بعد أشهر طويلة من الأخبار والتحليلات والتوقعات والسجالات القانونية شهد عالم الأعمال والتكنولوجيا إتمام واحدة من أشهر الصفقات المليارية (44 مليار دولار) في عالمي المال والتكنولوجيا – والسياسة أيضًا بالنظر إلى المنتج المثار حوله الجدل – بشراء الملياردير ورائد الأعمال والتكنولوجيا المثير للجدل إيلون ماسك لموقع تويتر، منصة السوشيال ميديا الأشهر في عصرنا؛ وما لبث العالم أن شهد بداية عواصف التغيير المتوقع من جراء هذه الصفقة التي -برغم شهرتها- أحاط الغموض بالأهداف الرئيسية لها ودوافع إتمامها.

بدأت عواصف التغيير في تويتر الأسبوع الماضي في بدايات نوفمبر 2022، بإعلان تويتر تحت إدارة إيلون ماسك تسريح قرابة نصف العاملين في الموقع، ورفع عدد ساعات العمل لحوالي 12 ساعة للعاملين في مناصب قيادية، بجوار إعلان تويتر انخفاض إيرادات أرباح الموقع بشكل كبير، وفي تلميح – قد يفسر الكثير لاحقًا – ذي مغزًى ألقى ماسك اللوم في انخفاض أرباح تويتر على جماعات النشطاء الحقوقيين الذين قاموا بحملات تغريد لـ «تشويه» الصفقة والسخرية منها، كما قاموا بإيقاف حملاتهم المدفوعة على المنصة، وهو ما رآه ماسك أحد أبرز أسباب انخفاض أرباح تويتر.

ولكن على الرغم من انتشار العديد من الأخبار حول هذه الصفقة، فإن هناك الكثير من التكهنات والتحليلات لما وراء هذه الصفقة، والتي قد يراها البعض خطوة تبتعد بشكل ما عن المنطق بالنظر إليها من منظور عالم المال والأعمال – وحتى على لسان ماسك نفسه في تصريحات سابقة وحديثة بأن الهدف من الصفقة ليس ربحيًّا – وخاصة زاوية الاستثمار والأرباح.

أما بالنسبة لزاوية ريادة التكنولوجيا، فقد رآها البعض أيضًا خطوة غير مفهومة بالنسبة لشخص اشتهر بتطلعاته إلى التكنولوجيا المستقبلية وغزو الفضاء، سواء من خلال شركتيه الأبرز (SpaceX) لتكنولوجيا مركبات الفضاء أو (Tesla) لإنتاج السيارات الكهربائية، وهو ما لا يرتبط مباشرة بشراء منصة بارزة للتواصل الاجتماعي اشتهرت بالزخم السياسي وعالم الرأي.

ولكن بالنظر إلى تاريخ ماسك وتاريخ المنصة نفسها محور الصفقة، قد تتراص قطع «البازل» بشكل منطقي لتعطينا صورة يمكننا من خلالها فهم دوافع هذه الصفقة والتغيرات المحتملة التي قد تنتج عنها.

تغريدات جدلية

أي متابع لعالمي التكنولوجيا والمال وأخبارهما سيدرك بسهولة أن منصة إيلون ماسك المفضلة خلال الأعوام العشرة السابقة كانت هي تويتر، فأغلب تصريحاته كانت تأتي في شكل تغريدة، سواء كانت تتعلق بشركاته أو أنشطته أو حتى مُزحاته العابرة وآرائه الشخصية، ولم تخلُ هذه التغريدات من الجدل الكبير؛ ففي السنوات الأخيرة كانت تتسبب بعض تغريداته في تغير كبير لحركة السوق، خاصة في عالم الأسهم والاستثمارات المالية.

كانت من بين أبرز هذه التغريدات شديدة التأثير تلك التي تناولت صعود وهبوط قِيم العملات المشفرة، وخاصة (بيتكوين) و(دوجي كوين)، بجوار الاستثمارات في أسهم شركته تسلا وغيرها، بجوار تغريداته غير المتعلقة بالمال والأعمال، والتي اعتبرها البعض (احتكاكات طريفة) ببعض المنافسين من رواد الأعمال والشركات المنافسة؛ فالملياردير الأمريكي – من أصل جنوب أفريقي – اشتهر عادة بتقريع منافسيه أو السخرية من منتجاتهم مثلما سخر من منافسه الملياردير الأمريكي جيف بيزوس صاحب إمبراطورية أمازون، وجاءت تغريدته الأشهر عندما أعاد تغريد صورة لمركبة فضاء من إنتاج (بلو أوريجن) المملوكة لبيزوس معلقًا بتلميح ساخر على فشلها: «Can’t get it up (to orbit) lol».

