منذ القرن التاسع عشر، والسؤال الدائر هو «لماذا تخلّف المسلمون؟» في حين أنّ «غيرهم» تقدّموا، ورغم تنوّع الإجابات المتعلّقة بهذا السؤال من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، فإنّ المسلمين والعرب كانوا موضع لومٍ ونقدٍ من المفكّرين العرب والمستشرقين، عن حسن نيّة أو غيره. وليس المهمّ هو كون هذا النّقد المتواصل للمسلمين هو صحيح في ذاته أم لا، فما يعنينا في هذا المقام هو المسوّغات الإبستمولوجيّة لهذا النقد، والتي أقامَ عليها المفكّرون هذا النقد واستعملوه.

وكما هو معلوم، فإنّ الخطاب النهضويّ -خطاب الأفعانيّ وعبده وغيرهما- عُدّ لاحقًا من الإرث الذي ينبغي نقده، فلم يكتفِ «ناقد» العقل العربيّ، أعني محمد عابد الجابري، بنقد التراث ضمن رباعيّته المشهورة، وإنّما قد كتب من قبل عن «الخطاب العربيّ المعاصر» من النهضويين مرورًا بتيّارات الفكر العربيّ الحديث الأخرى.

لا شكّ أن الإرث النّقديّ هذا ما زال مستمرًّا حتى اليوم، ليس من دوائر عربيّة وإسلاميّة، بل من دوائر غربيّة فاعلة، ومن واضعي سياسات معتبرين، ولا حاجة للحديث عن الجهود «الكونيّة» للحرب على الإرهاب برعاية إمبرياليّة يعمل عليها نشطاء ومثقفون وسياسيّون وعلماء دين في العالم العربيّ. وما يهمّني ههنا ليس النّقد الغربيّ المرتكز على بنية استشراقيّة، فقد تناولته من قبل. إلّا أنّ ما يهمّني ههنا هو معنى «النقد» الذي يُقدّم اليوم وكيف يتمّ فيه تمثيل المسلمين والعرب، وعمليّات جلْد الذات من قبل «الداخل» الإسلاميّ الذي لا يقلّ «خارجيّةً» عن نظيره الخارجيّ، الغربيّ.

النضال ضد الاستعمار أخذ شكل النضال السياسي، في إغفال واضح لأثر الاستعمار علي البني التحتية الاقتصادية والثقافية للمستعمر

بادئ ذي بدء، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الإرث الاستعماريّ لم يعمل على إعادة تشكيل البنى الفوقيّة للبلد المستعمَر، وإنّما بشكلٍ أساسيّ قد أعاد تشكيل البنى التحتيّة كذلك، ومن ثمّ فأيّ حديثٍ عن اعتبار أنّ الكولونياليّة مجرّد حقبة «سياسيّة» هو إغفال عن الدور الاستعماريّ حقيقةً، وما قد فعله في البنى التحتيّة لبلدٍ ما من ناحية، وما أنتجه من معرفةٍ حول هذه البلاد والتي أصحبت محلّ اهتمام المثقفين المحلّيين فيما بعد.

وتم اعتبار أنّ نضالنا ضدّ الاستعمار هو نضال «سياسيّ» ضدّ سلطةٍ سياسيّة، دون النّظر في البنى التحتيّة للاقتصاد المحلّي التابع، وأيضًا لـ«الثقافيّ» المحلّي الذي أُعيد تعديله وفقًا للسياسات الاستعماريّة. إنّ هذا لأمر هامّ، بدايةً، لأنّ ثمة قطاعًا واسعًا يختزلُ الإرث الاستعماريّ في مجرّد ما هو سياسيّ، في حين أنّ هؤلاء المثقفين الذين يرون ذلك قد تكون معرفتهم عن بلدانهم وعن تاريخهم وحضاراتهم هي معرفة أنشأها الاستعمارُ ذاته.

وبالتالي، فإنّ النقد المقدّم من قبل المثقفين العرب تجاه ذواتهم -أي تاريخهم ودينهم بشكلٍ أساسيّ- لا بدّ من فحصه بشكلٍ واسعٍ لما يحويه من إرث استعماريّ على مستوى المعرفة والرؤية. كما أنّ النّضال -الذي لم ينقطع حقيقةً- لا بدّ أن يأخذ شكلًا أكثر راديكاليّة تجاه السياسة والمعرفة الاستعماريّة بشكلٍ متواصل.

