«جوهري جوهري » أو «حسن شحاتة يا معلم» بالتأكيد سمعت تلك الهتافات يوماً ما وربما تكون هتفت بأحدهما أو تنتمي لأحد المعسكرين، ولكن ما الفرق؟ الفرق أن الجوهري هتف له الجمهور مدربًا وشحاتة لاعبًا، ولكن هل نحن هنا للمقارنة بين اثنين يصنفان كأعظم ممن قادوا الفراعنة من على دكة البدلاء؟ لا بينما هي قراءات في حياة مؤسس الحياة الاحترافية للاعب الكرة المصري بل الكرة المصرية بدون مبالغة، قراءة في حياة أعظم مدربي اللعبة في مصر على الإطلاق والتي جعلته نجمًا في زمن كان الهتاف حكرًا للاعبين.


المجد من البداية،17 جيبًا

محمود الجوهري صنع قميصا به 17 جيبًا، يضع به أكوامًا من الرمل ليجري تمرينه به لزيادة لياقته البدنية.
علاء صادق متحدثا عن محمود الجوهري اللاعب.

لاعب بعمر السادسة عشر يقوم بهذا في خمسينات القرن الماضي وقت تراجع كل أساليب التدريب لزيادة لياقته البدنية شيء يدل على ما أثبته طوال مسيرته أنه يسبق زمنه على الأقل بالنسبة لمصر. كان لاعبًا فذًا بشهادة أقرانه، سرعة مذهلة وقدرة فائقة على التسديد والنتيجة بطل كأس الأمم الأفريقية مع منتخب مصر وهدافا للبطولة. الإصابات لم تدع مسيرته العظيمة تكتمل ليعتزل في منتصف السيتينات قبل أن يكمل عقده الثالث ويتجه للتدريب في قطاعات الأهلي للناشئين.

البداية كمدرب كانت تكوين فريق الأمل في بادرة جديدة من نوعها في الأهلي وفي مصر عمومًا، فريق للرديف يتم انتقاء مواهبة ووضع خطط لهم كي يصبحوا على أتم استعداد للتصعيد ضد الفريق الأول، خطة طويلة المدى من مدرب شاب في بلد لاعبو كرة القدم فيها كانوا يلعبون ليلًا خلسة في الدورات الرمضانية.


تعريف الإنجاز

محمود الجوهري المدير الفني للنادي الأهلي
محمود الجوهري المدير الفني للنادي الأهلي

بعد تجارب في قطاع الناشئين في الأهلي والعمل كمساعد في اتحاد جدة السعودي مع كرامر الألماني عاد للنادي الأهلي ليحقق في موسمه الأول كأس أفريقيا للأندية أبطال الدوري للمرة الأولى في تاريخ نادي القرن، المقدمات غالبًا ما تليها نتائج منطقية وبالتالي كان الفوز على «كوتوكو» عام 1982 خير دليل على النقلة النوعية التي حدثت على الأقل في طريقة التفكير والطموح.

لم يكتف الجنرال -كما يطلق عليه محبوه- بذلك بل حصل على الدوري، والكأس، وكأس أفريقيا للأندية أبطال الكأس، وبعد خلافاته مع إدارة الأهلي بسنوات انتقل لتدريب الغريم التقليدي؛ الزمالك، في سابقة هي الأولى من نوعها ليصبح أول مدرب مصري يحقق الدوري مع قطبي مصر، بل وحقق كأس أفريقيا للأنديه أبطال الدوري مع الزمالك، وهزم الأهلي في السوبر الأفريقي عام 1994 ليصبح أول مدرب مصري يفوز بتلك الكأس.

قائمة طويلة من البطولات والأرقام القياسية في عصر هوى فيه اللاعبين الكرة ولم يكونوا مؤهلين للمنافسات الإقليمية والدولية.


بالورقة والقلم

كان يمتلك الجوهري قلم رصاص لا يفارقه مهما حدث يخطط به قبل أي شيء في ورق منذ بدأ التدريب حتى توفي.
أحد مسؤولي الاتحاد الأردني لكرة القدم.

يروي فاروق جعفر أحد أشهر لاعبي الكرة المصرية على الإطلاق عن فشل منتخب مصر في التأهل لكأس العالم طوال فترتي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي رغم وجود لاعبين أفذاذ مثل الخطيب وحسن شحاتة ومختار وطاهر أبو زيد وغيرهم أنهم كانوا يفتقرون للإعداد السليم قبل المباريات الهامة حيث تقيم تونس معسكرات في أوروبا ليقابلوا مدارس أوروبية مختلفة ومنتخب مصر ينقسم نصفين لإجراء مباريات ودية في التمرين!

