لفترة طويلة من القرن العشرين، استخدمت طيور الكناري كإنذار مبكر لتحذير عمال التنقيب في مناجم الفحم من وجود الغازات السامة، على غرار غاز أول أكسيد الكربون، عديم اللون والرائحة، وعلى الرغم من كون هذه الغازات ذات طبيعة قاتلة بالنسبة للبشر والكناري على حد سواء، فإن هذه الطيور كانت حساسة أكثر، وامتلكت استجابة أسرع من البشر. لذا، كان مرض الطائر أو موته بمثابة أمر بالإخلاء.

مثل الكناري، ينظر الحسّاسون للمجالات الكهرومغناطيسية إلى أنفسهم باعتبارهم تحذيراً من خطر شبيه بغاز أول أكسيد الكربون، بلا لون أو رائحة (الإشعاعات الكهرومغناطيسية)، لكن في حين كان مرض الكناري يؤخذ على محمل الجد، لا يولي أحد معاناتهم اهتماماً.

الحساسية الكهرومغناطيسية

يصف مصطلح «الحساسية الكهرومغناطيسية» مجموعة من الأعراض الجسدية الشديدة التي يختبرها البعض جرّاء التعرض للإشعاع الكهرومغناطيسي المنبعث من الأجهزة الإلكترونية كالهواتف المحمولة، وتتمثل في الغثيان والصداع والدوخة والخفقان والإرهاق والطفح الجلدي، وأيضاً الارتباك والتنميل.

لا يوجد توثيق لبداية ظهور هذه المتلازمة، لكن يُعتقد أنه تم التعرف عليها لأول مرة عام 1932، بواسطة الطبيب الألماني «أروين شليفيك»، حيث نشر شليفيك بيانات علمية في مجلة «German Medical Weekly» عن مرضاه الذين يعانون من أعراض غير عادية قرب أبراج الراديو، تتمثل في الصداع والإرهاق وقلة النوم، وأطلق على هذه الحالة «داء الميكروويف».

مع ذلك، لم يتم الإبلاغ عن أولى الحالات إلا أواخر الثمانينيات في السويد. بعض الدول لم تبلغ عن هذا النوع من الحساسية إلا في وقت متأخر جداً، ومنها فرنسا التي أعلنت عن الأمر لأول مرة عام 2006.

حتى الآن، لا تتوافر إحصائية رسمية بأعداد المصابين، لكن البيانات المتاحة تشير إلى انتشار نسبي بين عموم السكان، إذ تصل إلى 1.6% في فنلندا، و2.7% في السويد، و3.5% في النمسا، و4.6% في تايوان، و5% في سويسرا، و10.3% في ألمانيا.

لكن، رغم هذا الانتشار الكبير للمتلازمة، فإن الجدل الدائر حولها أكبر، فبينما يؤكد المرضى أن معاناتهم سببها الإشعاعات الكهرومغناطيسية، لا يعترف المجتمع العلمي بوجودها.

مجرد أوهام

لا يمكنك أبداً إثبات أن شيئاً ما غير موجود، لكن إذا فشلت مرة بعد الأخرى في إثبات وجوده، فإنك نوعاً ما تقول: كفى.
الدكتور «لينا هيلرت»، من معهد كارولينسكا للطب البيئي بالسويد.

رسمياً، لا يوجد تشخيص طبي لهذا النوع من الحساسية، وإنما يُبلِّغ عنها المرضى ذاتياً. ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، في حين أن الأعراض قد تكون شديدة لدى المرضى، إلا أنه «لا يوجد أساس علمي لربط تلك الأعراض بالتعرض للتردد الكهرومغناطيسي». لذا، اقترحت المنظمة إعادة تسميتها إلى «الحساسية المفرطة مجهولة السبب».

يستند هذا الرأي بالأساس إلى الدراسات التي أجريت حول المشكلة، وانتهت إلى براءة الموجات الكهرومغناطيسية. يشير أنصار هذا الرأي إلى أن الأعراض عامة بصورة كبيرة، ويمكن أن تدل على عديد من الأمراض.

