أثار قرار الحكومة المصرية رفع أسعار الغاز الطبيعي بنسب تتراوح بين 30% و75% غضبًا واستياءً شعبيًّا، خاصة مع تزامنه مع رفع أسعار خدمات أخرى مثل الوقود والمترو والكهرباء والمياه. بالإضافة إلى أن هذه الزيادة هي الرابعة خلال 4 أعوام، بعد زيادة الأسعار في مايو/ أيار 2014 ونوفمبر/ تشرين الثاني 2016، ويونيو/ حزيران 2017.

وانصب جانب من هذا الغضب الشعبي على المبالغات التي اتسم بها أداء وسائل الإعلام المصرية والمسئولين المصريين، الذين كانوا يبشرون المواطنين بصورة دورية بأن مصر ستحقق الاكتفاء الذاتي من الغاز ولن تحتاج إلى الاستيراد مرة أخرى. لكن جاء قرار استيراد الغاز من إسرائيل في فبراير/ شباط الماضي، ثم رفع أسعاره مؤخرًا، ليشكل ضربة قاصمة لأحلام المصريين بالحصول على غاز بسعر رخيص.

اللافت في تداعيات القرار الأخير هو تعليق المسئولين المصريين، الذين نفوا وجود أي علاقة بين تحقيق الاكتفاء الذاتي من إنتاج الغاز وبين ثبات أسعاره. ليس هذا فحسب، بل أشار المتحدث باسم وزارة البترول «حمدي عبد العزيز» إلى أن زيادة إنتاج الغاز المحلي سيجعل الحكومة ترفع الدعم عن الغاز، وهو ما سوف يؤدي إلى ارتفاع أسعاره بصورة أكبر، وهو ما دفع مواطنين للتساؤل عن جدوى تحقيق الاكتفاء الذاتي طالما لن يؤدي إلى حصولهم على أي امتيازات.

أما المتحدث باسم مجلس الوزراء «أشرف سلطان»فوصف قرار الزيادة بأنه «يرسي مبدأ العدالة الاجتماعية» دون أن يوضح ما العلاقة بين العدالة الاجتماعية وأن يتكبد المواطن المصري أعباء إضافية تثقل كاهله!

وعلى الرغم من وجود عدة أسباب تقف وراء استيراد الغاز من إسرائيل ثم لجوء السلطات لرفع أسعاره، مثل حصة الشريك الأجنبي التي يستحوذ بموجبها على نصف الإنتاج المحلي، بالإضافة إلى أسباب سياسية وقفت وراء قرار استيراد الغاز من إسرائيل، فإن هذا لا ينفي وجود حملة تضليل واسعة تعرض لها المواطن المصري طوال عدة أشهر لإيهامه بتحقيق إنجازات في ملف الغاز.


حقل «ظهر»

بدأت الحملة في أغسطس/ آب 2015 عندما أعلنت الحكومة المصرية عن اكتشاف حقل «ظهر» للغاز الطبيعي، والذي قيل إنه أضخم حقل غاز في التاريخ، وإنه كفيل بتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز وتصديره إلى الدول الأجنبية. وتناولت وسائل الإعلام الخبر بصيغة احتفالية، وقام المذيعون في الفضائيات المصرية بتهنئة بعضهم وتهنئة المسئولين في برامجهم، ونشط مؤيدو النظام على مواقع التواصل لنشر ما قالوا إنها تفاصيل إنتاج الحقل الجديد، والذي وصل إلى 30 تريليون متر مكعب وفقًا للإعلام المصري، ولم ينسوا أن يقوموا بالهجوم على الجهات التي يعتبرونها عدوًا للنظام، قائلين إن مساحة حقل الغاز أكبر من مساحة دولة قطر.

