حتى وإن كنتَ عالقًا في براثنِ التعب، ثمة مخرجٌ لا محالة. هدئ من سرعتك قليلًا، أو توقف لمدةٍ لا تتجاوز الخمس ثوانٍ بتوقيت الألمِ. ولكن، إياك أن تزوّد المدة بأخرى أطول منها، فضلًا عن أن تعود أدراجك. فإن أنت عدت، قابلك التعبُ ذاتُه الذي نخر بصدرك طيلة ماضيك الخالي، وإن أنت عافرت في الطريق نصب عينيك، ستنكفئُ على وجهك لينغرسَ بين فكّي تعب أشد. لا تقلق إن تفاقم وجعُك حينها. فقط، أكمل مسيرك ولو حبوًا.. وأعدك أن كل شيء سيكون على أسوأ ما يُرام. ألم تسمع قولَ إقبال: «والليلُ ولّى لن يعودَ، وجاء دورُك يا صباح»؟، سمعتهُ؟، حسنٌ.. أقولُ لكَ: قد نسيَ أن يُنوِّهَ إلى أنهُ صباحٌ أكثرُ عُتمةً من مسائِه.


(1)

قررتُ في بداية عهدي بالجامعة أن أُهدي أمي زوجًا من الكناري، فقد صوّر لي عقلي الأهطلُ أنّ وجودَ عصفورين يُزقزقان صباحَ مساءٍ بأذنيْ أمي سوفَ يملأُ فراغَ المنزل الذي تركناهُ خلفنا -أنا وإخوتي- إثر رحيلنا عنه بسبب زواج بعضنا، أو طلب «الجهل» المرصعة به جامعات مِصرنا «الهبيب» من البعضِ الآخر، وأنا من ضمن الأخير.

كعادةِ أمهاتنا المصريات الحنونات، استقبلتني أمي بحفاوةٍ.. لن أنكر أنها اختلطت قليلًا بوابلٍ من التهزيق: «مش كنتي جيبتيلنا جوز حمام أفيد يا غبية»! بالمناسبة.. «غبية» هو اسمي الثاني الذي اختارت أمي أن تنعتني به في وقت رضاها قبل سخطها. لم تقتنع قط -رُغم محاولاتي المستميتة- بأن ثمةَ فائدة أخرى للطيورِ سوى «الأكل»! ولم تجد في تردد صدى زنّ العُصفورَين بجدرانِ المنزل بالروحةِ والجيئةِ سوى وجع الرأسِ. ولأنها لم تأنسْ أبدًا بوجودِهما، فهي بطبيعةِ الحالِ لم ترَ في نفسِها قابليةَ تولِّ مسؤوليةِ رعايتهما من طعامٍ وشرابٍ ونظافة. فمن الذي تتطوعَ لهذهِ المَهمة؟ بالطبعِ أنا.

أعترف بأنّ سبب تطوعي رُغم تململي لم يكن لإشفاقي على هذا الزوج المسكين الذي دفعتهُ الأقدار تحتَ سقفِ منزلنا الخبِل، بل كي لا تستشعرُ أمي ندمي وتكاسلي فتتشفَّى بي، أو تردد على مَسمعي تلك الكلمة المستفزة: «مش قلتلك!». ظل الوضع على هذا النحو حتى أقدم علينا عيالُ أخَواتي. في اللحظةِ التي هجموا فيها علينا بالتحديد أدركتُ أكثرَ مقدارَ حماقتي عندما قررتُ أن آتي بعصفورَين غلبانَين لتسلية أمي، فهل هناكَ تسلية، بل سيرك قوميّ، أفضل من عيال أخواتي؟ يا للغباوة! للحقِ، كان احتفاءُ العيالِ بزوجِ الكناري هو أكثرُ احتفاءٍ لاقَ بهما منذُ أن وطِئا باب المنزل متَقهقِرَين. كل ما فعلوهُ بهما كانَ جميلًا رقيقًا كرقتهم، وبمشاعرَ خالصةٍ. فلولا أنهم -بضحِكٍ هيستيريّ- راحوا يقذفون القفصَ لبعضهم البعض كما يفعلوا بالكرة في لعبةِ «الكلب الحيران»، لماتَ العُصفوران من فرطِ المللِ وشُحِّ روحِ المخاطرة من حياتهما. تذكرتُ وأنا أتابعُ هذا المشهد في ذهولٍ ما حكتهُ صديقةُ إحدى أخواتي من أن أطفال حيّها «الأبرياء» يصطادون القطط الضالة ليرفعوها بأيديهم من أحدِ ساقيها، ويُديروها حول نفسها بمعدل عشر دوراتٍ في الثانية الواحدةِ، حتى إذا ما اطمأنوا إلى أنها اكتسبت السرعة اللازمة لقوةِ الدفعِ المطلوبة أفلتوها كما يفلتُ «هيرقليز» الحبلَ ليوصلهُ إلى أعلى بقعةٍ في السماء! لماذا يفعلون ذلك؟! في رأيي لا يوجد سبب يعوّل عليه سوى أن الطبيعة البشرية تميل غالبًا إلى الجبروت، حتى وإن كان شعور التجبر هذا نحو قِط لا حول له ولا قوة.

