في طريق الوصول لنتيجة معينة، يسهل على البعض بناء نسق عام ومترابط يتيح لهم تضخيم المبررات والتماس شتى أنواع الأعذار وأحيانًا تحويل حقائق تسعصي على الإنكار لمجرد وجهات نظر تسبح بمساحات القبول والرفض. بدأ الأمر بالترويج لنكتة لطيفة مفادها أن منتخب مصر لا يمتلك إمكانيات فنية ترقى لتقديم عروض جيدة، من يريد المتعة فعليه تجاهل مباريات التاسعة وانتظار «ميسي» في العاشرة، ثم إرجاع الانكماش وتردي المستويات لصغر سن لاعبين أساسيين أصغرهم بطريقه لاستكمال الثالثة والعشرين، وأخيرًا لا ضير من التحجج بالرطوبة وبأرضية الملعب شديدة السوء، وبين هذا وذاك التأكيد على ضرورة احترام اختيارات المدرب الأجنبي.

قبل أن تفكر في المنطق الذي جعله يتصور أن «رمضان صبحي، تريزجيه، صلاح وكهربا» لا يمكنهم تقديم عرض فني جيد، أو بحث سريع على جوجل عن عمر لاعبين تجاوزوا الـ30 بالتشكيل الأساسي كـ«عبدالشافي، فتحي، عبد الله» وقبلهم «الحضري» لتتأكد أننا في عام 2017 ولسنا في 98، وقبل حتى أن تخبره بيقينك بأن الأمر لا يتعلق فقط بسوء أرضية الملعب، سيضعك عزيزي القارئ أمام السؤال الأصعب: هل تريد «الأداء الجيد» أم «النتائج»؟!، في الغالب لن يمنحك الاختيار قبل أن يلقي عليك الجملة الساحرة «العبرة بالخواتيم»، وكأن خواتيم بطولات 2008 و2010 كانت سيئة حينما قدمنا العروض الأجمل أمام المنافسين الأصعب، ربما تكفي الإشارة أن إحصائيات بي إن سبورت تقول إن لمنتخب أوغندا تمريرة واحدة فقط بمنطقة جزاء «عصام الحضري»!.


الشوط الأول ولا جديد سوى رمضان

يتمسك «هيكتور كوبر» بقناعاته الرصينة على مستوى أسلوب اللعب والاختيارات الفنية التي يصعب أن تتعدل أحيانًا حتى مع تغيُّر الظروف، الأرجنتيني يفضل دائمًا اللعب بطريقة 4/2/3/1 التي تتحول لـ4/4/2 وقت امتلاك الخصم الكرة محذرًا الأطراف الدفاعية بضرورة عدم التقدم والأخرى الهجومية بضرورة المساندة وتخفيف الضغط، مع وجود عمق لثنائي وسط الملعب لتقليل المساحات. الجديد فقط عن مباراة مالي كان استبدال «السعيد» بـ«رمضان» الذي لعب كطرف أيسر وتحول «تريزجيه» كطرف أيمن، أما «صلاح» فشغل مساحة عمق الملعب والمهاجم الثاني أحيانًا.

تشكيل الفريقين وأماكن توزيع اللاعبين أثناء المباراة، المصدر : www.beinsports.com
تشكيل الفريقين وأماكن توزيع اللاعبين أثناء المباراة، المصدر: www.beinsports.com

مشكلة التشكيل كما يبدو للوهلة الأولى افتقاره لآليات صناعة اللعب وتوزيع الكرات، كان من الممكن الحفاظ على «صلاح» الذي تميزه الانطلاقات كطرف أيمن ونزول «تريزجيه» لعمق الملعب، لكن الإجابة النهائية لـ«كوبر» كان الاعتماد بشدة على قدرة «رمضان» على الاستلام وإدارة الهجمات من الجانب الأيسر. تقول إحصائيات شبكة «bein» أن لاعب نادي «ستوك سيتي» احتكر ما يقرب من 60% من هجمات مصر بالشوط الأول.

الخريطة الحرارية للمباراة و التي توضّح الدور الذي قام به رمضان صبحي ناحية اليسار، المصدر " www.beinsports.com
الخريطة الحرارية للمباراة والتي توضّح الدور الذي قام به رمضان صبحي ناحية اليسار، المصدر: www.beinsports.com

بدأ الأمر من الدقيقة الثالثة عندما توغل «تريزيجيه» بشكل عكسي ليمرر لرفيقه السابق بالأهلي الذي دخل لمنطقة الجزاء ليحاول التوزيع، لكن الكورة تجاوزت خط الملعب. اللقطة نفسها تكررت بالدقيقة الـ19 عندما مرر كرة خطيرة جدًا متجاوزًا ثلاثة لاعبين من الخصم لـ«صلاح» الذي اتخذ موقعه كمهاجم ثانٍ قبل أن يحاول التسديد لكنها ارتطمت بالدفاع الأوغندي.