حيث إنّ أغلب النّقد الموجّه اليوم هو نقدٌ يغفل، بصورةٍ مخجلة، الحقبة الكولونياليّة تمامًا، حيث استُعمر المسلمون وأُعيد إنتاجهم داخل منظومات استعماريّة جديدة، معرفيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، وبالطبع فإنّ التحرّر الذي حصل لاحقًا -شكليًّا- لم يرجعهم إلى ما قبل هذه الحقبة -إذ التاريخ لا يسير بهذا الشكل مطلقًا.

ومن ثمّ، فعندما ينقدُ المثقفون العرب والمسلمون أنفسهم في حقبة ما بعد الاستعمار، فإنّهم، غالبًا، ما يفعلون ذلك بشكلٍ لا تاريخيّ: فهم يتصوّرون المسلمون ككيانٍ صلب، لم تؤثّر فيه أيّة عوامل خارجيّة استعماريّة، ومن ثمّ فإنّ المسلمين قبل وبعد الحقبة الكولونياليّة هم الشيء ذاته.

يعيش المسلمون اليوم في معظم دول العالم شرق أوسطي، تجارب هجينية من الحداثة السياسية والتقنية وغيرها

لقد كان النّقد الموجّه دائمًا ولا يزال للمسلمين إمّا أن تدخلوا في النظام المعرفيّ الحديث، وإمّا مصيركم إلى الفشل، وإمّا أن تدخلوا إلى الحداثة، أو ستبقون خارج التاريخ بلا فاعليّة. دعونا مثلًا ننظرُ في أكثر الأفكار سيطرةً على المثقفين العرب في الحقبة الحديثة، ألا وهي أنّ المسلمين خارج الحداثة. عندما نفكّر في هذه الفكرة فهي تبدو وجيهة من وجهة نظرٍ حداثيّة تمامًا، فالمسلمون اليوم في معظم العالم الشرق-أوسطيّ يعيشون تجارب هجينة من الحداثة السياسيّة والتقنية وغيرها.

لكن ما هكذا يُقرأ التاريخ. فعلينا أن نرى أنّ لا أحد خارج الحداثة بمعنى مهمّ، ألا وهو معنى أنّنا -كعربٍ ومسلمين- نلعبُ دورًا في هذه الحداثة، أو بالأحرى نحن مُمَوْقعون داخلَ نقطةٍ محدّدة قد حدّدها لنا المركز ووضعنا فيها، ثمّ قال إنّنا خارج الحداثة وروّج لذلك المثقفون العرب. فنحن لا خارج الحداثة، نحن في موقعٍ موْقَعتْنا فيه الحداثة عن إرادةٍ واعيةٍ منها، في موقع كان لا بدّ لأيّ أحدٍ أن يشغله كي تعرّف الحداثةُ نفسها من خلال كونها «غير» هذا الموقع بالتحديد. وبالتالي، فالدخول أو الخروج إلى شيءٍ ما اسمه «حداثة» هو ليس عملية اختيار وإرادةٍ في هذه الحالة بشكلٍ رئيس. فمنذ متى قد خُلّي عن إرادة العرب والمسلمين أن تفعل، فهي مهيمَنٌ عليها منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم.

ومما هو متصل بهذه الفكرة أيضًا هو أنّه يتمّ النظر دائمًا إلى فاعليّة المسلمين والعرب على أنّها فعاليّة غير منتِجة في العصر الحديث، وأنّ ثمّة جمودًا ما حاصل في العالم الإسلاميّ. بالطبع، لا يمكن للمرء أن يبرّر ذلك، لكن ما لا يمكن أن يسكت عنه هو اعتبار أنّ فاعليتهم محرّرة، ليس فقط، بل هم يتنكّبون -لطبيعةٍ جوهرانيّة فيهم- عن تجاوُز ذلك، ومن ثمّ فأيّ نقدٍ للغرب من الداخل العربيّ والإسلاميّ هو بمثابةِ دفاعٍ عن هذا الجمود.