وركز الإعلام المصري في ذلك الوقت على أن هذا الاكتشاف يشكل صدمة لأعداء النظام، ووصف أحد المواقع المؤيدة للنظام ذلك الاكتشاف بأنه سيشكل «صدمة لجماعة الإخوان وقطر وإسرائيل». فيما وصفت جريدة اليوم السابع تبعات ذلك الاكتشاف بأنه «يوم أسود على إسرائيل»، قائلة إن اكتشافات الغاز المصري فاجأت إسرائيل وأصابتها بالذهول والرعب، وأن بورصة تل أبيب تعرضت للانهيار نتيجة ذلك، وأكدت أن مصر لن تحتاج إلى شراء الغاز من إسرائيل كما كانت تخطط الأخيرة، بل تمادت الصحيفة إلى القول بأن دول العالم ستتخلى عن الغاز الإسرائيلي في سبيل الحصول على الغاز المصري.

وقالت صحيفة الوطن إن «أحلام تل أبيب تتهاوى» نتيجة اكتشاف حقل الغاز المصري، وإن تركيا ربما تصبح بديلًا محتملًا لمصر في استيراد الغاز الإسرائيلي؛ لأن مصر لن تستورد الغاز بعد ذلك.

وامتد احتفاء الإعلام المصري بالاكتشاف إلى الشركة الإيطالية «إيني» نفسها، فنشرت عدة موضوعات عن تاريخها وإنجازاتها ومجالات اهتمامها والأماكن التي تعمل فيها، في محاولة على ما يبدو لـ«رد الجميل» لها. وتجاهل الإعلام المصري وقتها حقيقة أن تلك الاكتشافات لا تزعج إسرائيل، لأن الأخيرة ترى في استقرار النظام المصري هدفًا جيوسياسيًا واستراتيجيًا، وهو ما عبرت عنه «برندا شفر» الخبيرة الدولية في الطاقة بجامعة حيفا الإسرائيلية لصحيفة يسرائيل هايوم العبرية.

كما تجاهل الإعلام المصري خبرًا نشرته وكالة رويترز في نفس وقت إعلان خبر اكتشاف حقل ظهر، مفاده أن مصر رفعت سعر شراء الغاز الطبيعي من شركتي «إيني» و«إديسون» الإيطاليتين أكثر من الضعف، وأن هذه الزيادة على الإنتاج من الاستكشافات الجديدة للشركتين في مصر، ومن بينها بالطبع حقل ظهر!


مركز إقليمي للطاقة

أما المرحلة الثانية من حملة التضليل فكانت في يونيو/ حزيران 2016، عندما أعلنت شركتا «إيني» الإيطالية و«بريتش بتروليوم مصر» عن اكتشاف حقل جديد للغاز في منطقة تنمية جنوب بلطيم شرق دلتا النيل أطلق عليه اسم «نورس». إذ وصفت وسائل الإعلام المصري هذا الاكتشاف بأنه «طوق النجاة لمصر من أزمة الغاز الطبيعي»، وأنه يضع مصر على خريطة أكبر الدول لإنتاج الغاز الطبيعي في العالم، فيما وصف موقع فيتو ردود الفعل الإسرائيلية بأنها تعبر عن «غيرة» إسرائيلية من مصر بعد اكتشاف هذا الحقل. وامتدت تلك الحملة الدعائية على مدى ما يقرب من عام كامل، حتى وصل الأمر إلى تصوير مصر بأنها ستتحول إلى «مركز إقليمي لتداول وتجارة الطاقة» بما يحقق مزايا اقتصادية وسياسية تتمثل في تغطية احتياجات السوق المحلية وجانب كبير من احتياجات السوق الإقليمي، ودعم النمو الاقتصادي، وجذب الاستثمارات وزيادة العائدات الاقتصادية والمساهمة في دعم الاستقرار الإقليمي ودور مصر.

وعلى هذا المنوال صارت سياسة النظام وتغطية الإعلام المصري طوال السنوات السابقة: الإعلان كل فترة عن اكتشاف جديد للغاز، والقيام بحملة دعائية تعدد مزاياه الاقتصادية والسياسية، ونشر أخبار عن الفزع والخوف الذي أصاب إسرائيل جراء تلك الاكتشافات، ومداعبة أحلام المصريين بإطلاق وعود بتحقق الرخاء والتقدم خلال فترة قصيرة، بما يحقق دعاية للنظام داخل وخارج مصر، ودعاية للشركات الأجنبية نفسها التي تستفيد من تلك الإعلانات. وقد وصل عدد «الاكتشافات» التي أعلنتها مصر والشركات الأجنبية إلى 10 خلال الأعوام الماضية.

