دعني أقص عليك في بداية الأمر قصة، تلك الأحاديث التي تبدأ بالقصص دومًا ما تنتهي بشيء من التفاهم، وأنا لا أنكر أن ما ستقرأه الآن يحتاج للكثير من التفاهم.

يُحكى أنه كان هناك فتاة فائقة الجمال، ثمرة زواج غولين قبيحي المنظر يعيشان على لحوم البشر. وقعت تلك الفتاة الطيبة في حب شاب مغامر حاد الذكاء، أقسم على نفسه أن يخلص الناس من شر تلك الغيلان.

أوهم الشاب الفتاة بحبه لكنه كان يريد الانتقام فحسب، لكن والدتها الغولة اكتشفت الأمر وأوقعت بالشاب وحبسته داخل بئر عميق. وبمجرد أن علمت الفتاة بالأمر حتى اتجهت نحو البئر لمساعدة حبيبها، والذي ما إن ساعدته في الخروج من البئر حتى قتلها في النهاية لكي يذيق أبويها مرار ما يفعلانه في الناس.

تُدعى الفتاة لونجة ويتم تداول تلك القصة تحت اسم لونجة بنت الغولة، تلك حكاية شعبية من التراث الجزائري، فلتبقَ تلك القصة في ذهنك إذن ولنستعدها في الوقت المناسب.

وصل المنتخب الجزائري للمباراة النهائية لكأس الأمم الأفريقية في نسختها الحالية والتي تقام في مصر، قدم أداءً هو الأفضل بين منتخبات البطولة، بينما ودع المنتخب المضيف الكأس في الأدوار الأولى بعد أداء باهت تمامًا.

الكثير من المصريين تواجدوا في المدرجات لتشجيع منتخب الجزائر والهتاف له، بينما يصرخ الكثير من المصريين أيضًا: كيف لنا أن ننسى ما حدث في أم درمان؟

الحقيقة أن العلاقة بين المشجعين المصريين ومنتخب الجزائر هي علاقة معقدة، إلا أن الأيام تثبت يومًا تلو الآخر أن المصريين في قرارة أنفسهم لا يحملون ضغينة تجاه الجزائر ومنتخب الجزائر. لكن لماذا تحديدًا خلال تلك البطولة يبدو الوضع أفضل من حيث تشجيع المصريين للمنتخب الجزائري؟ دعنا نرى سويًا لكن رجاءً لا تنسَ لونجة.


جزائر 2019: جيل أبو تريكة يبعث من جديد

يبقى جيل منتخب مصر 2006-2010 هو الجيل الأقرب لقلوب المصريين لأنه الجيل الذي تضمن المهارة والأداء الرجولي بقدر متوازن. كل العناصر الأساسية لهذا الجيل كانت تتسم بالشعور بالمسئولية والجوع نحو تحقيق الانتصارات والرغبة في صناعة التاريخ.

رأى المصريون هذا الجيل وصفاته في منتخب الجزائر الحالي: رياض محرز، اللاعب الذي توج بالدوري الإنجليزي قبل شهور قليلة، يلعب كرة القدم خلال تلك البطولة وكأنه لاعب ناشئ يريد إثبات نفسه للجميع. دموع بغداد بونجاح، بعد أن أضاع ركلة ترجيح هامة أمام المنتخب الإيفواري، هي تجسيد حي لما يحبه المصريون في كرة القدم؛ الشعور بالمسئولية.

خط الوسط المكون من سفيان فيجولي وعدلان قديورة: الأول قَبَل التراجع لخط الوسط لأن هناك من هو أفضل منه في مركز الجناح، والآخر تجاوز الثالثة والثلاثين لكنه يركض كما لم يفعل من قبل. جمال بن العمري وعيسى مندي في خط الدفاع: جمال لاعب محلي لم يخرج من الجزائر سوى عام 2016 نحو الدوري السعودي، بينما عيسى من مواليد فرنسا ويلعب لريال بيتيس في الليجا، لكن الاثنين على استعداد أن تركل رأساهما بدلاً من الكرة دفاعًا عن مرمى الجزائر. جمال بلماضي: المدرب الوطني الذي ينفعل بعد كل كرة ضائعة ويلتف حوله اللاعبون بعد كل هدف.

