الأظافر. ويربط وسطه بحبل غسيل. أشعث الشعر، طبعًا، وجهه طويل داكن السمرة وضاوٍ. قَشف الهيئة ولكنه منير السطوع من داخله، وخُلقانه المتهلِّكة لا تُضيره ولا تنال من حسن ما في طلعته. [1]

يُرسِّخُ الراوي ما يجافي الظن الأليف بانحسار الخيال عن زوايا البصيرة، فاليقينُ هنا ينبعُ من سَطوة الخيال الذي اخترق سطحية الواقع ونفذ إلى سطوع الذات الفطري ليمنحها ألوانَ طقسها الإنساني المتواري عن العيون.

تشفُّ السطورُ الوصفيَّة عن معرفة استشرافية بوجود هذا العازف المبدع في هذا السياق الزمكانيِّ، الذي اختاره له خيالُ الراوي في تماهيه معه وتَشرُّبه لموسيقاه، أو تُخطر بمعرفة يقينية بإمكانية أن يحتضنَه سياقٌ كذاك. فيُدمَج الواقعُ بالخَيال ويُصهَر فيه لدرجة استيلاء الخيال على الواقع وأبجدياته لتتخافت ألوانُه حتى يلتمعَ برقًا تخييليًّا في أفضية النص وآفاق التلقِّي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. إدوار الخرّاط، “أمواج الليالي”، دار شرقيات، القاهرة، ط1، 1991م، ص22-23.