لا يخفى بالطبع الطابعُ التاريخانيّ الذي يسيطر على مثل هذه الأقوال، لكن ما يلفتُ النّظر إليها هو أنّها لا تولي أيّ اعتبار لمفهوم السلطة وما يشكّله ويفعله بالإرادات التي يُراد لها أن تكون فعّالة. كما إنّ الظنّ بأنّ نقد الغرب ومكافحته الجذريّة التي يجب أن تكون هي بمثابة تبرير ودفاع عن هذا الجمود هو أمر قاصر النّظر بطبيعة الحال. لأنّه حين مناهضة الغرب ومكافحته سواء على مستوى سياسيّ أو على مستوى معرفيّ -بتعميم النّظام المعرفيّ الحديث على بقاع الأرض- فهو، بكلّ وضوح، لفتْح الآفاق أمام إرادة العرب والمسلمين أن تعمل، وأن تبدع نماذج عيشٍ وسياسةٍ، وأن يخرجوا من ثنائيّة لعينة إمّا كذا «الإسلاميّ» أو كذا «الغربيّ».

ولهذا لقد كان «وائل حلّاق» بصيرًا حين قال في كتابه «الدولة المستحيلة» بأنّ المسلمين قد عاشوا قرونًا طويلة مبدعين لنماذج عيش وأنماط معرفة، واستكمالًا على حلّاق يمكن القول؛ إنّ تصوير الأمر على أنّه لولا الحداثة لظلّ المسلمون متخلّفين، هو وقوع في أسْر ميتافيزيقا التقدّم الواهية -وبعض المثقفين لا يستحون من الامتنان للكولونياليّة بوصفها أدخلتنا إلى حقبة العصر الحديث.

ﻻ حاجة للحديث عن الاستشراق بعد مرور عقود من نقده من خلال مؤلفات عديدة على رأسها «الاستشراق» لـ«إدوارد سعيد» (1979م)

لا يقف الأمر أيضًا أمام استلاب إرادة العرب والمسلمين على التاريخ الكولونياليّ فحسب، فقد رافق ذلك نتاج من المعرفة الاستشراقيّة أيضًا عن الإسلام والمسلمين والعرب. إذ يعتقد البعض أنّ الحديث، حاليًا ومجدّدًا، عن الاستشراق، ليس سوى انخراط تقليديّ جدًّا وكلاسيكيّ المنزع، نحو نوعٍ من المعرفة والتفكيك حصل، ويحصل، منذ عقود، وأنّه لا حاجة للحديث عن الاستشراق اليوم في ضوء انقلاب مفهوم الاستشراق نفسه، وأيضًا في ضوء مرور عقود من نقدِه، خاصّة بعد ظهور مؤلّفات عديدة، على رأسها «الاستشراق» لـ«إدوارد سعيد» (1979م)، تنتقد الاستشراق وتبيّن سياسات معرفته، وأيديولوجيّتها.

وهناك من يذهب إلى أنّ استمرار الحديث عن الاستشراق والاستعمار ما هو إلّا انجرار في «نظرية المؤامرة» الدنيئة، والتي يصطنعها الإعلام الشعبويّ والشوفينيّات عمومًا. لكنّ ذلك يفوّت كثيرًا من التحرّر المرجوّ حدوثه في العالم العربيّ اليوم، إذ الهيمنةُ الغربيّة ليست سياسيّة فحسب، بل هي معرفيّة بشكلٍ أساسيّ والتي يعيد إنتاجها -بوعيٍ أو بغير وعيٍ- كثيرٌ من المثقفين العرب والمسلمين تجاه ذواتهم.

وكان «طلال أسد» محقًّا حين رأى كيف أنّ من يمثّلون، ثقافيًّا، العالَم العربيّ-الإسلاميّ اليوم هم من نتاج السياسة الاستعماريّة والمعرفة الاستشراقيّة ذاتها. إذ يقول أسد في «جينالوجيّات الدين»:

في كلّ سردية، أحكمت القوّة السياسيّة والاقتصاديّة والأيديولوجيّة الغربيّة قبضتها على الشعوب غير الأوروبية. هذه القوة التي انطلقت في عصر التنوير في أوروبا، لا تزال تعيد هيكلة حياة الشعوب غير الأوروبية، في كثير من الأحيان من خلال وكالة/وساطة غير الأوروبيين أنفسهم. وإذا كانت «الأصولية الإسلاميّة» هي رد فعل لتلك القوة، إذن فالأمر نفسه ينطبق بالتأكيد، وحتى أكثر شمولًا، على التيارات الفكريّة التي تُعرف باسم «الإسلام الحداثيّ» (التي تهتمّ بموافقة اللاهوت مع نماذج الحداثة المسيحيّة)، و«العلمانية الإسلامية» (التي تنشغل باللاهوت بدرجة أقلّ من انشغالها بفصل الدين عن السياسة في الحياة الوطنية). وكذلك ينطبق على حركات التقدّميين في الأدب والفنون، وفي السياسة والقانون، التي نشأت في المجتمعات الإسلاميّة.

