في البداية، طالعت المقدمة التفصيلية التي كتبتها المترجمة، وما فيها من تنبيهات متكررة على عمق العمل، كادت تكون تحذيرًا مستترًا في بعض المواضع، حيث صارحت القراء بأنهم ليسوا بصدد عمل بسيط يمكن قراءته في حالة استرخاء ما بين اليقظة والنوم، فعلمت على الفور أني سأخوض تحديًا أدبيًا حقيقيًا، وتملكني الفضول والشوق، وذلك شعور حميد.

«أثرٌ على الحائط»، مجموعة قصصية بسيطة و«ملغمة» أدبيًا، كتبتها الإنجليزية العظيمة «فرجينيا وولف»، أحد أبرز رواد تيار الوعي. تتألف المجموعة من 16 قصة قصيرة، مقسمة إلى مجموعتين. تحمل الأولى عنوان «الإثنين أو الثلاثاء»، والأخرى «بيت مسكون بالأشباح». ترجمتها الدكتورة «فاطمة ناعوت»، وصدرت عن المركز القومي للترجمة.


داخل صفحات المجموعة

بداية من السطر الأول، تجد نفسك أمام نوع مختلف من الأدب. أدب ينِّصبك شاهدًا ومحللاً للأحداث، ويملأ عقلك بمختلف الأفكار، وشتى التأويلات، إذ هو نوع أدبي لا يقبل القراءة الواحدة. تضعك أعمال «فرجينيا وولف» في ما يسمى بـ «فوضى التفاصيل».

فهذا المشهد الذي تقرأه في مدة لا تزيد عن ثوان معدودة، تتبعه رحلة في التفاصيل داخل الثنايا العقلية لأبطاله، والعيون التي رأت، والقلوب التي شعرت. إنك تعيش الصراع النفسي لأبطال المشهد، وتموج مشاعرك داخل المشهد المحدود زمنيًا، تمامًا كمن يعايش حلمًا طويلاً دون أن يغفو إلا ثوان قليلة.

قصة الفستان الجديد

في هذه القصة؛ نرى طبيعة التأثر والصراع النفسي للبطلة صاحبة الفستان «الجديد»، التي ذهبت إلى الحفل ورأت عدم الرضا في عيون الآخرين. تنقل لنا الكاتبة الطريقة التي قرأت بها البطلة نظرات المدعوين، فتُعايش فيضًا من التفاصيل التي تلقي بك في فوضى الحواس والتقلبات النفسية.

أبدعت «وولف» كثيرًا في هذه القصة، سواء الوصف والسرد، أو السقوط الحر للأفكار، كعادة أدباء تيار الوعي، حتى تكاد تشعر أنك مدعو معهم إلى نفس الحفل، مشاركًا في صياغة حبكة العمل. أما عن قصة «الميراث»، ففيها أظهرت «وولف» تمكنًا من حرفة «التشويق والإثارة»، مبتعدة قليلاً عن أسلوب تيار الوعي، إنه عمل تدهشك بساطة فكرته والعمق في سرده.

قصة صور ثلاث

من أحب قصص هذه المجموعة إلى قلبي. نموذج بديع للقصة القصيرة بأركانها المثلى. فكرة جيدة، وسرد متقن، وتشبيهات راقية، ورمزية فريدة، ومفاجأة مذهلة، وتلك الأخيرة هي الأهم، إذ تخلق حالة من التشويق تلازمك طوال فترة قراءة العمل. كما حوت هذه القصة أشهر الجمل التي تصلح للاقتباس من هذه المجموعة.

قصة أثر على الحائط

يتضح فكر وأسلوب «وولف» الأدبي بجلاء في قصة «أثرٌ على الحائط»، حيث تتحدث عن امرأة يثير انتباهها «أثرٌ على الحائط»، فتبدأ في رحلة ذهنية للبحث عن ماهية هذا الأثر، وسر ظهوره على حائط منزلها، وخلال هذا الانهماك في التفكير، يبدأ تداعي الأفكار، والسقوط الحر للهواجس والذكريات، كل ذلك في مدة زمنية لا تتجاوز الثواني، قبل أن يأتي الزوج في النهاية ويخبرها بسر هذا الأثر، في مفاجأة ظريفة.

قصص متنوعة

ثم تأتي «وولف» في قصتها «رواية لم تكتب بعد»، لتصنع حالة إنسانية فريدة عن راكبة في القطار، من خلال تفاصيل بسيطة، تثبت جدارتها بلقب «ملكة التفاصيل»، وتصحبك في رحلة بالقارب في بحار المشاعر والرؤى والتحليل.

أخيرًا، هناك «الأرملة والببغاء»، وهي القصة الوحيدة التقليدية في هذه المجموعة. قصة جيدة، صحيح، لكنها ليست –في رأيي- بنفس قوة قصص تيار الوعي، كأن الأديبة كتبتها لتثبت قدرتها على كتابة الأدب التقليدي.

كانت الترجمة متقنة إلى حد بعيد، بل تكاد تشعر أن المترجمة أضافت إلى النص المتميز نوعًا آخر من الإبداع، وهو إعادة الصياغة وجمال الأسلوب، دون إخلال بطبيعة العمل القائم على تداعي الأفكار والوقفات العديدة خلال السرد.

كذلك أعجبت كثيرًا بمراعاة القواعد النحوية والاهتمام بتشكيل الكلمات الملغزة، يعد هذا كله من مواضع قوة العمل التي ينسب الفضل فيها إلى المترجمة. هناك أعمال تشعر عند قراءتها بالعطش إلى نوع أفضل من النصوص، بينما تقرأ أعمالاً أخرى فتشعر بحالة من الإشباع الأدبي قد تمتد معك فترة من الوقت.

هذه المجموعة القصصية تنتمي إلى الفئة الأخيرة. في الواقع، شعرت خلال قراءة أدب «فرجينيا وولف»، أنني أقرأ ملاحم «أمل دنقل» الشعرية، لا أعرف سببًا لذلك، لكنها الحقيقة.

هذا عمل يستحق أربع نجمات كاملات من أصل خمسة. أرشحه بقوة لمن يبحث عن نص أدبي دسم، يدفع به إلى تحد أدبي مع نفسه الذوَّاقة، أما إن كنت من هواة السرد التقليدي والأحداث التراتبية، فلا أنصحك بهذا العمل أو أمثاله.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.