وهو تلميح ذو طبيعة جنسية يتلاعب بالكلمات في اللغة الإنجليزية؛ إذ تتشابه جملة «لا يمكنهم تنصيبها للتحليق» مع معنى «ضعف الانتصاب لدى الرجال»، وهو تلميح لضعف قدرات مركبات بلو أوريجن على التحليق عاليًا، وهو تلميح صبياني ساخر قصد به ماسك المزاح الذي يقلل من شأن منافسه الأشهر جيف بيزوس، وهو سلوك ليس بغريب على ماسك وآرائه التي اشتهرت بإثارة الجدل ما بين «السخرية الطريفة وحرية التعبير» و«الإساءة للأشخاص والتقليل منهم»، تلك الآراء التي لم يسلم منها العديد من الشخصيات المعروفة التي سبق أن سخر منها ماسك علانية؛ وكان من أبرزهم جيف بيزوس وبيل جيتس.

وفي مطلع أبريل 2022 عندما بدأت أخبار اعتزامه تقديم عرض شراء لتويتر، كانت أبرز تصريحات ماسك هي أن الصفقة ليس الهدف منها الأرباح المالية، ورجح تحليل نشره موقع التكنولوجيا الشهير (تك كرانش) أن رغبة إيلون ماسك وراء هذه الصفقة قد يكون «سياسيًّا» بحتًا، وأشار إلى أن ماسك واحد من أبرز المؤمنين بحرية الرأي، وأنه قد يرغب في الصفقة من أجل «تغيير الأوضاع» في تويتر.

وهنا يمكننا أن نُسقط قطعة «بازل» جديدة لفهم الصورة كاملة، فبعيدًا عن ريادته في عالم الأعمال؛ تاريخ إيلون ماسك في عالم الرأي والسياسة حافل بمعارك جانبية صغيرة لم تحظَ بالانتشار الكافي مقارنة بشهرته في عالمي التكنولوجيا والمال.

ماسك بين اليسار واليمين وحرية التعبير

في أحد أبرز تصريحات ماسك في أكتوبر 2022 قال إن السبب الأساسي لشراء تويتر هو «مساعدة الإنسانية» التي يقدِّرها، وليس من أجل المال.

ولفهم طبيعة هذا التصريح يمكننا النظر إلى بعض النقاط البارزة في مسيرة إيلون ماسك، وتاريخه مع موقع تويتر، والتحاماته بقضايا السياسة الدولية والرأي، والتي قد نرى تسلسلها المنطقي بآخر التصريحات الجدلية الكبرى لماسك خارج عالم التكنولوجيا والمال في مايو الماضي 2022 عندما أعلن أنه سوف يصوِّت لكتلة اليمين المحافظ (متمثلة في الحزب الجمهوري الأمريكي)، وانتقد كتلة اليسار الليبرالي (متمثلة في الحزب الديمقراطي) علانية، واتهم اليسار – وعلى رأسهم نشطاء الحركات الليبرالية الحقوقية المتنوعة – بأنهم صاروا يبشرون بالكراهية والتفرقة برغم تصويته السابق للكتلة الديمقراطية.

ولفهم هذا التحول الأيديولوجي السياسي للملياردير المثير للجدل، يمكننا ببساطة النظر إلى معاركه السابقة مع حملات الهجوم الكبير التي تعرض لها إيلون ماسك سابقًا على يد أبرز عناصر كتلة اليسار الليبرالي ونشطاء الأقليات الحقوقيين في عدة سوابق، كان أبرزها معركة ماسك الأخيرة عندما واجه غضب نشطاء مجتمع المثليين والمتحولين جنسيًّا LGBTQ عندما سخر منهم ومن رموزهم – مثل علم ألوان قوس قزح – في عدة تغريدات، وهاجم ضغوطها المستمرة لفرض ضمائر المخاطب المحايدة والجنسانية Gender Pronouns في تغريدة شهيرة قال فيها: «Pronouns Suck» أي «الضمائر المقرفة».