إنّ عدم إيلاء اهتمامٍ للحقبة الاستعماريّة وتمظهراتها فيما بعد، وللمعرفة الاستشراقيّة وما أنتجته من مثقفين ومعارف داخلها، هو ما يجعل الكثير من التشوّش حاصلًا في داخلنا العربيّ والإسلاميّ. لأنّ إيلاءً طفيفًا لذلك سيحجّم منتجي المعرفة العرب عن التوقّف عن هذا النّقد، وسيعطّلهم عن تحميل فشل«نا» على أنفسنا كأنّ العرب والمسلمين مسؤولون عن فشلهم، دون نظرٍ لما تفعله الهيمنة الغربيّة منذ عقود وإلى اليوم عبر عالمٍ مُعَوْلَمْ.

ليس هذا فحسب، بل إنّ النّقد الذي ينطلق مثلًا من أنّه ليس هناك فلاسفة مسلمون أو مفكّرون مسلمون -وهناك من يحمّل وزر ذلك على الإسلام- يجهل، أو يتجاهل، أنّ المشكلة اليوم ليست إذا ما كان المسلمون قادرين على إنتاج فلاسفة أو مفكّرين، بقدر ما أنّ «المعرفة» نفسها اليوم لا يتمّ قبولها إلّا إذا كانت موافقةً «للنماذج» الغربيّة للمعرفة (وهذه نقطةٌ أنا مدينٌ بها لحسن أزد، الطالب المرشّح للدكتوراه بجامعة كولومبيا). فلا يمكن أن تعمّم، إمبرياليًّا، نمطًا معيّنًا وأوحدًا من المعرفة ثم تصف من يتحرّك من أفقٍ مغاير لإنتاج الحقيقة أنّه عنين وعاجز.

إنّ هذا التشوّش الحاصل لدى «النّقاد» العرب هو بسبب غياب قراءة للتاريخ، والقفز على سور التاريخ الموضوعيّ الذي نشأت فيه علاقات السّلطة هذه، والتي بداخلها تموقعت مواقع محدّدة لكلّ طرفٍ في معادلة ثنائيّة، متجاوزين ما حدث ليغدو الصّراع بنظرهم بين «الإسلام» و«الحداثة»، دون أدنى اهتمام للشّروط والسياقات الحديثة لإنتاج المعرفة والسّلطة على السواء، وكأنّ الصراع التاريخيّ يكون بين كيانات مجرّدة بجوهرها متنازعة، وهي رؤية لا تاريخيّة بطبيعة الحال.

بالطبع، وبكلّ وضوح، لا بدّ من التأكيد على أمر ذي أهمية في هذا المقام، وهو أنه لا تعني أبدًا هذه السطور الدعوة إلى حبّ الذات أو عدم نقدها، فما ما تدعو إليه بكلّ وضوح هو التأمّل في شروط وظروف النّقد الحديث الذي يُقدّم للذات، وإلى البنى السياسيّة والإبستمولوجيّة التي يرتكز عليها، صراحة أو إضمارًا.

وبالتالي، فلا بدّ من فتح أفقٍ جديد للنّقد، أفق تحرّريّ من أسْر البنية السياسيّة-المعرفيّة بشكلٍ قاطع، وفتح الآفاق تجاه فاعليّة حقيقيّة إرادة سياسيّة للعرب والمسلمين في بلدانهم بعيدًا عن السياسات الإمبرياليّة الحاليّة من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى تجاه فاعليّة معرفيّة حقيقيّة مُساهمة، بدلًا من إنتاج معرفة على شاكلة التعميمات الاختزاليّة والتي ترتكز على رؤى ثقافويّة واضحة.