لو سمع بها أفندينا إسماعيل باشا، فربما يمسك بمقشة ويمحو القرية.

هكذا قال شيخ العبابدة للسيدة لوسي الإنجليزية، التي سُرقت محفظتها في منطقة الكرنك. انقلبت الدنيا فوق رأس أهالي الكرنك، وجاء معاون المباحث مع شيخ البلد وبالطبع، جاء شيخ القرية ونائب القنصليات الأجنبية بالأقصر، مصطفى أغا [1]. كان لابد لهم أن يجدوا سارقي المحفظة. الخديوي إسماعيل لا يتهاون مع منْ يتعرّض للأجانب، بخاصةً الُكّتاب والصحفيون. والسيدة المسروقة، كاتبة معروفة ولها مراسلات تتهافت «التايمز» على نشرها.

بدأوا في ضرب شباب القرية، حتى أحمرت جلودهم. قال المعاون:

لو رجعت السيدة لوسي لأوروبا فكتبت في الصحف أنها بدلاً من أن تجد علاجاً لسل رئتيها، وجدت أيدي تسرقها، سيعزلني وينفيني أفندينا إسماعيل باشا.

نظرت السيدة لوسي التي آست لمشهد شباب القرية لمصطفى أغا وقالت:

عليك أن توقف هذا. [2]

فأوقف ضرب الشباب، لكنه جمع نقود المحفظة وأعطاها لها. رفضت السيدة الطيبة أكثر من مرة ووافقت على مضض.

يلخص هذا المشهد بوضوح، شخصية هذا التاجر المصري الذي أريد أن أُحدِّثكِ عنه، مصطفى أغا، هذا الذي باع أهم بردية طبية فرعونية.

حرص مصطفى أغا على إرضاء كل الأجانب القادمين للأقصر، بخاصة لو كانوا من رعايا قنصليته. في الحقيقة هم أكثر من قنصلية، فهو قد خدّم الإنجليز في الهند، وعمل بموانئ الأوربيين بالإسكندرية، فكان من الطبيعي أن تكون له علاقات بأهم دبلوماسييْ أوروبا، مما جعل إنجلترا وبلجيكا والنمسا يختارونه نائباً لقنصليتهم بالأقصر، بل وحتى الولايات المتحدة الأمريكية.

لكن لماذا اختاروه هو بالتحديد؟

المثير للتعجب، أن مصطفى أغا كان مريداً صوفياً لا يفوِّت الشهر دون أن يقرأ الفاتحة لسيدي أبو الحجاج عند قبره، أو يمتثل مزعناً لشيخ الإسلام المغربي الذي نزل قريته، فيجلس أمامه منكسر الرأس وقد ترك أشغاله خلف ظهره.

مصطفى أغا الذي ترك قريته بالأقصر دون العشرين ليذهب على مراكب الإنجليز للهند فيدور معهم على سواحل آسيا وأفريقيا، ويخدمهم بعينيه، وبعد أن ذهب للإسكندرية أخذ لقب «أغا» العثماني.

بيت مصطفى أغا بين العمودين الرابع والسادس

وصل لمكانة عالية عند الأوربيين، حتى كان يترخص لهم رغم صوفيته ومحافظته على الصلاة، فما أكثر الحفلات التي كان يقيمها لهم بحضور الراقصات. تعجبت السيدة لوسي من ذلك، حتى إنه طلب من إحدى الراقصات بعد العرض المرح، أن تأتي للسيدة لوسي فتحدثها. بالطبع تساءلت السيدة لوسي من هو مصطفى أغا الحقيقي كما نتساءل الآن؛ أكان رقيقاً جداً وكريماً جداً حقاً مع كل الإنجليز هناك؟ هل مصطفى أغا الذي طلب منها أن تحضر للجامع ليالي «لترى النور في حضرة الشيخ ابن سيدي الحسن والحسين»؟ أم هو منْ يُحضِر الراقصات للأجانب، بل ويفرح لغلاء الحبوب على الناس فتدر عليه الأموال؟ مع العلم أنه لم يكن يكسب ماله من الحبوب فقط، الأقصر كلها وآثارها كانت تقع تحت يديه.

المصلحة هي منْ تحكّمت في حياة مصطفى أغا. ولأنه كان نائب القنصليات، فقد كان رعايا هذي الدول ينزلون عنده، يستقبلهم بالذبائح وحسن الضيافة. ويأخذهم في جولات سياحية في فيلة وإدفو وإلى أضرحة الأولياء، وبالطبع إلى بيته العجيب الذي بناه داخل معبد أمنحوتب الثالث الجنائزي، بالتحديد بين العامود الرابع والسادس. كل هذا ليرضوا عنه، هو يكسب منهم وهم يرتاحون معه. لكن هل تجارته للآثار كانت غير مشروعة؟!

