طرحت لحظات الارتباك الشديد في المشهد السياسي المصري –لا أبالغ إن قلت العربي– بعد ثورات الربيع العربي التساؤل القديم الحديث حول التحديث أو الحداثة، بوصفها مآلاً نهائيًا لتقدم المجتمعات البشرية. راجعت تلك الثورات التي كان للمجال العام دور مؤثر فيما قبل وبعد الفعل الثوري، في مصر وتونس بالأساس، مفاهيم متجذرة حول الحداثة والمشروع الوطني، ووجهت بعض التيارات أو الأشخاص الفرادى نقدًا جذريًا أحيانًا ومتماهيًا أحيانًا مع التصور الدولاتي عن الحداثة، باعتبار الدولة تقع موقع المركز لفعل التحديث.

تجذر هذا المجال العام بالأساس في النموذجين غير العسكريين للثورة –أو بتعبير أدق التي لم تتحول الثورة فيهما لحمل السلاح– دفاعًا عن نفسها كما في سوريا واليمن وليبيا، طارحة بذلك سياقات مختلفة للفعل الثوري قد تميل ناحية التصنيف للعنف الاجتماعي الواسع الذي يمتد لحرب أهلية. لكن في النماذج الأخرى (مصر وتونس) التي استطاعت الثورة في إحداهما كسب مساحات أكبر من الدولة كما في تونس، أو التي تراجعت فيها الثورة سلميًا أمام الدولة كما في مصر، كان للنقد الجذري لمفهوم التحديث نصيب كبير في المجال العام، وإن كان اتخذ شكلاً فوقيًا يتعلق بنقد الدولة نفسها، عن طريق رفع شعارات مضادة ومحرضة على فساد وقمع الأجهزة المختلفة لها.

في المقال، أحاول الوقوف على تلك النقاشات باعتبارها مقدمة لمرحلة أخرى تتعلق بالتفكير في مشروع التحديث على طول التاريخ المصري المعاصر، وفي اللحظة الحالية باعتبارها تجليًا للحظة التأسيسية الأولى لدولة الفرد العسكري ولي النعم. وتتعلق أدوات التحليل التاريخية التي أعتمد عليها بجزء من الحدس، فأدوات التحليل الحتمية خاصة في المواضيع التي تتعلق بسياقات كثيرة متنوعة، كالاقتصاد والمجتمع والسياسة كممارسة والسياق الثقافي، تكون أدوات التحليل الحتمية معدومة إن لم تكن موجودة من الأساس.


الارتباك والتشكك كمقدمة للتفكيك

طرحت لحظات الارتباك والتشكك تجاه الدولة في الحالة المصرية أسئلة كثيرة ومتفرعة حول الأصل الأيديولوجي للدولة وعلاقتها بالطبقات المختلفة، وأسئلة أكثر أهمية في وجهة نظري حول اللحظة التأسيسية للدولة المصرية الحالية، والتي يحيلها البعض لمحمد علي، أو لدولة يوليو 52، وأرى أن الإحالتين لأحد النموذجين بدون الآخر قاصرة، فالدولة المصرية الحالية هي نتيجة إعادة صياغة لمشروع محمد علي تمت في سياق تاريخي مختلف في يوليو 52.

لكن، وبالنسبة للفعل العمومي، طُرحت أشكال أخرى ومتفرقة من النقاشات والأطروحات التي لم تؤخذ موضع الجد في نقاشات المجال العام المصري، والذي تميز في فترةِ ما تلا الثورة بذلك التخبط والتشكيك في الميراث القومي والوطني للوطنية المصرية، بجانب عدم قدرته على صياغة توافق اجتماعي واسع قائم على الفاعلين الأساسيين في هذا المجال العام، والتوافق هنا هو فعل اجتماعي ليس نخبويًا، ليس في تحالفات واسعة في الأحزاب التي تنتمى للقوى المدنية، لكن بين قوى اجتماعية حقيقية وجماعات مصالح تسعى للوصول للسلطة عن طريق قاعدتها الشعبية.