لكن، في حين يرفض هذا التيار الاعتراف بوجود الحساسية الكهرومغناطيسية، فإنه يقترح بدلاً من ذلك، أن المشكلة ترجع بالأساس إلى Nocebo Effect، وهي حالة يميل فيها الناس إلى الشعور بالمرض، لأنهم تعرضوا لشيء، يعتقدون أن من شأنه أن يصيبهم بالمرض، وليس لأنهم مرضى فعلياً.

وعلى كلٍ، تتبنى المؤسسات الصحية الرسمية حول العالم هذا الرأي، حيث يُنظَر إلى هذه الفئة باعتبارها مجموعة من المعتلين نفسياً، والمتوهمين.

حالات جدلية

أنا مهندس، لكنني لا أعرف كيف أصمم هاتفاً لا يؤثر على الصحة. لم نعتقد أن ما كنا نطوره قد يؤذي أي شخص. لقد كنا مخطئين لفترة طويلة.
بير سيجيرباك.

للوهلة الأولى، يبدو تفسير العلم مُقنعاً، فالناس يتوهمون المرض لأنهم يعتقدون أن الإشعاعات المنبعثة من الهواتف مُضرة، وليس لأنهم مرضى فعلاً. لكن، في حين يبدو هذا التفسير لائقاً على البعض ممّن يصدقون الخرافات حول مخاطر التكنولوجيا، لا يبدو كذلك بالنسبة لآخرين. إنها عباءة ليست على مقاس الجميع.

جرو برونتلاند، المديرة العامة لمنظمة الصحة العالمية سابقاً، كانت أعلنت، خلال عملها كمديرة للمنظمة، إصابتها بالمتلازمة. برونتلاند قالت إنها تعاني من انزعاج شديد وصداع كلما استخدمت هاتفاً محمولاً. الأهم هو أنها نفت أن يكون الأمر مجرد أوهام: «لقد أجريت عدة اختبارات، لذلك ليس هنالك شك».

على أن برونتلاند ليست الشخص الوحيد الذي يُعتد برأيه، كان هناك شخص آخر لا تقل حالته أهمية. في أواخر الثمانينيات. عانى «بير سيجيرباك»، المهندس بشركة إريكسون للاتصالات، وأعضاء مجموعته من أعراض؛ الدوخة، والغثيان، والصداع، والحرقان، والبقع الحمراء على الجلد. لم يمضِ كثير من الوقت حتى بدأت الأقسام الأخرى تشكو من الأمر ذاته.

ولأن «سيجيرباك» كان العضو الرئيسي في فريق التصميم بالشركة، فقد بذل قصارى جهده لإبقائه في العمل. رغم ذلك، ومع ظهور أبراج الهواتف المحمولة، اضطر في النهاية إلى الانعزال في الغابة، فراراً من الموجات، قبل أن تقوم الشركة بفصله. لاحقاً، عرف «سيجيرباك» أن شركات أخرى واجهت مواقفاً مماثلة، إلا أن تلك المعلومات بقيت في طي الكتمان.

الشك منتجهم

الشك هو منتجنا، لأنه أفضل وسيلة للتنافس مع جسد الحقيقة الموجود في ذهن عامة الناس، وهو أيضاً وسيلة لإنشاء الجدل.
مذكرة لشركة «براون آند ويليامسون» للتبغ.

كان الشك هو المنتج الأفضل الذي قدّمته شركات التبغ للتغطية على أضرار صناعتها. ففي ديسمبر/كانون الأول 1992، عندما نشرت وكالة حماية البيئة الأمريكية تقريراًيتضمن مخاطر التدخين السلبي على الصحة، وضعت شركة التبغ «فيليب موريس» استراتيجية لتشويه سمعة التقرير. وقتها، عملت الشركة على خلق حالة من عدم اليقين العلمي، بالتشكيك في صحة الدراسات التي تربط التدخين بالسرطان والأمراض الأخرى، وتقديم دراسات منافسة تنفي وجود صلة حاسمة بين التدخين وهذه الأمراض. بدرجة كبيرة، كانت هذه الاستراتيجية ملهمة للصناعات الكبرى، وعلى رأسها صناعة الاتصالات.