لكن في فبراير/ شباط الماضي جاء الإعلان المفاجئ عن توقيع مصر صفقة تستورد بموجبها الغاز من إسرائيل، في تناقض صارخ مع كل ما تم الإعلان عنه من اكتشافات لحقول الغاز، ليكتشف المواطنون حقيقة استمرار وجود نقص في احتياجات مصر من الغاز، خاصة مع استحواذ الشركات الأجنبية على نصف الإنتاج، وأن كل الأرقام المعلن عنها لا تتمتع بالشفافية وغير دقيقة بنسبة كبيرة، ليتساءل المصريون عن الحاجة إلى الاستيراد في ظل حديث المسئولين عن اقتراب تحقيق الاكتفاء الذاتي وعن الحقول التي زعموا أنها الأكبر في العالم. لتبدأ تصريحات المسئولين المتناقضة في تبرير تلك الصفقة. بين القول بأن الحكومة ليست طرفًا في الصفقة، وأن القطاع الخاص هو من وقع الاتفاقية، أو الزعم بأن الصفقة لا تتضمن استيرادًا للغاز من إسرائيل، وإنما استيراده لـ«إعادة تسييله» ثم تصديره إلى أوروبا مرة أخرى، إلى الحديث عن أن تحقيق الاكتفاء الذاتي لا يعني التوقف عن الاستيراد! وهو تبرير غريب وغير منطقي. لدرجة أن إعلاميين مصريين برروا الصفقة بأن إسرائيل ستصبح تحت رحمة الشركات المصرية بعد استيراد الغاز!

فالتبرير الخاص بأن القطاع الخاص هو المسئول عن الصفقة يتناقض مع إصدار قانون «تنظيم أنشطة سوق الغاز» في أغسطس/ آب 2017 والذي تضمن إنشاء جهاز لتنظيم سوق الغاز ضمن صلاحياته منح رخص للشركات الخاصة من أجل استيراد الغاز لصالحها، وهو ما يثبت أن استيراد الغاز لصالح الحكومة المصرية حصرًا. كما أن السيسي نفسه كان قد صرح في فبراير/ شباط 2016 بأن هناك مصنعين يوفران كل احتياجات مصر من الغاز، وأنه لن يكشف عن مكانهما «علشان أهل الشر».

كما أن رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو» نفسه كشف أن تلك الصفقة ستدخل مليارات الدولارات لإسرائيل وستنفق على رفاهية المواطنين الإسرائيليين، واصفًا يوم توقيع الصفقة بـ«العيد»، وهو ما يثبت أن مصر هي التي ستنفق على استيراد الغاز لمصلحة إسرائيل.

ويتضح تناقض تصريحات المسئولين المصريين مع ما قالوه بأنفسهم قبل ذلك، فوزير البترول على سبيل المثال كان قد أكد قبل 3 أشهر فقط من الصفقة أن مصر ستحقق الاكتفاء الذاتي بداية من 2019، ما سيجعل مصر غير مضطرة إلى استيراد الغاز، لكن نفس الوزير ناقض نفسه بعد الصفقة، وقال إن «تحقيق الاكتفاء الذاتي لا يمنع استيراد الغاز من أي جهة»، وهو اعتراف ضمني بأن مصر ستستورد الغاز فعلًا، وليس مجرد تسييله وإعادة تصديره مرة أخرى كما برر البعض، وهو عكس تصريحه السابق الخاص بتحقيق الاكتفاء الذاتي، كما أن مصر ستستورد الغاز بنفسها، وليس القطاع الخاص كما حاول البعض أن يروج.

