قد يكون من المتعذر على الكثيرين فهم منطق العقل الرياضي المصري في توجهاته الكروية، خاصة وأن مستوى الوعي الكروي لديهم ليس بالدرجة الكبيرة التي يدل عليها مستوى الدوري واللاعبين المحليين المصريين. لكن الحقيقة أن هناك تحولًا جذريًا طرأ على عموم المصريين بسبب الشهرة التي نالها اللاعب محمد صلاح في مشواره الاحترافي الخارجي، خاصة وأن نجاحه في حصد الألقاب الأوروربية رفع جماهيريته لدى الإنجليز أنفسهم.

لقد تطور الوعي الكروي لدى المصريين، بل والعرب، بسبب تحول قطاعات كبيرة من عمومهم غير المهتمين أصلًا بكرة القدم إلى مشجعين لفريق محمد صلاح، أيًا كان الفريق الذي يلعب فيه صلاح، وهو ما جعل من المتابعين الدوري الإنجليزي من منهم يتابع مباريات صلاح وغيرها من مباريات الدوري الإنجليزي بعد أن كان منتهى كرويته متابعة مباراة القمة في الدوري المصري بين الأهلي والزمالك.


محمد صلاح كصانع للبهجة لدى المصريين

باتت مجرد مشاهدة صلاح وأهدافه لدى الكثير من المصريين هي التعبير المعادل لـ«صناعة السعادة والبهجة» على وجوه الناس، بل وشاهدنا الملايين من المصريين والعرب، غير المهتمين أصلا بكرة القدم، يدعون لصلاح بالشفاء العاجل قبيل كأس العالم الأخيرة في روسيا كأنه أحد أبنائهم وأشد، ونال اللاعب الإسباني سيرجيو راموس، المتسبب في إصابة صلاح، من الدعوات واللعنات الكثير بسبب إصابة صلاح.

لا يمكن بحال فصل هذه البهجة التي يصنعها صلاح عن حالة التردي الحضاري والاقتصادي التي يعيشها العرب والمصريون بالتحديد، بل يعتبر البعض صلاح نقطة الضوء الوحيدة في ركام الظلام الدامس الذي يعيشه المصريون، لكن نجاح صلاح في مشواره الاحترافي وتركيزه الشديد في تطوير أدائه ومهاراته، وكذلك تطوير وعيه كلاعب في أكبر دوريات وفرق العالم؛ جعل منه نموذجًا نجاحًا مهنيًا وشخصيًا يحتذى به في ظل غياب أي نماذج وقدوات حقيقية في راهن حياة المصريين.

أحد أبرز مقومات شعبية صلاح كانت ممارسته الأخلاقية تجاه قريته في مصر، ونجاحه في التعبير عن أصالته وموقفه الأخلاقي تجاه بلده وناسه وأرحامه، حيث طارت الأساطير حول قدر إنفاقه على الأيتام والأرامل والفقراء والمرضى والمحتاجين، وهو ما جعل له في قلوب المصريين قدرًا من التقدير الأخلاقي الذي يدغدغ مشاعرهم ويؤثر في تصوراتهم نحوه.

كما يمثل الطقس الديني الذي يبديه صلاح قبيل مبارياته وأثناء تسجيله الأهداف أحد أهم عوامل الجذب الشعبي لشخصه، فدائمًا ما يبدأ صلاح المباراة رافعًا كفيه بالدعاء أو قراءة القرآن، كما أنه دومًا ما يعقب تسجيله للهدف بسجدة شكر في الملعب حتى بات تقليدًا يفعله أحيانًا زميله ساديو مانيه، بل ،يفعله بعض الناشئين الإنجليز المحبين لصلاح ولليفربول.

إن سيرًا في ضواحي وأزقة وحواري أي مدينة في مصر لينبئنا بصورة واضحة عن قدر حب الناس لمحمد صلاح كأيقونة بهجة لهم، فجرافيتي صلاح على الكثير من الحوائط، وصوره منصوبة على حوائط الكثير من المقاهي والمطاعم، وتي شيرت صلاح في منتخب مصر أو في ليفربول لا يفوته الكثير من الأطفال والشباب بل والفتيات خاصة إبان فترة كأس العالم الماضي، فصلاح إذن تجسيد لبهجة مفتقدة يبحث عنها المصريون في زحام هموم المواطن المصري المطحون.