لسنين طويلة، وحتى الآن، دائماً ما كان الجدل مُحتدماً، ليس فقط حول الحساسية الكهرومغناطيسية، بل مخاطر الإشعاعات الكهرومغناطيسية بصفة عامة.

تشير بعض الأبحاث إلى أضرار جسيمة تُسبِّبها تلك الإشعاعات. بعض الدراسات تربط إشعاع الهواتف المحمولة بالسرطان،ليس هذا فحسب، دراسات أخرى توصّلت إلى وجود آثار ضارة على الأجنة، والحيوانات المنوية.

ومع ذلك، لا تؤخذ هذه الدراسات على محمل الجد. تقول مؤرخة العلوم الأمريكية، نعومي أوريسكس، إن ثمة أزمة تكمن في تشويه النتائج العلمية التي تهدد مصالح الشركات القوية، بتصوير هذه النتائج على أنها معيبة، واستغلال فكرة عدم اليقين العلمي، للإيحاء بعدم وجود إجماع. من ناحية أخرى، تقوم هذه الشركات بتمويل دراسات منافسة تُفضي إلى لا شيء، حتى تبقي على الوضع مُعلّقاً.

في عام 1995، حين اكتشف باحث جامعة واشنطن، هنري لاي، أن الإشعاع الكهرومغناطيسي ربما يتسبب في إتلاف الحمض النووي، عملت شركة موتورولا على تشويه نتائج دراسته، باعتبارها غير دقيقة. في المقابل، قامت بتمويل باحث آخر يُدعى، جيري فيليبس، قبل أن تقطع عنه التمويل، عندما توصل إلى النتيجة ذاتها.

حتى الآن، تؤتي هذه الاستراتيجية ثمارها، حيث تبقي على الموقف من أضرار الحقول الكهرومغناطيسية مُعلّقاً، فلا هي مؤكدة، ولا هي منفية، إذ تكتفي منظمة الصحة العالمية بتصنيف النوع المستخدم في الهواتف المحمولة كمواد مسرطنة من المجموعة (2ب)، أي أنه من المحتمل، وليس من المؤكد، أن تكون مسرطنة، مع تأكيدها في الوقت نفسه على ضرورة إجراء مزيد من الأبحاث حول الآثار الصحية طويلة المدى، للوصول إلى نتيجة حاسمة.

لكن، لماذا تفعل شركات الاتصال هذا؟ لماذا لا تضع تحذيراً على منتجاتها مثلما تفعل صناعة التبغ، وينتهي الأمر؟

تكمن المشكلة الحقيقية، لا في كون الإشعاعات ضارة، ولكن في كونها أمراً لا مفر منه. بالطبع، بإمكانك أن تختار ألّا تدخِّن، فضلاً عن وجود قواعد تحميك من التدخين السلبي، لكنك لا تستطيع تجنب الإشعاعات، إنها في كل مكان حولك؛ أبراج الهواتف المحمولة، أجهزة الاتصالات اللاسلكية. ومثل التدخين، هناك من سيُبقِي على استخدام هذه التكنولوجيا، بصرف النظر عن مخاطرها، لكن في المقابل لا يزال هناك من يكترث كثيراً بشأن صحته.

الأسوأ، أن الاعتراف بأضرار تلك الإشعاعات سيفتح الباب لمقاضاة صناعة الاتصالات لكونها سبباً في مرض كثيرين حول العالم، ليس فقط بالحساسية الكهرومغناطيسية، بل ما هو أخطر.

في عام 1993، مواطن أمريكي يدعى، ديفيد رينارد، قام برفع دعوى قضائية ضد شركتين تعملان في صناعة الهواتف الخلوية، حيث زعم أن هاتف زوجته أصابها بورم دماغي أدى إلى وفاتها. تسببت الدعوى وقتها في هبوط أسهم الصناعة، على الرغم من رفضها لاحقاً لعدم كفاية الأدلة.