لقد وافق كل لاعب في منتخب الجزائر أن يخفت نجمه من أجل أن يلمع نجم المنتخب الجزائري. يراقب المشجع المصري كل تلك المشاهد جيدًا وتستولي على إعجابه، وبينما يدير رأسه لمشاهدة منتخب بلده يرى نجمه المفضل ينظر له غاضبًا.


منتخب مصر 2019: تضاد يبرز المعنى ويوضحه

يحب المصريون كثيرًا نموذج اللاعب الذي يبذل كل قطرة عرق ممكنة حتى يحقق الفوز، وهو ما وجدوه في لاعبي منتخب الجزائر ولم يجدوه في لاعبي منتخبهم الوطني.

شعر المصريون خلال تلك البطولة أنهم ليسوا الجانب الأهم في العرض، بدءًا من أسعار التذاكر وصولًا لأحداث التراجع في قرار عقوبة اللاعب عمرو وردة، عقوبة نالت رضا الجماهير، ثم انتهى الأمر تمامًا بعد نظرات صلاح الغاضبة لجماهير مصر؛ لشعوره بأنه لا يتلقى الدعم الكافي في موقفه الداعم للاعب تم اتهامه بالتحرش. بينما على الجانب الآخر تمنوا لو أنهم حظوا بمثل ذلك التقدير الذي يكنه لاعبو منتخب الجزائر لجماهيرهم.

تعامل منتخب مصر مع جماهيره بنوع من التعالي: نحن نعرف ما نفعله، فقط شجعوا واهتفوا وسنتكفل نحن بشئون كرة القدم. الأزمة الكبرى هنا، أن لاعبي المنتخب الحالي تحديدًا كانت فرصتهم في المنافسة على لقب البطولة هي دعم الجمهور المصري، إذ إنهم على المستوى الفني أقل بشكل واضح من الكثير من المنتخبات الأفريقية المشاركة.

تخلى اللاعبون عن المشجعين الحقيقيين لهم، وامتلأ إستاد القاهرة بمشجعين يرفعون صور عمرو وردة ومحمد صلاح فكانت النهاية المنطقية. لم يتفاجأ جمهور الكرة الحقيقي في مصر بتلك النهاية، فقط أدار رأسه مرة أخرى نحو منتخب الجزائر واستحسن ما شاهده.

هنا تحديدًا يعلو صوت مناديًا في الجميع: لكن كيف لنا أن نشجع منتخب الجزائر؟ كيف لنا أن ننسى تاريخًا من المواجهات الدامية ونلقي بإرث من الكرة خلف ظهورنا؟ هنا، وهنا تحديدًا يجب أن نستدعي لونجة بنت الغولة.


أجيال متشابهة أصبحت أكثر وعيًا

كانت المرة الأولى التي يردد فيها مجموعة من المصريين سويًا تعبير «لونجة بنت الغولة» منذ عشر سنوات بالتمام والكمال.

نحن الآن في مايو عام 2009، تحديدًا في قلب الساحة المزدحمة والتي تم إعدادها داخل مركز شباب الجزيرة لاستقبال عدد من الحفلات الموسيقية والتي كانت تحمل اسم S.O.S Music Festival، منتظرين أن تطل علينا المطربة الجزائرية سعاد ماسي.

أطلت سعاد ماسي على الحضور مرتدية بنطلون جينز بسيطًا وقميصًا أكثر بساطة، كانت تشبه جمهورها بشكل كبير، غنت بعض أغانيها ومن بينها أغنية الراوي.

احكي يا الراوي احكي حكاية احكي لي على ناس زمان احكي لي على ألف ليلة وليلة وعلى لونجة بنت الغولة وعلى ولد السلطان

كان الجميع يردد معها الأغنية وكأنهم يتحدثون باللهجة المصرية الخالصة دون أن يتلعثم أحدهم أو يستغرب نفسه وهو يردد تلك الكلمات.

سعاد ماسي هي فنانة جزائرية، تقدم موسيقى مستقلة وهي الموسيقى ذاتها التي قدمتها فرق الأندرجراوند في مصر خلال ذلك الوقت، ولاقت نجاحًا كبيرًا بين الشباب في ذلك الوقت، الأمر ببساطة أن هذا الجيل كان يبحث عن كلمات جديدة.