من الممكن أن نعتبر التحديث مشروعًا سياسيًا في بعده الأول، لكن تتفاعل عدة مكونات أخرى لصياغة هذا المشروع السياسي، هنا لابد من التوقف لحظة أمام طبيعة المكونات التي تصيغ هذا المشروع السياسي، وطبيعة التفاعلات بين تلك المكونات. تقع المكونات التي تساهم في عملية التحديث (الاجتماعية منها، والاقتصادية، والتاريخية، والثقافية) للمجتمعات موقع الدافع في عملية التفاعل من أجل صياغة العملية التحديثية.

وهنا تطرح إشكالية متعلقة بسياق التفاعل هذا، والرهان في هذا السياق هو متعلق بالمقام الأول بقدرة المجتمع والدولة (كمنفذ) على صياغة التوافق للدفع في اتجاه التحديث. وسياق التفاعل نظريًا هو الذي يحدد مدى استجابة المجتمعات في مجموعها لعملية التحديث، فمثلاً يشكل أحد أهم المكونات للمشروع التحديثي، الدين كمكون ذي أبعاد ثلاثية (ثقافية – اجتماعية – تاريخية)، في أثناء صياغة التفاعل التحديثي تحدد أشياء مثل طبيعة المؤسسة الدينية الحاكمة ومدى تماهيها مع العملية التحديثية التي تلوح في الأفق، وهنا يتضح نموذج التحديث الأوروبي والمعركة الطويلة مع المسيحية الكنسية في سياق الحداثة الأوروبية كنموذج حاكم وصائغ لمعظم خيالات وسيناريوهات التحديث، سواء على المستوى النظري أو العملي.


التحديث كخيال سلطوي

يمكن إيجاز تجربة مصر مع الحداثة في اختيار المصطلح الصحيح، فبين «الحداثة» كنسق فكري واجتماعي توافقي في معظمه ولكنه يمتلك بعض الشروط السلطوية، كحق الدولة في العنف الشرعي، وبين التحديث كبنية سلطوية تستدعي في المقام الأول رضوخًا اجتماعيًا كشرط مسبق لعملية تحديث قصري للمجتمع، هنا يتم حجب شروط التفاعل، أو بمعنى أدق مكونات الحداثة عن التفاعل في السياق الاجتماعي.

تاريخيًا، ومع محمد علي وتجربته الفريدة في سلطويتها مع التحديث من أجل الدولة، بل من أجل الفرد إن صح التعبير، كانت صياغة أي مشروع تحديثي للمجتمع المصري هي صياغة سلطوية تتعلق بالفرد الحاكم، لم يمنع هذا من نمو أشكال فوقية مؤسساتية من أشكال الحداثة الأوروبية، كجيش وطني، وأجهزة لإدارة الاقتصاد، مدارس حديثة، مؤسسات صحية حديثة، لكن كلها ومن لحظة الإنشاء الأولى كانت من أجل الدولة. فالمشروع الكلي لمحمد علي الممثل الأوحد للدولة كان يستدعي في لحظة البناء وجود تلك المؤسسات لخدمة مشروعه التوسعي، فهو يحتاج لموظفين متعلمين أصحاء لإدارة الدولة وبالتالي أنشأ المدارس والمستشفيات، ويحتاج لجيش قوي يخدم ذلك المشروع فبناء المستشفيات وورش صناعة السفن ومصانع البارود كان هامًا، يحتاج لموارد مالية لتمويل حملاته العسكرية فكان التوسع في الزراعة وشق الترع والقنوات هامًا لتجارة القطن مع أوروبا.

يدفع خالد فهمي في كتابه «كل رجال الباشا» بطرح مفاده أن مركزية الجيش في إرهاصات عملية التحديث في مصر جعلت للجيش المصري على مر العصور تأثيرًا هامًا في السياسة المصرية، ومن المؤكد أن الطرح السابق في كليته صحيح، ويعبر عنه الكاتب بأطروحات نظرية كثيرة يقع في المركز منها السلطة كإستراتيجية على حد تعبير فوكو. وعمليات التحديث التي قام بها محمد علي لم تكن لتقوم بدون سلطة قوية يبقى الجيش مركزًا منها ومحددًا لهوامش تأثيرها على المجتمع، لكن كان دائمًا هناك معادل موضوعي لهذا الدور، خاصة من الطبقات الاجتماعية التي نشأت خارج الإطار العسكري؛ الإقطاعيين (الباشوات الأتراك) أيام محمد علي، أو (البرجوازية الزراعية) فيما تلا، أو حتى الاستعمار الإنجليزي الذي طرح تصورًا مختلفًا عن السلطة في مصر، يتعلق بالمقام الأول بالاستغلال.