رُخص لمصطفى أغا بالتنقيب عن الآثار، فهو وكيل القنصليات الأجنبية، وهو كبير قرية «القرنة»، التي يعتبر أهلها مكتشفين للآثار بالفطرة. ومن الحكايات الساخرة عن تلك القرية، أن قطعاً أثرية ظهرت غير مُرقَّمة ظهرت بأوروبا، لا بد أن هناك خبيئة لا يعلم عنها أحد وصلت لها الناس قبل أن تصل لها الحكومة. انحصرت اتهامات الحكومة في قرية القرنة، بالتحديد في مصطفى أغا وعائلة عبد الرسول. [3]

وصلت التحقيقات إلى مكتشفي المقبرة، عائلة عبد الرسول، لكن بالطبع خرجت كل الآثار عن طريق كبيرهم مصطفى أغا، وكيل القنصليات الذي لا يخلو بيته من الأجانب. لكن أتعرف كيف اكتشف أبناء عبد الرسول المقبرة بالصدفة؟

خرج واحد منهم يرعى الغنم، شردت منه نعجة، وقعت في حفرة عميقة. ربطه أخوه بحبل ونزل الحفرة. وجد النعجة، لكن أمام الباب العظيم، باب خبيئة الدير البحري المعروفة.

بالطبع كان مصطفى أغا واحداً ممّن لجأت لهم العائلة في تصريف الآثار، بخاصة ما «خف وزنها وقل ثمنها» فالأغا بائع آثار من طراز رفيع، فلو أراد تاجر فرنسي تمثالاً قديماً، كان عنده في نفس اليوم. ولو أراد الباشا قلادة فرعونية لزوجته، لوجدها عنده، ولو أراد جامع أنتيكات أمريكي مثل «إدوين سميث»، بردية على ذوقه، فإن مصطفى أغا يعطيه بردية من عصر الأسرة الـ17، التي سميت بعد ذلك على اسم هذا الأمريكي، «بردية إدوين سميث»، وتعتبر واحدة من أقدم وأهم -إن لم تكن أهم- الوثائق الطبيّة القديمة، كُتبت على أسس طبية علمية، كُتبت ودفنت قريباً من طيبة، أو الأقصر، بالبر الغربي.

بالطبع لم تبق البردية بالأقصر بعد شراء إدوين سيمث لها، فقد سُرقت مثل أغلب البرديات المكتشفة في القرن التاسع عشر، حتى وصلت بعيداً خلف المحيط، بأكاديمية نيويورك للطب. لكن تخيّل معي كيف وصلت هناك؟

باع مصطفى أغا البردية للأمريكي جامع الأنتيكات الذي تركها في بيته دون أن يبيعها، حتى تبرعت بها ابنته لجمعية نيويورك التاريخية، حيث اكتشفوا أهميتها الطبية لأول مرة بعد كل تلك السنين، ثم عرضوها فترة في معرض «بروكلين»، لتنقل في النهاية في لأكاديمية نيويورك للطب.

كثيراً ما أتعجب من الفجوة بيننا وبين الفراعنة. تلك البردية التي كُتبت قبل الميلاد بألفي عام، تتبع نمط تأليف عجيب، حيث يبدأ المؤلف بذكر المرض، ثم يذكر أعراضه، ثم يُفصِّل علاجه متبوعاً بخيار من ثلاثة: «مرض سأواجهه»، و«مرض سأعالجه»، و«مرض لا يمكنني علاجه».

بل وتخطى ذلك في حالة الموظفين، فيُتبع المرض بمدة الغياب، أو مدة التحسن التي يستطيع بعدها مباشرة العمل، أو حتى تأجيل اتخاذ القرار حتى تتضح الرؤية. نظام تأليف ما زال مُتّبع حتى اليوم في الكتب الطبية. لكن لماذا حدثت الفجوة؟

المراجع
  1. Ancient Egyptian Medicine By John F. Nunn, University of Oklahoma Press, p25.
  2. لوسي دوف جوردون، «رسائل من مصر»، ترجمة: إبراهيم عبدالمجيد.
  3. دوجلاس بريور، «مصر والمصريين»، ترجمة: عاطف معتمد، الهيئة العامة للكتاب، 2010.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.