الدقيقة الـ23 شهدت الظهور الأول للجبهة اليمنى حين استطاع «تريزجيه» تمرير كرة طولية سريعة لـ«صلاح» المنطلق باتجاه الحارس «اونيونجو» قبل أن يمرر بدون عنوان، المشكلة لم تكن تأخر «مروان محسن» بل في تردد جناح روما بين التسديد والتمرير.

«كوبر» كان يعلم بأزمة صناعة اللعب لكنه فضّل الإبقاء على العناصر التي ستحقق له مساندة دفاعية دائمة وقت الحاجة، لذلك فإن الأرجنتيني أعطى تعليماته بالتسديد من خارج المرمى. التسديدة الأولى كانت من نصيب «طارق حامد» بالدقيقة الـ32 وتكرر الأمر بعد ذلك.

أما «مروان» فقد يكون أكثر لاعبي المنتخب تعرضًا للأذى من التمويل الهجومي الشحيح، لكن الملحوظ أن مهاجم الأهلي قد قرر كسر عزلته الهجومية خلال لقاء مالي وتكرر الأمر بالدقيقة الأخيرة من الشوط الأول عندما كان محطة استلام الكرة بوسط الملعب ومررها رائعة للمنطلق «صلاح» الذي كان على بعد لمسة واحدة من إحراز الأول لولا تدخل المخضرم «أونيونجو».

على الجانب الآخر فإن المدرب الصيربي الواعد لمنتخب أوغندا «ميشو» كان يشغله الفوز بمعركة وسط الملعب من أجل إحداث ثغرة بالعمق بدلاً من بدء الهجمة على الأطراف. قرار «ميشو» كان مبنيًا على تحفظ الأظهرة «عبد الشافي» وبالأخص «فتحي» الذي يقدم بطولة جيدة وبالتالي دخول «أوغندا» في معركة خاسرة، تحقق له ما أراد عندما استطاع اللاعب «ميا» بالتعاون مع «مويجي» بقيادة هجمة استطاعت تجاوز ثنائي الوسط والدفاع بضربة واحدة قبل أن يسددها «ميا» بالقرب من مرمى مصر. المثير أن طريقة الاختراق الأوغندية كانت شديدة البدائية وسهلة التوقع والإيقاف لكنها استطاعت إحراز خطورة ما.


الشوط الثاني والظهور الأول لكهربا

ربما كان الجميع في مصر يتساءل عن موعد التبديل الهجومي، الأغلب يميل لنزول «كهربا» الذي يقدم موسمًا هو الأروع في سجله مع «اتحاد جدة»، لكنه لا يجيد الأدوار الدفاعية لذلك لا يتم الدفع به عادة كأساسي. تساؤلات المصريين توقفت عندما بدا أن منتخب أوغندا قد اكتسب ثقة نقل الكرات وبالأخص العكسية التي يتسلل خلالها الطرف الخطير «أوشايا» لعمق منطقة الجزاء، الأرجنتيني يدفع بـ«عبد الله السعيد» بعد الدقائق العشرة الأولى في محاولة لإدراك المباراة وسط عجز «النني» عن تمويل الهجمات.

الظهور الأول لـ«عبد الله» كان من تسديدة من حدود منطقة الجزاء تسبب فيها «رمضان» قبل أن يغادر في تغيير غريب لصالح «عمرو وردة»، غرابة التغيير بسبب أن «صبحي» كان من أفضل لاعبي المنتخب إن لم يكن أفضلهم وبالتالي كان أولى بالتبديل «تريزجيه» الذي لم يقدم المتوقع منه، في الوقت ذاته توقع كثيرون نزول «كهربا» لكن شيئًا من ذلك كله لم يحدث. عمومًا عاد «صلاح» كطرف أيمن، وتحول «تريزجيه» مكان رمضان بالطرف الأيسر وأوكِل لـ«وردة» قيادة عمق الملعب، والحق بأن الأخير أحدث انتعاشة لا بأس بها بفضل تحركه الدائم بجانب من يمتلك الكرة وبالتالي يمتلك تمركزًا جيدًا مكّنه أكثر من مرة لفتح الملعب.بعد الثلث ساعة الأولى من الشوط الأول شهدنا التقدم الأول ربما بالبطولة كلها للظهير «محمد عبد الشافي» عندما وزع عرضية متقنة داخل منطقة الجزاء، انتظرتها رأسية «مروان محسن» قبل أن تعلو الكرة قليلاً مرمى أوغندا.

http://gty.im/632312694

حلول «ميشو» اعتمدت على الكرات العكسية التي ينطلق أثناءها أحد الأطراف للتمرير السريع للطرف الآخر المتوغل بعمق الملعب، صحيح أن نزول اللاعب «محمد شعبان» كان عاملاً في دفع أوغندا للأمام لكن بقيت دائمًا اللمسة قبل الاخيرة غير متقنة لتقع الكرة أغلب الأحيان بمدار سيطرة «الحضري».