كرة القدم ليست علما صحيح بالتأكيد ولكن كل شيء في الحياة يسير بقانون وعندما تتبع الخطوات الصحيحة لابد وأن تنجح، هكذا كان يفكر الجوهري طوال مسيرته التدريبية، أول من خطط لرفع لياقة اللاعبين البدنية عن طريق إقامة معسكرات طويلة واللعب أمام منتخبات أكثر قوة مثل مُعسكر ما قبل كأس العالم 90 الذي استمر لمدة ثلاثة أشهر وعشرين يومًا وتم التدريب في أماكن صحراوية تقريبًا، شيء ما يُشبه مُعسكرات الجيوش، كان مديراً قبل أن يصبح مدربًا يخطط ولا يترك أي خطوة للصدفة.

يروي أحد الصحفيين الرياضين بمصر عن زيارته للجنرال بمنزله لسؤاله عن سبب عدم استدعاء «حمادة عبد اللطيف»، والذي كان يعتبر أحد أمهر لاعبي جيله، لمنتخب مصر وضم لاعبين آخرين مثل «هشام عبد الرسول» رغم أنه لا يلعب في الأهلي والزمالك، فيُفاجأ من رد فعل الجوهري بأن أخرج له لوحة كبيرة بها أرقام كل لاعبي وسط مصر وأنه اختار الأجدر من حيث القدرة على الاستخلاص والتهديف ومعدلات اللياقة وخلافه.

أشياء مثل هذه هي الطبيعية وغيرها هو الاستثناء ولكن في ذلك الوقت في مصر – وحتى الآن عند كثير من المديرين الفنيين- الاهتمام بالتخطيط وخلق جو من الاحتراف لا يهم بقدر ما تهم مهارة اللاعب حتى وإن كان زائد الوزن أو لا يتدرب بحدة، النظرية عند الجنرال: 1+1 غالبًا يُساوي 2.

ينقصنا في مصر فقط الدراسة و المذاكرة، الأمور كانت تجري بصورة فهلوية.
محمود الجوهري.

الجرأة التي كان يمتلكها ابن حلوان لتغيير مفاهيم عاشت لسنوات بين كل عناصر اللعبة هي التي قادته أيضًا ليصبح أعظم مُدربي العالم على الإطلاق. خلفيته العسكرية كضابط بالجيش المصري جعلته منضبطا في عمله بشكل يصفه الكثيرون بالهيستيري، فكان حاد الذكاء ويُدخن بشراهة ويعمل لساعات طويلة دون تعب، وعلى حد تعبير من عملوا معه مثل «علاء نبيل»، و«فكري صالح» أنه كان يعتبر المُباريات مثل المعارك لذا وجب التخطيط وحساب كل شيء وبهذا كان غالبًا ما ينجح ولولا أنها مُستديرة لكان الأمر مُستديمًا.

رجل بتلك الصفات كان من الطبيعي أن يُشجع اللاعبين على اللعب خارج مصر، يحكي ميدو وهاني رمزي أنه كان يستدعي اللاعبين المُحترفين خارج مصر بصفة دائمة ليُشكلوا قوام المُنتخب الرئيسي لأنهم من وجهة نظره يعيشون في مُناخ سليم يتيح بتكوين رياضيين مُحترفين، وليس أدل على ذلك من إجباره وضع قانون عام 90 يُجبر اتحاد الكُرة بقبول أي عرض أوروبي يصل لأي لاعب يلعب في مصر والنتيجة «هاني رمزي» في ألمانيا في عمر العشرين، والتوأم في سويسرا وغيرهم، كذلك اعتماده على لاعبين مثل عبد الستار صبري وأحمد حسن ومحمد عمارة والكثيرين مثلهم، فهم في نظره الأكثر قُدرة على المُنافسة لأنهم الأكثر تدريبًا في ظروف صحيحة.

يقول الجوهري في حواره مع المستكاوي أنه عندما شاهد عمرو ذكي في مُباراة ويجان وميديليزبروه في الدوري الإنجليزي كان على اقتناع أن هُنالك 8 لاعبين مصريين يستطيعون اللعب في كل من هذين الناديين ولا ينقصهم سوى التدريب والنوم والأكل والنظام مثلهم، كان يسبق الكثيرين.