وغيرها من التغريدات التي سخرت من جماعات نشطاء الجندر والجنسانية، وواجه إثر ذلك حملات كبيرة طالبته بالاعتذار، ولكنه لم يعتذر بل غرَّد:

أنا أدعم المتحولين جنسيًّا، ولكن استخدام الضمائر هو «كابوس جمالي».

كما واجه ماسك غضب أقرب الناس إليه من المنتمين إلى هذه المجتمعات، عندما أعلنت ابنته المتحولة جنسيًّا – التي كانت ذكرًا باسم إكزافيير وتحولت إلى أنثى باسم فيفيان – تبرؤها منه وتغيير اسمها القانوني للتخلص من اسمه في هويتها.

لا نتفليكس ولا أوكرانيا

بجوار هجوم ماسك على ضغوط اليسار الليبرالي؛ هاجم أيضًا المحتوى الترفيهي الذي تقدمه شبكة البث الشهيرة نتفليكس، التي تنتهج بشكل علني وواضح المحتوى الذي يمثل ويدافع عن مجتمعات المثليين والمتحولين جنسيًّا، ووصف محتواها بأنه «فيروس صوابي»، في اتهام صريح لثقافة الصوابية السياسية التي يرى ماسك أنها أحد أكبر المُهددات لحرية التعبير والرأي، وهو العقيدة السياسية الأساسية التي ينتهجها مناصرو حزب اليمين المحافظ في العالم، والجمهوريون تحديدًا في أمريكا، والذين يرون أن النشطاء الحقوقيين لمجتمعات المثليين والمتحولين جنسيًّا وغيرهم قد تحولت إلى «التطرف» في ضغوطها المستمرة للدفع بأنفسهم للتواجد في الساحة العالمية السياسية والترفيهية.

وبرغم أن إيلون ماسك كان من الداعمين لتحالف اليسار الديمقراطي في الدول الغربية، على رأسها أمريكا التي يرأسها حاليًّا رئيس ديمقراطي، جو بايدن، والتي شجعت ودعمت أوكرانيا «من أجل ترسيخ الحكم الديمقراطي» في حربها أمام روسيا، وأظهر ماسك دعمه هذا سابقًا من خلال تقديم خدمات الإنترنت عبر الأقمار الصناعية عبر شركته «ستارلينك» للأوكرانيين بشكل مجاني.

إلا أن ماسك عاد ليثير الجدل بابتعاده عن دعم اليسار الديمقراطي عندما صرَّح بأن خدمات ستارلينك في أوكرانيا لن تستمر، وقدمت شركته SpaceX عريضة إلى البنتاجون لخصت فيها إنفاق قرابة 100 مليون دولار لدعم ستارلينك في أوكرانيا، وأنها غير مستعدة لإنفاق المزيد، وهو ما حدث بالفعل في السادس من نوفمبر 2022، إذ توقفت خدمات 1300 قمر صناعي مُزود للإنترنت في أوكرانيا «لأسباب تقنية»، وإثر ذلك أعربت السلطات الأوكرانية عن قلق كبير من أن هذا التوقف قد يؤثر على معاركها مع الجانب الروسي.

ما بعد العاصفة

في توجيه مخالف لما يستشعر الكثيرون حول الظل السياسي الملقى على هذه الصفقة؛ ظهرت تقارير مالية ترجِّح أن صفة شراء تويتر لها هدف مالي استثماري بحت، مثلما استدل تقرير منصة فورتشن على ذلك بأن السبب الحقيقي وراء الصفقة هو رغبة إيلون ماسك في استعادة سيطرته على نُظم الدفع المالي الرقمي الذي بدأ مشواره المهني فيه – إيلون ماسك كان أحد مؤسسي منصة باي بال الشهيرة للدفع الإلكتروني – من خلال السيطرة على نظام الدفع الرقمي المالي المعروف باسم AHC، والذي يتصدر المشهد حاليًّا في عالم المدفوعات الرقمية بين العملات المشفرة ونظم الدفع التقليدية.

