البدايات بطبعها جميلة، لكن هذه البداية ليست كغيرها. قنبلة من الحب والرومانسية تنفجر في كل خلية من كيانك، كل شيء جميل أكثر من اللازم، مثالي أكثر من اللازم، كل لقاء هو «مشهد بديع» خلقه مخرج محترف متمكن من أدواته. كل نظرة تمنحك صك الاعتراف بالكمال، أنت ما كان يبحث عنه، وما دونك العدم.

مَن هذا الشخص: مكافأة القدر أم خذلان جديد؟

يتطوع هو بتقديم الإجابات، يُخبرك بثبات أن مخاوفك محض هواجس، أنه لا يشبه من خذلوك قبله، يمنح نفسه دور البطولة في أفضل سيناريو ممكن للحاضر والآتي، يُداعب وترًا فيك لا يقوى على الصمود. تطمئن، تُرخي حبال الحذر، وتُسلِّمه كلمة المرور إلى روحك.

يحدث كل شيء بسرعة. وتأتي مرحلة التثبيت، تثبيت وجوده في كل سنتيمتر من جدران عالمك، يبرع في صناعة الذكريات الاستثنائية، استعدادًا لمرحلة تكون فيها الذكرى حائط الارتداد لمشاعرك، مرحلة «البث التجريبي للإهانة». يختبر سقف انفعالاتك، إلى أي مدى يمكن أن تثور على إساءة صغيرة؟ تبريرها مُعد مسبقًا (أنا أمزح، أنت حساس، أنت لم تفهم جيدًا)، وبينما تكون إساءته متعمدة، يكون غفرانك أسهل بفضل الرصيد والذكريات، وتنتقل للمرحلة التالية.

وَضع مشاعرك على الأرجوحة، رَبط الحزام جيدًا، ثم انطلق في رحلة التلاعب. يستقطب عواطفك بين الحب الجنوني والإساءات القوية، حالة تجعلك تتحمل آلام الهجر مقابل نشوة الرجوع، تعتاد الإساءة وتُبرِّرها، تكسر أوقات صمته العقابي باعتذارات مُبهمة عن أمور عبثية. تأرجُح يفقدك اتزانك ويُصيبك بدوار فتبقى مكانك محاولًا الفهم، لكنك لا تفهم.

ماذا يحدث لي؟ ما الذي أفعله بنفسي؟

يتطلب الأمر أشهرًا وربما سنوات لإيجاد مخرج طوارئ من دائرة الألم، أو حتى نقطة استراحة يُلملم فيها الشخص أشلاء مشاعره ويضمد ندوب قلبه العميقة مؤقتًا. وفي عالم البحث عن إجابة، تكتشف أن مُعذِّبك ليس قطعتك الفريدة، وإنما نسخة سخيفة ومكررة من فئة المؤذين.

مرحبا بك في عالم النرجسية…

عالم يسكنه عشرات الآلاف من «مجاريح» علاقات الحب الفاشلة، وجدوا في النرجسية القالب الملائم لتفسير تصرفات الطرف الآخر باعتباره «المؤذي»، فأصبحوا يوصمون كل شيء حولهم بالنرجسية. وبعد جولة في تلك العوالم، اكتشفت أن دستورهم ومرجعهم في توزيع ملصق «النرجسية» على الشخص وتحليل تصرفاته، هو «أحببتُ وغدًا»، كتاب نُشر عام 2018 للكاتب «عماد رشاد عثمان»، عن التعافي من العلاقات المؤذية.

الكتاب صاحب الطبعات الـ 13، والعنوان الذي قد يراه البعض «مبتذلًا»، رسم بدقة متناهية ملامح النرجسية، كيف يتمكن منك النرجسي؟ حيله وأساليبه في الخداع، تكتيكات الهروب والعودة والتلاعب. بل وصل كذلك إلى أكثر الأماكن عمقًا وإظلامًا في دواخلنا، والتي تدفعنا للدخول والاستمرار في علاقة مع شخص نرجسي، أو مؤذٍ، أو وغد، كما في عنوان الكتاب.

أسعدني كثيرًا أن يكون ختام معايشتي لعالم النرجسية الافتراضي على السوشيال ميديا، هو حوار مع د. عماد، مؤلف الكتاب، وأول من باع النرجسية كمنتج ثقافي رائج عربيًا، قبل أن تصبح سلعة استهلاكية في عالم العلاقات.

متى نبت في وادينا الطيب كل هذا القدر من النرجسيين؟

في السنوات الأخيرة زاد استخدام وصف النرجسية كوصمة عامة، وتم استهلاكه ثقافيًا، سواء في العلاقات العاطفية أو الأسرية أو علاقات العمل ومختلف أشكال التواصل الإنساني، على عكس اضطرابات نفسية أخرى ربما تكون حتى أكثر انتشارًا، كاضطرابات الطعام أو كرب ما بعد الصدمة، وكانت النتيجة أن تم خلق نوعين من النرجسية:

  • النرجسية الثقافية؛ وهو مصطلح فضفاض أُدرجت تحته صفات كثيرة، وأصبح يُطلق على أي شخص اعتباطًا.
  • النرجسية الأصلية؛ الموثقة في الأدبيات الطبية، وتشخيصها أمر صعب للغاية، قد يحتاج لأشهر على يد طبيب متخصص.

