في مصر تجد من يتصدرون المشهد من رجال الفكر، والسياسة، والإعلام، أو حتى من يتولون إدارة هذه البلاد، لا ينشغلون إلا «بنتيجة الفعل» وحتى نظرتهم إلى نتيجة الفعل يتم اختزالها في الجانب «الجزائي» أو «العقابي»، وغالبًا ما يتفتق ذهن جل هؤلاء نحو «تغليظ العقوبة» أو تشديدها على مرتكب الفعل، لذا نسمع الجميع اليوم يعزفون سمفونية واحدة، ألا وهي «إصلاح التشريع»، وما يتمخض عن ذلك من المناداة بتعديل قانون الإجراءات.

ولقد برع هؤلاء في تجييش الجيوش سواء في الإعلام، أو الوسائط الإلكترونية، نحو أن الحل الأوحد والوحيد لمواجهة ما تتعرض له مصر من أزمات وكوارث وحوادث إرهابية – لعل آخرها الحادث الجبان والمستنكر في إحدى الكنائس المصرية – يكمن في إصلاحٍ تشريعيٍ يتسم بتغليظ العقوبة. ناهيك عن العبارات التي يتوسد عليها هؤلاء فهي عبارات تحمل بريقًا من نوع مختلف كالعدالة الناجزة أو العدالة المنصفة.

غير أن أحدًا لا يستطيع أن ينكر دور التشريع العقابي في مواجهة الإشكاليات التي تمر بها مصر، لكن اعتباره الحل الأمثل والوحيد لحل هذه الإشكاليات يعد خطأ لا يغتفر وجريمة لا تدنوها جريمة.

إذ لا ينبغي أن ننظر إلى الكوارث أو الأزمات أو الحوادث من منظور تجريم مرتكبها، وتغليظ العقوبة عليه، أو حتى سرعة الفصل في القضايا المنظور فحسب، لأن ذلك نظر قاصر على «نتيجة الفعل»؛ إنما ينبغي أن نولي مقدمات الفعل أو أسبابه أهمية أكبر.

فالإجابة على التساؤل التالي: لماذا ارتكب الفاعل هذا الجرم، أو ما هي المبررات التي دفعته لارتكاب هذا الفعل، أو ما هي الأسباب التي أدت إلى وقوع هذه الكوارث أو الأزمات أو الحوادث؟ ينبغي أن تسبق الإجابة عن التساؤل كيف نعاقب هذا الفاعل، أو كيف نعاقب من يقف خلف هذه الكوارث أو الأزمات أو الحوادث؟

وإذا ما انشغل هؤلاء القوم في البحث عن أصل المرض – وتكريس الجهود لإزالة المعوقات والإشكاليات التي تدفع لهذه الكوارث أو الأزمات أو الحوادث – بقدر انشغالهم بالعرض. وإذا ما وفر هؤلاء القوم الكم الهائل من الأموال التي تصرف لكيفية عقاب الفاعل وتم توجيه هذه الأموال لحلحلة هذه الإشكالات وتوفير حياة كريمة للإنسان لكان خيرًا من أن نركز فحسب على نتيجة الفعل.

فالجريمة كما قيل تمثل العَرَض لا أصل المرض، ومن ثم فإن التعويل فحسب على تقرير العقاب على مرتكبِ أي نشاطٍ إجرامي مخالفٍ للثابتِ في المجتمعات من قيم ومبادئ وأخلاق أيا كانت العقوبة؛ أمر ثبت عدم جدواه، إنما يلزم أن يسبق ذلك تحقيق العدل والحرية المنضبطة في المجتمعات والقضاء على كافة أشكال الفساد، وتحقيق ذلك لن يتم إلا بإرساء القيم الاجتماعية والأخلاقية، والتعظيم من دور التربية الإيمانية التي تحققها الأديان السماوية، علاوة على عدم استثناء أي شخص من تطبيق القانون، وما يتفرع عن ذلك كله من حسن اختيار الموظف وتطويره وتدريبه على وسائل التقنية الحديثة، وتفعيل طرق المحاسبة، وتطوير أجهزة الرقابة، وتحديث آليات ونظم العمل المؤسسي، والمشاركة المجتمعية لاستئصال ومحاربة كل ما هو فاسد أو يتعارض مع قيم المجتمع ومكتسباته الحضارية.

نعم نحن في حاجة إلى إصلاح التشريع، لكن حاجتنا إلى تشريع الإصلاح أهم.

نعم نحن في حاجة لعقاب الفاعل، لكن حاجتنا إلى سد الذرائع أمام الفاعل لارتكاب الجرم أهم.

نعم نحن في حاجة إلى تشديد العقاب على الجاني، لكن حاجتنا إلى تخفيف المعاناة على كاهل الانسان أهم.

نعم نحن في حاجة إلى سرعة الفصل في القضايا، لكن الحاجة في سرعة تلبية احتياجات المعوزين أهم.

نعم نحن في حاجة إلى بناء السجون، لكن حاجتنا إلى بناء الانسان أهم.

نعم نحن في حاجة إلى معاقبة الفاسد والمرتشي، لكن حاجتنا إلى وضع الآليات التي تمنع الفساد أو الرشوة أهم.

في الأخير حاجتنا لإصلاح التشريع في مصر لا ينبغي أن تثنينا عن تشريع الإصلاح؛ ولعل مناط الأمر يكمن في أمرين متلازمين: أحدهما، أن يتم اختيار الرجل المناسب في المكان المناسب. وثانيهما، أن يتم اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب. وكلا الأمرين ينبغي أن يقع تحت ميكروسكوب الدراسة والتمحيص والجدارة والتجرد.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.