حسام الجوهري

حسام حسن وعلاقته بمحمود الجوهري

الجميع يعلم مدى ارتباط الجوهري بحسام حسن والمُتعارف أنها علاقة لاعب فذ بأبيه الروحي ومُدربه لسنوات ولكن الأمر أكثر تعقيدًا وتشابُكًا، فالجوهري في أحد حواراته مع الصحفي الرياضي حسن المستكاوي عندما سُئل عن الصفة التي يُحب أن يراها في اللاعب ذكر الحماس والرغبة في النجاح والانضباط التام وكأنه يتحدث عن حسام حسن والذي طالما أشاد به، كذلك يرى حسام في الجوهري المثل الأعلى لتقارب الصفات وللمُثابرة والجلد الشديد وحتى القدر جعل كليهما من المغضوب عليهم في الأهلي بعد رحيلهم للغريم التقليدي بسيناريوهات مُختلفة.

تشعر وأن كليهما يبث في الآخر طاقته ليتسفيق بها وليس أدل على ذلك من كأس الأُمم الأفريقية 1998 عندما اتهم الجميع حسام حسن بأنه لم يعد لديه ما يُقدمه ليذهب إلى بوركينا فاسو ليعود بالكأس ولقب الهداف. تأثر حسام بالجوهري واضح جدًا حتى فيما يخص عمله كمُدير فني في بعض الجمل التكتيكية في أساليب تنفيذ الضربات الحُرة مثلًا.

تشجيع الجوهري للعميد كان مُستمرًا حتى قبل وفاته ومدحه كمدرب -حتى ولو على استحياء- كان في كل لقاء عندما يتم سؤاله عنه على الجانب الآخر كان التوأم أول الحاضرين للأردن عند علمها بوفاة الجنرال، لم يكن الأمر أبدًا علاقة لاعب بمُدرب.


الجوهري في الملعب

الإهتمام بالتفاصيل الفنية والبدنية والنفسية، ثم التركيز على خطة الخصم ووضع الخطة المُناسبة وكيفية التعامُل مع اللاعبين والإعلام قبل وأثناء وبعد المُباراة، مدرسة أسسها محمود الجوهري نقلت الكرة المصرية من الهواية للاحتراف وأعلت من مستوى الطموح لدى المُتفرج المصري، يصح القول إن المصريين لعبوا الكُرة بعد ظهور الجنرال فقط.

يحكي الجوهري أنه عند اقتراب المُباريات الهامة كان يقود سيارته ليلًا للتجول في الشوارع الخالية ولتخيل شكل المُباراة ثم يعود ليرسم الخطة على لوحة كبيرة بغرفة نومه ثم ينام وهو يفكر بالمُباراة، وقبل مُباراة هولندا فعل الشيء ذاته وعند انتهائه من وضع الخطة نظر لها بإعجاب وافتخار -على حد تعبيره- وأنه كان يعشقها.

يحكي لحسن المستكاوي أنها كانت مُتكاملة، كل لاعب من هولندا عليه رقابة من لاعب ولاعب آخر يغطي الموقف ويغلق زوايا التمرير وعندما انتهى منها نام سعيدًا ليصحو مفزوعًا بعد قليل وينظر إليها بتمعن ليجد أنه وضع 12 لاعبًا وليس 11 ليعلم أنه عليه تحديد أولويات أمام هولندا.

شغف كبير بالكرة واهتمام زائد بعمله يجعله لا ينام كذلك قدراته على تحفيز لاعبيه، فيحكي ربيع ياسين ومجدي عبد الغني أنهما كانا من أعمدة المُنتخب الرئيسية ومع ذلك وفي مُعسكر كأس العالم 90 قال الجوهري إنه يفكر بألا يصطحبهما معه لإيطاليا والنتيجة كانت تدريب بجدية أكثر والوصول لمستوى أعلى.

كذلك موقفه من أحمد حسام ميدو البالغ من العمر 18 عامًا وقتها عندما تعدى لفظيًا على الجوهري نفسه عند خروجه مستبدلًا في إحدى مُباريات تصفيات كأس العالم 2002 حيث يروي ميدو بأن الجوهري لم يلتفت له وواصل توجيه اللاعبين وبعد انتهاء اللقاء وذهاب الجميع لمنازلهم اتصل به سمير عدلي مُدير المُنتخب للحضور في منتصف الليل بمكتب الجنرال ليُفاجأ بصفعة على الوجه وسباب مُتتال ثم طلب منه التدريب أكثر ليكون جاهزًا لمُباراة السنغال!.