ما النقطة الفاصلة في وصف شخص بأنه نرجسي؟

سمات الشخصية النرجسية، كما ذكرت تفصيلًا في الكتاب، يمكن تلخيصها في 8 نقاط أساسية:

  1. عدم القدرة على التعاطف مع الآخرين.
  2. الغرور الشديد، خاصةً عندما لا يتناسب مع إمكانات الشخص.
  3. الاستحواذ الذهني الكامل بأفكار النجاح والسيطرة والقدرات الفائقة، بطريقة غير مبنية على معطيات الواقع.
  4. الشعور المفرط بالاستحقاق والأفضلية.
  5. الغيرة والأحقاد والشعور بتآمر الناس ضده.
  6. الإسقاط، بمعنى عكس الشخص مشاعره على الآخرين وإلصاق صفاته بهم، لدرجة أنه قد يعيش دور الضحية (وهو أحد أهم صفات النرجسي).
  7. الميكافيلية واستغلال الآخرين من منطلق «الغاية تبرر الوسيلة».
  8. «النمط المتكرر»، بمعنى وجود هذه الصفات لدى الشخص منذ البلوغ، وفي كل مساحات حياته، بدرجة تعيق قيامه بوظائفه الحياتية واستقرار علاقاته. وهذه هي النقطة الفارقة في تشخيص النرجسية المرضية.

ماذا لو انطبقت «بعض» الصفات وليس «كلها»؟

بحسب «سيجموند فرويد» ومن جاء بعده، كلنا لدينا مساحات معينة من سمات النرجسية، وتعتبر مرحلة نمو طبيعية، خاصةً في فترة المراهقة، لكن البعض استمرت معهم هذه الصفات إلى مرحلة ما بعد المراهقة ودخلت في تكوين شخصيته.

وفي ظل التفريق بين النرجسية الصحية والمرضية، فالمريض تُعيقه صفاته عن الحصول على علاقات طويلة ومستقرة، أمّا لو غاب شرطا الاستحواذ واضطراب العلاقات، حينها يمكن اعتبار الشخص «لديه سمات من النرجسية».

أليس ممكنًا أن تستمر العلاقة لفترات طويلة بسبب قدرة النرجسي على الاستحواذ والسيطرة على الشريك؟ أم أن علاقاته تفشل بالضرورة عند مرحلة معينة؟

النرجسي كأي شخص مصاب باضطرابات نفسية حقيقية لا يستطيع الاستمرار في علاقات ناجحة طويلة، وشرط نجاح العلاقة هنا أن تكون مُشبّعة لكلا الطرفين. قد ينجح النرجسي في الاستمرار لأشهر داخل العلاقة بشكل مُشبَّع ومرضي ومثالي أحيانًا، لكن بمجرد أن ينفد استهلاكه للشريك، يتخلّص منه ويبدأ البحث عن فريسة جديدة، أو يدرك الشخص الآخر أنه في علاقة نرجسية مؤذية ويقرر الانسحاب.

هذا نرجسي، وذاك سيكوباتي، والآخر ذو شخصية حدية: لماذا نُصر على تصنيف الآخر قبل الرحيل من العلاقة؟

وجودك في علاقة تتعرض فيها للأذى هو سبب كافٍ في ذاته للهروب منها بدون تشخيص أو تصنيف، لكن المعرفة والفهم ضروريان لمن يعيش مرحلة الإنكار، فمثلًا عندما تدخل الشخصية الاعتمادية في علاقة مع نرجسي، فإنها لا ترى فيه أي سوء وتمنحه مسحة من المثالية والكمال، حتى رغم تعرضها لأضرار بالغة ظاهرة للآخرين، لكنها تكون غارقة في الإنكار. وعلى العكس، في بعض الأحيان تكون المعرفة مؤذية، لأنها تدفع نوعًا من الشخصيات للعب الدور السهل والمغري، دور الضحية.

بالحديث عن دور الضحية، وعملًا بمبدأ الإسقاط، لمَ لا يكون الشخص الذي يدّعي التعرض للأذى، نرجسيًا، يُسقِط على الآخر صفاته؟

إشكالية النرجسية الحقيقية أنه لا يوجد نرجسي يضع ذاته موضع التساؤل، وبنسبة كبيرة إذا ساورتك الشكوك حول نفسك فأنت لست نرجسيًا.

ماذا عن المرأة النرجسية؟ لماذا لا نقول «أحببت وغدة»؟

هذه حقيقة وهناك الكثيرون من الرجال يعانون في علاقات نرجسية، لكن الرجل يكتم الألم والمعاناة، لاعتقاده أن الأمر غير مقبول اجتماعيًا، وأن تعرضه للأذى إنما هو قدحٌ في رجولته، وأغلبهم يظل عالقًا في مرحلة الإنكار لفترات طويلة. بخلاف أنه لا يوجد تقريبًا محتوى عن المرأة النرجسية، لأن النغمة المجتمعية لدور «المرأة الضحية» عالية جدًا، وطاغية.