تبدو تجليات تلك اللحظة التأسيسية الروحية حاضرة حتى وقتنا الحالي، فالدولة التي تريد أن تسيطر على كل مفاصل المجتمع لم نتخلص منها منذ محمد علي، وللزمن عجائب كما يقولون، فلم تقدر الدولة المصرية في نظري على إحكام القبضة الكاملة على مفاصل المجتمع، ويمكن أن يرجع هذا لأن علاقات الإنتاج ظلت في معظمها بدائية خراجية قائمة على الزراعة كنمط أساسي للإنتاج، ولم تفلح العملية التحديثية في تحويل المجتمع المصري لمجتمع صناعي، أو لترامي المساحات وصعوبة الانتقال بين أطراف مصر والسياقات الثقافية والاجتماعية المختلفة من بلد لأخرى داخل مصر.


السياسة كإعادة إنتاج للفراغ الحداثي

صياغة المشروع التحديثي هي سياسية في الأساس خاصة في المجتمعات التي اضطلعت فيها الدولة بتكوين الطبقات وتحديد هامش المجتمع ومركزه، لكن في النهاية تبقى الدولة أو الشخص كفلك نهائي تدور حوله عملية التحديث؛ مما يمنع تفاعل المكونات الأخرى، اللهم إلا التي تسمح لها الدولة بالدخول في التفاعل أو التعاطي معه، كما في حالة البعثات التعليمية والتي كان لها أثر كبير في فكر أشخاص مثل رفاعة الطهطاوي، محمد عبده، ورشيد طه، وغيرهم لاحقًا طه حسين، وعلي عبد الرازق، والذين قدموا رؤى وتوجهات بل ونصوصًا مكتوبة تدفع في اتجاه النقد الحقيقي للتراث المعرفي الديني الراسخ في المجتمع.

يمكن الحكم على تلك اللحظة بأنها لحظة انفلات لقبضة وسلطة التحديث من قبضة الدولة، ودخول أحد المكونات الثقافية ليتفاعل في عملية التحديث، وسرعان ما تحاول الدولة الإمساك بزمام الأمور مرة أخرى، وقتل تلك التفاعلات في بداياتها أو جعلها على الهامش، والهامش هنا يعني اجتزاء المكون من سياق التفاعل لتفاعل آخر، فجرّ مثلاً طه حسين لمعركة ثقافية من معارك المثقفين، أو جعل الجماعة الثقافية في مصر في بدايات الأربعينات جميعها تنشغل بمعارك ثقافية نخبوية من الدرجة الأولى.

غالبًا ما تهاجم الحداثة الغربية باعتبار أنها نسق غير شرقي، ومن المعروف ذلك ومن المبرر أيضًا أن تتبنى التيارات المحافظة والإسلامية هذا الطرح، وأن يدافعوا عن أطروحات –هي في الأصل غربية– عن صراع الثقافات وصراع الحضارات وكل تلك الأشياء، لكن الحالة المصرية هدت تصورًا من نوع آخر عن الحداثة باعتبارها سياسية في الأساس، ويمكن تتبع أصول هذا التصور في الفترة بين 1919 وبين 1952، بالأحرى ما يطلق عليها الليبراليون في مصر الحقبة الليبرالية، والتي بالمناسبة كان لحكومة الوفد الليبرالية فيها ما يقارب ست سنوات على فترات متقطعة، صياغة هذا التصور جاءت أنه من الممكن القفز على المعضلة الحداثية التي تتعلق بتفكيك التراث المعرفي القديم من خلال تنحية عامل الدين، ما صاغه مفكرون إسلاميون وغير إسلاميين لاحقًا في تعبيرات على غرار «الحداثة الإسلامية».