صلاح كانتصار للنجاح الكروي على المثالية الأخلاقية

من العجيب أن نجد شعبية كبيرة لصلاح في المواقف الحاسمة أو المشكلات الكبيرة. فقد كان للمصريين مواقف حادة تجاه سيرجيو راموس بسبب إصابة صلاح في نهائي دوري أبطال أوروربا الماضي، كما أنه ثمة مساندة قوية له في مشكلته الأخيرة مع اتحاد الكرة المصري، حيث يواجه صلاح انتقادات من بعض أعضاء الاتحاد بسبب بعض مطالبه التي وجهها لهم، وبلغ الأمر حد اتهامه في وطنيته ووصفه بالراغب في الشهرة من جراء هذا التصعيد!!

مما يدفع للعجب من موقف محبي الصلاح؛ أن مواقفهم لم تكن بنفس القوة من أيقونه الأخلاق الكروية محمد أبو تريكة، والذي عبر غالب المصريين عن حبهم واحترامهم له وتقديرهم لمسيرته الكروية العظيمة، لكن من دون تحمل محبيه تبعات المساندة ضد النظام الذي أعلنه «إرهابيًا».

الحقيقة أن مواقف أبو تريكة الأخلاقية تعبر عن شخصية ذات رسالة وفكر واع، وتاريخه في رفض أي إشارة أو بادرة للتطبيع ولو الرياضي مع الكيان الصهيوني، أو تناسي هموم العرب والمسلمين في غزة، أو اتخاذ موقف أخلاقي وتاريخي تجاه مذبحة جماهير الأهلي في بورسعيد، وتسجيل المواقف الرسالية الأخلاقية والسياسية في عدة مناسبات؛ كل ذلك مثل تحديًا لمحبي أبو تريكة في لحظة اختبار محبتهم تلك، حيث اكتفى محبوه في مصر بتسجيل موقف «المحب» أمام حرمان أيقونة الكرة المصرية من دخول مصر بسبب تصنيفه كـ«إرهابي».

بينما تعبر مسيرة محمد صلاح عن لاعب يتبنى فلسفة «اللاعب المحترف» البعيد عن السياسة والمواقف الأخلاقية المحرجة، ويتخذ من نجاحه كلاعب محترف مولجًا لقلوب المصريين وصناعة جماهيريته.

لقد لعب صلاح، مضطرًا كما يقول، إحدى مباريات فريقه السويسري الأسبق في إسرائيل!!

وقبل بعطايا وحفاوة الرئيس الشيشاني الحالي والمتهم بجرائم حرب من عدد من الدول الأوروربية!!

ولم يسجل صلاح أي مواقف أخلاقية تجاه ما يجب على إنسان محبوب ومشهور يعتبر قدوة للكثير من الشباب!!

واكتفى صلاح بممارسته الأخلاقية المادية تجاه أهل قريته، واعتمد على نجاح مسيرته الكروية الاحترافية كعامل صناعة للجماهيرية والمحبة الشعبية، وهي المتكئ الأقوى حاليًا له أمام اتحاد الكرة المصري وهجومه على صلاح.

لكن الملفت في الحقيقة هو تراجع معيارية الأخلاق لدى قطاعات من المخدرين كرويًا، إذ يمكن لهؤلاء خوض معركة طاحنة للدفاع عن صلاح، بينما تراجعوا تراجعًا واضحًا من مناصرة الأيقونة الأخلاقية الحقيقية محمد أبو تريكة، ولم يسع أحد منهم إلا ما ندر في فك الحصار المفروض على أبو تريكة!!

إن تراجع المعايير الأخلاقية وارتكان الناس لتبني مواقف لا تحملهم تبعات وخسائر؛ لهو أمر ملفت ومتطلب للتعمق في التشوهات التي طالت الشخصية المصرية ومحددات مواقفها، كما أن الحاجة للتساؤل حول أثر القمع السياسي والضغط الاقتصادي على الحد الأدنى من الأخلاقي والإنساني في حياة الناس؛ هو من الضروري والمهم ولو على سبيل التأمل المبدئي والرصد الأولي.