ما أكثر شيء يستفزك في المحتوى الرائج عن النرجسية على الإنترنت؟

فكرة أن يتعرّض أحدهم للأذى، فيُصاب بما يسمى «الاستحواذ العكسي»، تدور حياته كلها في فلك الانتقام من النرجسي، ويأخذ على عاتقه معاداة ومحاربة النرجسية ومنقذ ضحاياها.

هناك بعض غير المتخصصين يضطلعون بهذا الأمر، ومن هنا جاء انتشار النرجسية الثقافية بشكل أكبر، وشيطنة النرجسي وتحميله كل الخطايا. ولعل ما يجذبهم في ذلك، أن الناس يحبون اللعب على وتر الضحية، الكل يبحث عن تأكيدات خارجية لشعوره الداخلي، أنا الضحية وأنا منْ تم التلاعب بي، في حين أن الشخص الآخر، المتهم بالنرجسية، يتابع مسار حياته ونجاحاته بشكل طبيعي، بينما الضحية عالقة في سرادق ضخم تنعى فيه النرجسية.

كيف ترى مساهمة «أحببت وغدًا» في شيطنة النرجسي وخلق أبعاد لدور الضحية؟ خاصةً وأنك من أوائل الذين كتبوا عن اضطراب النرجسية خارج كتب الطب النفسي.

أعتقد أني في «أحببت وغدًا» تحيّزت ضد النرجسي، ولذلك لو أعدت كتابته الآن لن أكتبه بنفس الطريقة، سأحاول بشكل أكبر عدم تقسيم الأدوار إلى جانٍ وضحية، لأن أي شخص دخل في علاقة نرجسية هو مُشارِك في ذلك الأذى الواقع عليه بشكل ما، ولأن جزءًا طبيعيًا من الإنكار الإنساني هو إلقاء اللوم على الآخر، فأول ما يطرأ لهذا الشخص فكرة أنه في علاقة سامة، وكأنه مُنح طوقًا للنجاة من مواجهة مسئوليته عن العلاقة.

إذن ما التصرف الصحيح عندما أدرك أنني في علاقة مؤذية من أي نوع؟

الحل هو أن تنظر داخل نفسك، تبحث عن السبب الذي جذب إليك هذا الأذى، تبدأ في تعافيك وتضبط حدودك، فالحدود الواضحة حائط صد يُظهِر الوجه الحقيقي لأي شخص. توقف عن قبول استغلاله لك وانسحاقك أمامه، حينها فقط؛ إمّا أن يستطيع الشخص السوي التكيّف مع حدودك الجديدة مع الوقت، أو سيرحل النرجسي باحثًا عن فريسة جديدة.

ماذا عن محاولة إصلاح العلاقة أو الشريك؟

إصلاح العلاقة نعم، ولكن ليس إصلاح النرجسي/المؤذي، لأن هذا ما يحاول أغلب شركاء النرجسيين فعله، خاصةً إذا دخلت العلاقة مرحلة الحب العميق، حينها قد يرى الشخص حقيقة النرجسي ويُفضّل الاستمرار محاولًا إصلاحه، لكن في العلاقات أنت لا تملك سوى تغيير نفسك واستجاباتك، وعن طريق تغييرك قد يتغيّر الطرف الآخر أو ينسحب.

هل معنى هذا أن النرجسي لا يتغيّر أو لا توجد طريقة لإصلاحه؟

هناك سبل كثيرة لعلاج النرجسية كأي اضطراب نفسي، لكن الإشكالية في عدم رؤية النرجسي لمشكلته من الأساس، وهي سمة تتكرر في أغلب الاضطرابات النفسية، فيما يُعرف بـ «عَمَهُ أو إنكار العاهة» أي العجز عن إدراك الذات.

الخروج من علاقة مؤذية أمر منهك جدًا نفسيًا، يترك نظرة متشائمة لدى الشخص تجاه كل العلاقات: كيف نتجاوز هذه الحالة؟

عن طريق المرور بكل مراحل التعافي: الإنكار، ثم الغضب، ثم اليأس، ثم الاكتئاب، وأخيرًا القبول. فوجود ذلك الشكل الصحي من الألم والتعامل معه قد يكون سببًا كبيرًا في نجاح العلاقة الجديدة، لأنه يخلق لدينا نوعًا من الحذر الصحي المطلوب في بداية العلاقات، لكن المشكلة أن الحذر المفرط يجعلك أكثر قابلية للسقوط في علاقة نرجسية، وهو أمر مُستغرَب لكنه حقيقي، فالنرجسي ينجذب للرفض الشديد أكثر من العلاقات السهلة، وكلما زادت درجة التحدي لمعت العلاقة في عينيه، فيبحث عن أكثر منطقة هشة في أسوار الرفض ويتسلل من خلالها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.