حلت في هذه الأيام الذكرى الرابعة لـ«فضيحة» الإعلان عن جهاز علاج الإيدز وفيروس سي الذي أعلنت عنه الهيئة الهندسية للقوات المسلحة. وفي هذا التقرير سنستعرض أهم ما قيل عن الجهاز، مع التركيز بشكل خاص على وسائل الإعلام التي تورطت في الفضيحة وكانت أحد أهم أركان الترويج لها، مثلما تورطت بعد ذلك في العديد من الفضائح وحملات التضليل الأخرى.


البداية

في الـ22 من فبراير/ شباط عام 2014، نشر المتحدث العسكري للقوات المسلحة المصرية على صفحته الرسمية على موقع «فيسبوك» بيانًا أعلن فيه عما وصفه بـ«الاكتشاف المصري الفريد من نوعه»، لاكتشاف وعلاج مرضى فيروسات الالتهاب الكبدي الوبائي سي والإيدز، بنسبة نجاح تجاوزت 90%، وبدون الحاجة إلى أخذ عينة من دم المريض والحصول على نتائج فورية وبأقل تكلفة.

وأعقب هذا الإعلان دعاية إعلامية كبيرة تشيد بهذا «الإنجاز» غير المسبوق، بالإضافة إلى الهجوم على من شكك فيه أو في مصداقيته. عرض التليفزيون المصري تقريرًا مصورًا عن نجاح الهيئة الهندسية للقوات المسلحة في ابتكار العلاج الجديد، من خلال كبسولات تعمل على رفع كفاءة الجهاز المناعي للإنسان، إلى جانب جهاز «سي سي دي» للقضاء على الفيروسات من النوعين.

وظهر في الفيديو اللواء «إبراهيم عبد العاطي» مخترع العلاج المزعوم وهو يفحص مريضًا بواسطة الجهاز، ويبلغه بشفائه التام من مرض الإيدز. عرض التلفزيون الرسمي كذلك توضيحًا لمراحل تصنيع الجهاز من داخل المصنع الخاص بإنتاجه، ونشر كيفية قيام المرضى بتسجيل أسمائهم للالتحاق ببرنامج العلاج الجديد، وقامت قنوات أخرى بإجراء حوارات ومقابلات مع الفريق الذي قيل إنه وراء الجهاز.

وأعلن المخترع «إبراهيم عبد العاطي» أنه يقوم بسحب الفيروس من جسد الإنسان ويقوم بإرجاعه إليه مرة أخرى عبارة عن «صباع كفتة» يتغذى عليه. وادعى أن أجهزة المخابرات العالمية عرضت عليه 2 مليار دولار ليتخلى عن اختراعه، وأن المخابرات المصرية اختطفته وجاءت به إلى مصر.

وعندما بدأت الانتقادات توجه للجهاز الجديد وتشكك في صحته، بدأت سياسة إعلامية أخري تقوم على التشكيك في وطنية المنتقدين والادعاء أن الهجوم على العلاج الجديد هو نوع من محاربة البلاد بكاملها، وطالبت المذيعة «نائلة عمارة» بحرمان المشككين في الجهاز وأقاربهم وعائلاتهم من العلاج إذا مرضوا. وحددت القوات المسلحة يوم 30 يونيو موعدًا لبدء علاج المصابين.

بعض الإعلاميين حاولوا تدارك الأمر قبل استفحاله، وأكدوا أن الجهاز مهمته التشخيص واكتشاف الحالات فقط، لكن فريق العمل بالجهاز الجديد رد مفسدًا تلك المحاولات، بتأكيده أنه للعلاج وليس للتشخيص فقط، كما أنه مختص أيضًا باكتشاف وعلاج كافة الفيروسات الأخرى مثل إنفلونزا الخنازير، وعلاج أمراض السكر والصدفية والسرطان وقصور الشرايين التاجية، بالإضافة إلى تحسين الحالة الجنسية للمريض.

وهو ما أكده اللواء «حمدي بخيت» الخبير الإستراتيجي الذي أكد أن الجهاز لتشخيص وعلاج الإيدز وفيروس سي، وأن القوات المسلحة عالجت عدة حالات بالفعل، داعيًا إلى الحفاظ على سرية الجهاز لأنه سر حربي.