دروس مجانية قدمها الضابط السابق في التعامل مع الإعلام حينما كانت مصر تلعب مع تونس وديًا قبل المُباراة الحاسمة أمام الجزائر ليمنع إذاعة المُباراة خوفًا من صداها الإيجابي أو السلبي على الشارع المصري وبعد فوز الفريق المصري برباعية في حادثة نادرة أمام تونس يدخل لتعنيف اللاعبين وطلب التركيز منهم في مُباراة الجزائر حتى لا يتملكهم الغرور الذي تسرَب القليل منه إلى نفسه على حد قوله وزاد ذلك القليل بعد أن جمع اتحاد الكُرة التونسي معظم مُدربي مُنتخبات وأندية تونس ليُلقي عليهم الجوهري مُحاضرة، بالبطبع لم يُخبر لاعبيه! أي مُدير فني هذا؟!.

كذلك عندما صرًح قبل كأس الأمم الأفريقية 1998 بأن تصنيف مصر هو ال 13 على مُنتخبات البطولة ليرفع الضغط عن لاعبي المُنتخب للعب دون أي سقف طموحات مُرتفع من الجمهور أو مُتطلبات قد تُكبل أقدامهم من الإعلام والنتيجة كأس البطولة بعد غياب 12 عامًا.


مصر والأردن بالعكس

الجوهري وكأنه دخل بيت الكرة المصرية لا يعرفون فيه سوى ركلها بالقدم وعلمهم كُل شيء بعد ذلك، كذلك تمامًا فعل في الأردن فعندما وصل لم تكُن الأردن وصلت من قبل لكأس الأمم الآسيوية ولا مرة وبالطبع ولا كأس العالم وبعد سنوات من العمل والتخطيط وصلت الأردن تحت قيادة الأسطورة إليث كأس الأمم الآسيوية ليس ذلك فحسب بل أيضًا الوصول لنصف النهائي والخروج أمام اليابان بضربات الترجيح بعد حادثة هي الأغرب عند تغيير المرمى في شيء يُشبه المعجزة.

مسئولي اتحاد الكُرة الأردنية لم يكونوا يعاملون الجوهري على أنه مُجرد مُدرب مُنتخب بلادهم بل كان مسئولًا وبصفة رسمية عن كل المُنتخبات الأردنية بل وعلى حد تعبير أحدهم كان يُرشح أسماء مُدربين لخلافته! عقلية قلما تواجدت في منطقتنا العربية.

ما حدث في الأردن كان الطبيعي فلا شيء يدعو للدهشة عندما تُقرر إحدى الدول الاستفادة من أحد خبراء الكُرة في تطوير اللعبة عندهم، وبالفعل قرر اتحاد الكُرة المصري وبعد انتهاء مهمة الجوهري في الأردن أن يتولى مسئولية التخطيط للكرة المصرية ولشكل المُنتخبات وما شابه وكعادته كان يسبق الجميع فطرح ملفات عديدة تحت تصرف اتحاد الكُرة كان تشمل دوري الرديف أو دوري 23 عامًا، ليصبح هُناك صف ثان يمكنه مساعدة الفريق الأول وبالتالي تقل حركة الانتقالات بين الأندية ويزيد الاستقرار ويرتفع مستوى اللعبة.

كما أراد الجوهري تكوين 6 مُنتخبات في كُل فئة عمرية بمعنى 6 منتخبات أولمبية، و6 للشباب وهكذا، وكل منهم له مديره الفني، وطاقمه الإداري والطبي، وذلك لخلق كوادر تدريبية وتوسيع دائرة اللاعبين الجيدين المُستعدين للعب دوليًا منذ سن صغير. كذلك سعى لخلق ما يُسمى بالمسطرة أو ما يُشبه معايير وضعها يُحدد من خلالها راتب المُدير الفني واللاعبين وتقسيمهم إلى فئات لتنظيم ضخ الأموال في اللعبة.

ولكن وللأسف قوبل كل هذا بالرفض دون إبداء أسباب واضحة فدوري الرديف يُطبق في معظم دول أوروبا وربما نرى بقية الاقتراحات تُطبق لاحقًا في دول أُخرى لنقول إنه رحمه الله كان يمتلك نظرة ثاقبة. على كُل لم يمُت الجوهري فيكفي أن تستمع لهتاف جوهري جوهري أو لمعلق يقول ضربة حرة مباشرة على طريقة محمود الجوهري لتتذكر تاريخًا طويلًا من شخص عاش حُبًا في الكرة.