الدقيقة 80 تشهد أخيرًا الظهور الأول لـ«كهربا» بديلاً لـ«تريزجيه» مركزًا بمركز، لقطة المباراة كانت من نصيب صاحب الرقم 11 عندما تغوّل من الجانب الأيسر مستطيعًا جذب أنظار أغلب مدافعي الخصم الذي ساهم في تضليلهم «مروان محسن» قبل أن يمرر لـ«صلاح» الذي انتظر برهة ليمنحه «عبد الله» زاوية تمرير ممتازة استطاع الأخير خلالها حسم النقاط ووضع قدمًا لمنتخبنا بربع النهائي؛ تحرك نموذجي من «السعيد».

http://gty.im/632323644


هوامش: قلب الدفاع والنني وبالتأكيد كوبر

بات واضحًا للجميع بأن ثنائي خط الظهر «حجازي وجبر» على درجة متدنية من التفاهم، صحيح أن الثنائي هو الأفضل بمركزه على المستوي الفردي في غياب المصاب «ربيعة» لكن على المستوي الجماعي يخطئ الثنائي كثيرًا بالتفاهم في تقدير الكرات!.

الأمر الذي ظهر بالمباراة للمرة الأولى بالدقيقة 27 عندما قام «أوشايا» بعرضية من الجانب الأيسر تفاداها «جبر» لصالح «الحضري» قبل أن يتدخل «حجازي» بشكل غريب جدًا كاد أن يكلف المنتخب الكثير، اللقطة نفسها تكررت بنفس القدر من الغرابة أثناء أحد ركنيات المنتخب بالدقيقة الـ15 عندما صعد الثنائي بنفس المساحة والتوقيت للعب الرأسية لكن الكرة ذهبت ضعيفة لخارج المرمى. المدهش أن أمر سوء تفاهم الثنائي ظهر بمباراة مالي وها هو يتكرر مرة ثانية الآن، بل إن سوء التفاهم يأتي في أهم ما يخصهما وهو الكرات العالية، يجب تدارك الأمر سريعًا.

محمد النني تائه بتشكيل هيكتور كوبر.

حسن شحاتة، المحلل الفني

قبل نحو شهور كان «شحاتة» يحلل بعين الخبير مشكلة «النني» بطريقة لعب المنتخب الحالية، المعلم أوضح بأن مركز «النني» الحالي يقتضي أدوارًا بصناعة اللعب لا يمكن للاعب أرسنال القيام بها بسبب تحميله أدوارًا دفاعية بعمق الملعب لا بأس بها.

توجهت سهام الانتقادات عبر مواقع التواصل الاجتماعي للنني متسائلة عن أسباب تقصيره كوسط ميدان ثانٍ أو صانع لعب متأخر وأحيانًا عزوفه عن المشاركة بكرات قريبة منه، فهل يمكنه تدارك الأمر سريعًا خصوصًا قبل المباريات الإقصائية؟، عمومًا يصعب توقع تعديل جذري بتشكيلة الأرجنتيني، ربما استبدال لاعب بآخر.

http://gty.im/631231980

هناك تعريف عام يصلح لأي مدير فني بعالم كرة القدم وهو قدرته علي إيصال الفريق لمرمى الخصم ومنعه أكبر عدد من المحاولات على مرماه، «كوبر» يعدك بالجانب الثاني فقط من التعريف، الرجل مؤمن تمامًا بضرورة التحفظ لأقصى درجة أمام أي منتخب مهما كانت إمكانياته وتاريخه فقط بتمترس أكبر قدر من اللاعبين حول المرمى وقبل وسط الملعب وبالتالي تضييق المساحات، أما هجوميًا لا يظهر بحال من الأحوال بأن منتخب مصر قادر على التعامل مع المساحات وبتوزيع ونقل الكرات. لا تنخدع بسرعة «صلاح أو تريزجيه» التي تؤهلهما للانطلاق، هذه سمة فردية ليس لها علاقة بإدارة الهجمة المرتدة، لذلك تبدو لي مقارنات كوبر بـــ«سميوني» غريبة وأحيانًا كوميدية، الأخير على الاقل حوّل الصغير «جريزمان» لسفّاح ومنحه القدرة على المنافسة بجوائز الكرة الذهبية، حوّل «جودين» لأفضل مدافع بالعالم، بالتأكيد لم تكن تعرف«أوبلاك» قبل أن يأتي للكالديرون ويصبح من حراس الطراز الأول.

العبرة بالخواتيم صحيح، لكن الجملة تحمل ضمنيًا معنى وقيمة ضرورة المثابرة والاستمرار والتطور حتى الرمق الأخير، وليس الظهور للمرة الأولى بشكل جماعي هجوميًا بالدقيقة 88 أمام منتخب لم يتأهل لكأس الأمم منذ أربعين عامًا، كل التوفيق لمنتخب مصر بالجولات القادمة.