وهاجم إعلاميون الدكتور «عصام حجي»، المستشار العلمي للرئيس المعين «عدلي منصور» في ذلك الوقت، لانتقاده الجهاز ووصفه بالفضيحة العلمية لمصر، وقال المذيع «أحمد موسى» إن هجوم «حجي» تقف وراءه الولايات المتحدة الأمريكية وشركات الأدوية التي ستتضرر بشدة من هذا الجهاز.

وهي رسالة شاركت فيها وسائل إعلام قالت إن المصريين الوطنيين لا بد أن يقفوا وراء الجهاز الجديد ويصدقوا كل ما يقال عنه؛ لأن هناك مؤامرة تستهدف عدم تداول الجهاز في العالم كله. ووصف الجهاز أيضًا بأنه يماثل في أهميته اختراع القنبلة الذرية.


مرضى تم شفاؤهم!

ونشرت وسائل الإعلام قصصًا لمن قيل إنهم كانوا مرضى بالإيدز وفيروس سي وشُفيوا تمامًا من المرضين باستخدام جهاز القوات المسلحة. وأقسم أحد هؤلاء المرضى في تقرير نشرته صحيفة «الأخبار» أنه شاهد بعينه وسمع بأذنه في الفترة الأخيرة من علاجه، مفاوضات وإلحاح من عملاء الشركة المنتجة لعقار «الإنترفيرون» لشراء حق الاختراع من فريق البحث الخاص بالقوات المسلحة، أو التأخر في الإعلان عن نتائج العلاج بالجهاز حتى تتمكن الشركة من التصرف في مخزون الإنترفيرون.

ومن ضمن الحالات أيضًا من قالت الجريدة إنه من أوائل المصابين في مصر بمرض الإيدز، لكنه شفي بعد خضوعه للعلاج على مدار 50 يومًا. وقال مدير الهيئة الهندسية إن العلاج ساهم في شفاء 100 مريض بالكبد الوبائي والإيدز.

أثارت هذه الأخبار سخرية واسعة، وخصص المذيع «باسم يوسف» حلقة خاصة عن الموضوع للهجوم عليه والسخرية منه، ووضع في برنامجه عدادًا لحساب الأيام المتبقية على يوم 30 يونيو/ حزيران؛ اليوم الذي حددته الهيئة الهندسية للقوات المسلحة لبدء علاج المواطنين بالاكتشاف الجديد، إلا أن البرنامج توقف بسبب ضغوط سياسية.

تم تأجيل الإعلان عن بدء علاج المواطنين إلى نهاية العام، ثم أعلن عن تأجيله مرة أخرى ستة أشهر إضافية، دون إبداء أي أسباب أو اعتذار عما حدث، ودون محاسبة الممارسات الإعلامية التي روجت للجهاز وهاجمت منتقديه وشككت في وطنيتهم، وأعطت أملًا كاذبًا للمرضى الذين صدموا، وتأثرت نفسيتهم بعد اتضاح عدم وجود علاج حتى الآن، مع حلول الذكرى الرابعة للفضيحة!.

فيما قررت نقابة الأطباء إحالة 4 أطباء تورطوا في الموضوع إلى محاكمة تأديبية، وصدر قرار ضد 3 منهم بإيقافهم عن العمل لمدة عام.


من المسئول؟

على الرغم من وجود عدد كبير من الإعلاميين الذين شككوا في وجود علاج للإيدز، وسخروا منه منذ البداية، مثل «عمرو أديب» و«محمود سعد» و«جابر القرموطي» و«يوسف الحسيني» و«خيري رمضان»، إلا أن أيًا منهم لم يجرؤ على الهجوم على الجهة الرئيسية المتسببة في تلك الكارثة أو انتقادها بكلمة واحدة، وهي الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، واقتصر هجومهم وسخريتهم على الفريق الطبي الذي يتابع الأمر، والمطالبة بمحاسبة «عبد العاطي» فقط، خاصة أنهم من كبار المؤيدين لـ«السيسي».

وصل الأمر إلى أن بعض الإعلاميين حاول استغلال الموضوع لتلميع صورة «السيسي» والإيحاء بأنه فوجئ بالأمر وأنه ليس مسؤولًا عنه، بل وأنه غاضب منه وأنه أمر بالتحقيق في ملابساته، لكن مدير الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة نفى أن يكون «السيسي» قد أمر بتشكيل لجنة للتحقيق، رغم أنه من المستحيل أن تقوم الهيئة الهندسية للقوات المسلحة بتنظيم مؤتمر صحفي «عالمي» للإعلان عن الاختراع دون علم «السيسي» شخصيًا.