لكن يغيب عن هؤلاء في طرحهم للحداثة على أنها ممارسة سياسية تتعلق أساسًا بالإطار القانوني الذي تحدده الدولة لعمليات التفاعل في المجتمع أو ما يسمى بالـ (legal code)، أن المجتمع لابد أن يشارك في تلك العملية التحديثية سواء عن طريق تغيير أنماط وعلاقات الإنتاج أو حتى نضالات المجتمع كمجموع من أجل كسب مساحات رفاهية ورخاء اقتصادي لأكبر فئة منه.


الإسلام السياسي كعامل لحسم التخبط

يميل مفكرون ماركسيون، أو من الطيف الواسع لليسار الاجتماعي، مثل سمير أمين وجلبير الأشقر، لاعتبار ميراث القومية السيئ هو عامل هام وموضوعي في ظهور الإسلام السياسي وجماعات الإسلام السياسي بتنوعاتها المذهبية والاجتماعية بداية من الإرهابيين والسلفيين والجهاديين، انتهاء بالإخوان المسلمين أو من على هوامشهم من التيارات المحافظة التي تعبّر في مجملها عن ضيق اجتماعي ناتج من فشل كل مشاريع التحديث السابقة، فلم يجد المجتمع آخرين يقدمون طرحًا يعبر في مجملة عن ضرورة العودة للإسلام كحاكم، ويستلهم خيالات ليس للأغلبية العظمى في المجتمع معرفة جيدة بها، ويقدم خطابات سياسية واجتماعية تقدم نقدًا للتحديث على النسق الغربي في ظل تقديمها لخطابات معارضة أو متماهية مع السلطة، فيصبح المجتمع أسيرًا لتلك الخطابات الجزئية التي لا تنتج بقدر ما تعبر عن فراغ حداثي.

أرى أن المجتمع كان الشرط المسبق هنا لإنتاج الإسلام السياسي، وجزء منه بالفعل الأغلبية قد ضاقت بعمليات التحديث التي تعد برخاء اقتصادي وشيك لم نعثر عليه حتى الآن، فكان لابد من تلك الردة الحداثية؛ أي الرجوع للميراث الإسلامي الذي يشكل عموم الحقل المعرفي في المجتمع. لاحقًا بالطبع اضطرت الدولة خاصة في فترة السادات للتماهي مع تلك الجماعات خاصة الفئات غير المسلحة منها والتي لا تمثل تهديدًا صريحًا على السلطة وأفرادها.

فالوعي الجمعي الرجعي والمحافظ هو نتيجة مباشرة للتحديث الفوقي في تصوراته، والشكلي في إجراءاته، والذي فرضته الدولة على امتداد تاريخها الحديث على المجتمع، بداية من التجنيد الإجباري أيام محمد علي، وحتى الانفتاح الاقتصادي للسادات. لذلك فمن الطبيعي كلما فشلت محاولة تحديث أن يتجه المجتمع ليسبح ضد تيار النهر، طالما أنه وجد أن السباحة مع نهر الحداثة لا تجدي، هنا تتجه الدولة للتماهي مع الاتجاه العام والمزاج العام المحافظ حفاظًا على شرعيتها التي تستمد جزءًا كبيرًا منها من كونها محافظة على تقاليد عتيدة للإسلام.

المجتمع يجر الدولة خلفه نحو منبع الرجعية، والدولة تسير خلفة غير مدركة أنه في نهاية هذا الطريق ليس سوى الهلاك للجميع؛ فلا الدولة تمتلك مشروعًا، ولا المجتمع قادر على تقديم البديل؛ بالتالي تتجلى اللحظة الحالية بكل ترهاتها وتفاهتها وانزلاقها نحو الهاوية ويكأن أحدًا لم يعد يرغب في التحديث، وأرى في النموذج الإيراني عبرة لكيف يمكن أن يرتد المجتمع عن التحديث. وإن كنت أرى أننا لا يمكن أن نصل لثورة إسلامية، لكنها سوف تكون مرحلة طويلة من الأسلمة قادمة، إن لم يلتقط أحدهم تلك الحداثة الملقاة على قارعة الطريق.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.