ذكر تقرير فورتشن أن هذا الاستدلال أيضًا يعززه أحد تصريحات ماسك في مايو الماضي بأنه سوف يقدم «منتَج (خدمة) جديد على تويتر ستصل أرباحه إلى 1.2 مليار دولار بحلول 2028»، ولكن هذا التصريح المنفرد لإيلون ماسك تناقض لاحقًا مع تصريحاته المتكررة حول خلو الصفقة من عنصر الأرباح المالية؛ مما يعني أن هذا الرأي ليس مرجحًا بالقوة الكافية ليكون السبب وراء الصفقة.

ولكن بالنظر إلى المواقف السياسية المذكورة السابقة والحالية للملياردير الأمريكي المثير للجدل، نرى أنه على جانب آخر قد بدأ العالم بالفعل يستشعر أن الاستحواذ على تويتر – باعتبارها أشهر منصة يسارية حقوقية في العالم – ليس صفقة مالية ربحية عادية لرجل أعمال عادي؛ وبدأت تحذيرات لها أهمية خاصة في الظهور على الساحة الدولية، وأبرز هذه التصريحات كان تصريح مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بأنه يجب على تويتر أن تحترم «حقوق الإنسان» وأن تظل حقوق الإنسان أمرًا مركزيًّا في إدارة تويتر، وهو ما قد يشير إلى قلق عام تجاه تغييرات قادمة على تويتر قد تعيق التعبير عن الحريات، والتي اشتهر بها الموقع.

ورأينا بالفعل أن أول ما صرح به ماسك حيال سياسات المحتوى أنها ستظل كما هي، ولن يكون هناك أية تغيرات مثلما توقع العديد من المواقع الإخبارية – بالنظر للتحولات الأيديولوجية لإيلون ماسك من اليسار إلى اليمين – بـأن يُرفع الحظر عن حساب الرئيس الأمريكي اليميني المحافظ السابق دونالد ترامب؛ إذ كان قد صرح ماسك في أواخر أكتوبر 2022 أن قرار حظر حساب ترامب لم يكن خطوة صحيحة … أن «نحجب صوت» ترامب كان خطوة خاطئة تسببت في انقسام أمريكا، وأنها كانت خطوة «حمقاء ومتطرفة».

ولكن أحد أبرز التصريحات حيال المحتوى وسياسته كانت أن تويتر بعد استحواذ ماسك سوف يقوم بتشكيل «مجلس مراقبة المحتوى»، وأن الأمر سوف يأخذ بضعة أسابيع لتطبيقه، وهذا يعني أن أية سياسات جديدة تخص المحتوى لم تتضح بعد.

أما على صعيد التغيرات التقنية فقد صرح إيلون ماسك لرواد تويتر بأن التوثيق الرسمي لحساباتهمسوف يتاح بمبلغ 8 دولارات شهريًّا، بجوار وعد ماسك بتوفير ميزة «التغريدات الطويلة» التي تزيد عن 140 حرفًا الأصلية التي يتيحها تويتر للمغردين منذ أن بدأ العمل عليه، باقتراع نشره ماسك على تويتر يأخذ فيه رأي المستخدمين بإعادة منصة لمشاركة الفيديوهات القصيرة كانت تابعة لتويتر ومعروفة باسم Vine.

طُرحت Vine كتطبيق مستقل وكانت النواة الأولى المُلهمة لمنهج عمل تطبيق «تيك توك» الشهير، والتي توقفت عن العمل عام 2016 لأسباب مالية وتقنية، وجاءت نتيجة الاقتراع بموافقة 70% من إجمالي 5 ملايين مستخدم بالموافقة على عودة Vine. بجوار تقارير تفيد أن ماسك قد يأخذ في الاعتبار إطلاق ميزة المقاطع المدفوعة؛ أي إتاحة فيديوهات تتطلب الدفع لمشاهدتها.

وبرغم أن الصفقة الضخمة لم تتضح تبعاتها الكاملة بعد؛ فإنه لا يزال هناك الكثير من الترقب الدولي لما يفعله وما ينوي فعله ماسك في الأسابيع والشهور القادمة؛ إذ إنه ولأول مرة منذ أن ظهر موقع تويتر يرى العالم تغيرًا قطبيًّا كبيرًا في توجهات مالك منصة اشتهرت بأنها أحد أبرز عناصر النشاط السياسي والأيديولوجي في العالم؛ ولا يسع الجميع الآن سوى ضبط تنبيهات إشعاراتهم لتغريدات ماسك القادمة.