وكان «مصطفى بكري» أحد المقربين من «السيسي» قد أكد أن الأخير بكى عندما شاهد «الاختراع» وهو ما يثبت علمه به، وأكد أنه سأل «السيسي» عن الموضوع فقال له إن القوات المسلحة تسعى لاستكمال تصنيع أكبر قدر ممكن من الأجهزة قبل بدء العلاج رسميًا في 30 يونيو/ جزيران 2014، ولم يتم محاسبة «بكري» على هذا الكلام إذا كان قد كذب فيه، وهو ما يثبت أن «السيسي» كان يعلم كل صغيرة وكبيرة عن الجهاز.

وقد نشرت عدة صحف مصرية تحقيقات عن العلاج المزعوم ومخترعه، مثل صحيفة «المصري اليوم» التي كشفت أن «عبد العاطي» ليس طبيبًا وإنما تخرج في كلية العلوم وحصل على الدكتوراه في الكيمياء، وقالت صحيفة «الوطن» إنه «فني معامل»، ولم يكشف عن سر تحول «عبد العاطي» من شخص مدني إلى لواء في الجيش المصري.

ظهر «عبد العاطي» مرة أخرى في يناير/ كانون الثاني 2017 قائلًا إنه مستمر في تطوير اختراعه، إلا أن القوات المسلحة نفت هذه المرة أي صلة لها بالموضوع. لكن هذه الجهود من جانب بعض وسائل الإعلام لا تغير حقيقة أن معظم وسائل الإعلام قد رحبت بالاختراع ولم تشكك فيه، بل شككت في وطنية كل من يهاجمه، كما استضافت أشخاصًا ادعت أنهم مرضى إيدز تم شفاؤهم، وكان الأداء الإعلامي في مجمله «فضيحة» لا تقل عن فضيحة الجهاز نفسه.

اقرأ أيضًا:ما لم تقله هيلاري كلنتون في مذكراتها.


ظاهرة عالمية

لم تكن مصر وحدها التي أعلنت عن التوصل إلى علاج لمرض الإيدز، بل تعددت الفضائح التي تبنتها دول من العالم الثالث، ففي عام 2007 أعلن الرئيس الغامبي السابق «يحيى جامع» عن اكتشافه علاجًا لمرض الإيدز من الأعشاب الطبيعية، وكذلك لأمراض الربو والعقم وأمراض أخرى، كل ذلك بعبقريته الفذّة!

وفي نفس العام الذي أعلن فيه الجيش المصري عن اكتشاف علاج الإيدز، أعلن الجيش السوداني توصله إلى علاج لنفس المرض. وفي العام التالي، أعلنت كوريا الشمالية أنها تمكنت من إنتاج عقار قادر على علاج أمراض خطيرة مثل الإيدز والسارس والإيبولا.

هذه المشروعات تخبرنا الكثير عن المصدر الذي ينهل منه النظام المصري مثل تلك الأفكار والمشروعات، ويجمع كل تلك الدول ببعضها أنها دول من العالم الثالث، ومعظمها تشتهر بأنها مادة للأخبار الطريفة والساخرة والغرائبية في وسائل الإعلام العالمية.

ولا يزال منشور المتحدث العسكري موجودًا على صفحته الرسمية على «فيسبوك» حتى الآن، وتحول إلى استقبال التعليقات الساخرة في الـ22 من فبراير/ شباط كل عام، فقد تحول الأمر إلى مناسبة سنوية أو عيد للاحتفال بالفضيحة.

اقرأ أيضًا:ثورة إثيوبية في الإعلام المصري.

وإذا ذهبنا إلى مشروع آخر من مشروعات «السيسي»، العاصمة الإدارية الجديدة، سنجد أنها فكرة مستنسخة هي الأخرى من مشروع «هتلر» لإنشاء عاصمة جديدة لألمانيا، سماها «جرمانيا»، وكان مهووسًا بمعاينة النماذج المجسمة للعاصمة الجديدة للرايخ الثالث، لكنه هزم ولم يستطع تحقيق حلمه الكبير.

والآن يسير العمل بخطى حثيثة في مصر لإنشاء العاصمة الجديدة، فهل سيتحقق المشروع أم يلحق بسابقه «جهاز الكفتة»؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.