وأشار الخبير «نائل الشافعي» إلى أن غاز حقل ظهر سيكون نحو 90% منه ملك الشركات الأجنبية، لحين استرداد التكاليف التي تكبدتها تلك الشركات أثناء عمليات البحث والتنقيب، وهو ما قد يستغرق أكثر من عشر سنوات، ولذلك لن تحقق مصر الاكتفاء الذاتي من الغاز كما زعمت السلطات وأذرعها الإعلامية إلا بعد تحقيق اكتشافات مضاعفة أخرى غير حقل ظهر. كما أكد الشافعي أن سعر الغاز الذي تستورده مصر من إسرائيل هو ضعف السعر العالمي.

كما أن التزامات مصر تجاه صندوق النقد الدولي ستجبرها على الاستمرار في رفع الأسعار على المواطنين حتى لو زاد الإنتاج، لتحقيق هدف إلغاء الدعم بشكل نهائي، وبالتالي لن يستفيد المواطن المصري شيئًا من تلك الزيادات في الإنتاج على الإطلاق، بل سيكون المتضرر الأكبر منها لأنها ستطلق يد الحكومة بصورة أكبر في إلغاء الدعم بصورة أسرع. وحتى لو لم ترفع الأسعار فإن الفساد المستشري والمتغلغل في مؤسسات الدولة، وقطاع البترول تحديدًا، سيقضي على أي موارد متوقعة من الغاز، ولدينا أمثلة حية على بلاد عائمة على بحور من البترول لكن وضعها أسوأ من مصر بسبب تبديد موارد البترول، مثل ليبيا والعراق والجزائر ونيجيريا.

أما تعامل الإعلام المصري مع تلك الصفقة فلم يكن مختلفًا عن تعامله المعتاد، ففي البداية تجاهل نشر أي أخبار عن الصفقة، فيما بدا وكأنه ينتظر التعليمات، ثم كالعادة قام بالتهليل للصفقة ووصفها بالإنجاز الكبير، متجاهلًا كل ما كان يروج له منذ سنوات عن الاكتفاء الذاتي والاكتشافات العملاقة والرعب الذي أصاب إسرائيل، وبعدما زعمت صحيفة اليوم السابع أن اكتشاف حقل ظهر يمثل يومًا أسود على إسرائيل، إذا بها تحتفي باستيراد الغاز من نفس الدولة، قائلة إن الصفقة تمثل «صفعة لتركيا» مع حديث مكرر عن تحول مصر إلى مركز إقليمي للطاقة.

المفارقة أن المصريين كانوا قد تعرضوا لخديعة مشابهة منذ عشرات الأعوام، وتحديدًا عام 1967 قبل هزيمة يونيو بشهر واحد، عندما نشرت صحيفة الجمهورية عنوانًا رئيسًا يقول: «دخلنا البترولي سيكون أكبر من دخل السعودية وليبيا»، زاعمة أن إنتاج مصر سيتضاعف 4 مرات عام 1970 بعد ظهور البترول بغزارة فى خليج السويس والدلتا وسيناء.

ويبدو أن المصريين دائمًا على موعد مع حملات تضليل دائمة من أنظمة الحكم المتعاقبة، ففي عهد مبارك صدّرت مصر غازًا لإسرائيل طوال عدة سنوات، وزعم وقتها «سامح فهمي» وزير البترول أن في مصر احتياطيًّا يكفيها لمدة 68 عامًا!

أما في الوقت الحاضر، فقد عاصر المصريون وخاصة خلال الفترة الحالية حملات مكثفة ومستمرة لـ«بيع الوهم». فحملة التضليل بشأن الغاز لا تختلف كثيرًا عما تعرض له المصريون في موضوعات أخرى، مثل جهاز علاج الإيدز وفيروس سي وقناة السويس الجديدة والمؤتمر الاقتصادي والعاصمة الإدارية الجديدة، وسعر صرف الجنيه، وغيرها من الملفات التي تتشابه مع بعضها إلى حد التطابق، ولم يختلف مصيرها جميعًا في النهاية: الفشل الذريع.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.