هذا الجيل الذي لم يشهد بنفسه أي حراك ثقافي يذكر في مصر، بل إنه استمد ثقافته من مصادر تبدو سطحية لكنها كونت الكثير بداخله. أغنية مختلفة لمحمد منير تبحث عن مؤلفها لتكتشف أنه أحمد فؤاد نجم، ومن نجم تتعرف على الشيخ إمام، ومع الوقت تبدأ التعرف على ثنائية إمام ونجم كشكل من أشكال المقاومة. هذا الجيل الذي حفظ أغنية «شيد قصورك» ورددها في ميدان التحرير عن ظهر قلب.

كذلك هي موسيقى الراي في الجزائر، بدأت كموسيقى في العشرينيات من القرن الماضي كتعبير لما يعانيه أهل الجزائر ومدينة وهران تحديدًا من ويلات الاستعمار الفرنسي، ثم تطورت تلك الموسيقى لكنها ظلت موسيقى تصاحبها كلمات مختلفة وجريئة وغاضبة من الأوضاع حتى بعد التحرر من الاستعمار، ومن عرف منير ونجم وإمام فهو حتمًا عرف خالد ورشيد والشاب حسني وقصصهم.

النقطة الحاسمة هنا أنه على المستوى الشعبي تفهم بعض المصريين أنهم يتشاركون مع العديد من إخوانهم العرب فكرة البحث عن كسر الإطار الأبوي الذي تفرضه الدولة ويدعمه الإعلام، كانت خطوة فرضها الوعي الذي اكتسبه جيل الشباب نحو التقرب من شعب الجزائر الذي لا يعلم عنه المصريون الكثير، لا ننكر أن تلك الفئة من المصريين ليست بالعريضة ولكنها مؤثرة بشكل ما.

هذا ما حدث في مايو 2009، أما ما حدث في نوفمبر من نفس العام فهو قصة أخرى.


أحداث أم درمان: فن ركوب الموجة الذي لم يدم

ربما واحد من هؤلاء الجماهير الذين رددوا أغنية سعاد ماسي بالجزائرية، شارك بنفسه في النزاع الذي دار بعد ستة أشهر بين جماهير مصر وجماهير الجزائر على خلفية مباراة أم درمان الشهيرة.

وهذا هو التعريف المنطقي لكلمة الاستغلال، لقد تم استغلال مشجعي الفريقين والحماس الذي يتشاركونه بخصوص كرة القدم من قبل المسئولين في كل دولة لإثبات قوتها.

ركوب الموجة الشعبية لرفع أرصدة النظام أمام الشباب، هذا هو نص ما وافق عليه وزير الخارجية المصري وقت الحادث في حديثه عن تلك الأحداث بعد ذلك، وهذا هو التوصيف الأدق لما حدث.

لقد أجج الإعلام نارًا لم يكن عليه أن يتركها مشتعلة، ثم وجد المسئولون أنها فرصة مناسبة لكي يظهروا بمظهر الداعم لموقف الشباب، حتى أنه صاحت أصوات آنذاك تنادي بعلاء مبارك رئيسًا لمصر بعد تصريحاته الرنانة.

لكن الطرفين اكتشفا كل ذلك بعد مرور الوقت المناسب لاكتشاف ذاك، نحن نشبه بعضنا كثيرًا وحكوماتنا تشبه بعضها هي الأخرى، كانت تلك هي النتيجة التي توصل لها الكثيرون من الجانبين، لكي تزداد رقعة محبي الجزائر في مصر.

أما على مستوى كرة القدم، فتشجيع المصريين للمنتخب الجزائري في مونديال البرازيل 2014 كان هو الإثبات أن الأمور أصبحت أوضح كثيرًا. كان المصريون يشجعون المنتخب الجزائري عام 2014 بشغف شديد حتى قبل أن يروا منه الأداء الرائع أمام ألمانيا في دور الـ 16.

خلاصة الأمر هنا أنه مثلما تحمل مباريات مصر والجزائر أعوام 1989 و2009 ذكريات سيئة، فعلى الجانب الآخر هناك روابط أكثر عمقًا بين الشعبين. الشعبان يحملان همومًا مشتركة، وقضايا مشابهة، وحنينًا للعروبة، وتسامحًا كبيرًا نحو الآخر.