بالطبع، يمكنك تصور حجم الكارثة التي ستحل بالصناعة إذا تم تأكيد الأمر، لذا فالشك وسيلة جيدة للإبقاء على الموقف من أضرار هذه الإشعاعات دون نتيجة حاسمة.

قضية مُشابهة

حين أعلن الرئيس الأمريكي چورچ بوش الأب انتهاء حرب الخليج الثانية، بعد أربعين يوماً على بدايتها، لم يكن الجنود الذين شاركوا فيها، يعرفون أن الحرب، التي يفترض أنهم انتهوا منها، بدأت للتو. في السنوات التالية، اشتكى أكثر من ربع جنود العائدين منها من أعراض شديدةتضمنت الإرهاق والصداع، ومع ذلك بقي السبب لغزاً غامضاً. فوق ذلك، قوبلت شكوى الجنود بالتشكيك والإنكار، ولم يتم الاعتراف بالحالة إلا بعد سنين من ظهور الأعراض.

يقول كيري فولر، جندي بريطاني، إنه عانى خلال الخدمة العسكرية من مرض وراء الآخر، لكنه حين تساءل عمّا إذا كان للأمر علاقة بخدمته في الخليج، كان خط المساعدة العسكري يخبره:

هذا هراء، لا دليل على ذلك. قرصان من الباراسيتامول، وانتهى الأمر.

مؤخراً، اكتشفت دراسة أمريكية السر وراء المرض الغامض، حيث وجدت أن السبب في الأعراض التي ظهرت على الجنود، كان في الأساس غاز الأعصاب، الذي أُطلق في الهواء عندما قُصفت مخابئ الأسلحة الكيماوية العراقية.

بالنسبة للدكتور ديفيد كاربنتر، مدير معهد الصحة والبيئة في جامعة ألباني بنيويورك، ليست الحساسية الكهرومغناطيسية إلا مرض حرب الخليج، قبل أن يقبله العلم. يقول كاربنتر:

بالنسبة لهذه الأمراض، لا يوجد فحص دم لتشخيص ما هو خطأ بشكل قاطع. وفي غضون ذلك، يتعرض المرضى للإساءة من قبل المجتمع.

تأثير مُدمر

مع جهل الأطباء بوجود المتلازمة، يجد المرضى أنفسهم في مأساة مزدوجة؛ فمن ناحية يعانون لسنوات، قبل اكتشاف سبب مرضهم ذاتياً. فيما بعد، ومع معاملتهم على أنهم معتلون عقلياً، يختارون المنفى، والذي هو الاختيار الوحيد.

الدكتور جيمس روبن، من كينجز كوليدج بلندن، هو أحد أشرس الرافضين لوجود المتلازمة، حيث يُوصف بأنه بُعبع المجتمع الحسّاس للكهرباء،ومع ذلك فهو يعتقد أن المرضى يعيشون حياة كارثية، يقول:

ثمة حالات بات فيها المرضى نُسّاكاً بالفعل.

في النهاية، هو قرار واحد لهؤلاء، وإن اتخذ أشكالاً مختلفة، منهم منْ يعتزل في منزله، ومنهم منْ يضطره التعب إلى المناطق النائية، هرباً من المدينة وإشعاعاتها، حيث ملاجئ الحساسين للإشعاعات الكهرومغناطيسية آخذة في الانتشار، ثم هناك في الأخير أولئك الذين يختارون الاستسلام.

في يونيو/حزيران 2015، قرّرت مراهقة إنجليزية تُدعى «جيني فراي»، إنهاء حياتها، بعدما عانت من أعراض المتلازمة لأكثر من عامين.رغم ذلك، لا يبدو أن انتحار تلك المراهقة يرتقي في مصداقيته إلى موت طيور الكناري كإنذار على وجود خطر يستوجب القلق.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.