وسط حفل الاستقبال هذا، فتحَ العيالُ باب القفص -من باب الفضول- ففوجئوا بأنّ أحدهما اندفعَ خارجًا، حاولوا الإمساك بهِ ولكنهُ طارَ سريعًا من النافذة، ليستقبلَ العيالُ مني موجةً من الغضبِ. استطاع العصفورُ الثاني بعد يومين، بمعيّةٍ إلهيةٍ، أن يفتحَ باب القفص وحدَهُ.. -إي والله وحدَهُ-، «وينفد بجلده».


كنتُ قبل بضعةِ أعوامٍ أصغرَ مني الآن ببضعةِ عقودٍ. لا تفرقُ السنونَ في عمرِ أحدهم بقدر ما تفعلهُ النوازلُ. أتعلم؟ حسنٌ أنكَ لستَ هنا. ولكن ما ليس حسنًا هو أنني ما عدتُ هنا. وكأنني أهوى ملازمةَ المنغِّصاتِ، أولها أنت. أتدريْ ما هو الإدمان؟ إنّ الإدمانَ هو إيمان العقل بأن لا شيء سيصيبهُ بسعادةٍ ونشوةٍ سوى هذا الذي هو مدمنهُ، حتى وإن أصابتهُ كآبةٌ إثر ارتكابه. وفي اللحظة التي يبتعدُ فيها هذا الشيء، تظهرُ على مُدمنهِ أعراضَ انسحابٍ يترجمها العقلُ على أنها غمٌ ووجدٌ. تراني أدمنتكَ؟! سيمرُ زمنٌ طويلٌ وأنا أحاولُ فكَ طلاسمَ ما يربطني بكَ وتأويلَه، ولن أصلَ إلى تفسيرٍ يهدهدُ تحيّري. ما الفارقُ الذي سيحدث بمعرفتي؟! لا أعلم.. ولكنني على يقينٍ من أن كل ما بيننا هو الشيء وضده، ومن أنهُ لطالما أصابتني كآبةُ ارتكابِك.


(2)

كانَ السبب الرئيس لفعلتي «المهببة» هذه -شراء زوج الكناري-، هو محاولة فاشلة مني لتكفير ذنبٍ قديمٍ جدًا تجاه الكتاكيت التي اعتدتُ أنا وإخوتي شراءَها بقصدِ رعايتها حتى تكبُرَ وتصيرَ دجاجًا، فنقتلهُ لنأكلَهُ. في الحقيقة، لم يحدثْ أن صمدَ كتكوتٌ معنا لأكثر من يومين. اشترينا في شتاء قارص مجموعةً من الكتاكيت المسكينة التي من المؤكد أن دعت عليهن أمهاتهن الدجاج، جن علينا ليل شديد البرودة وأخذ ريش أحد الكتاكيت يرتجفُ بردًا. فكرت أختي الكبرى في طريقة يستدفئُ بها، فما وجدت إلا أن تلُفَّه في قفّازٍ لها من الصوفِ وتأخذه لينام معها في فراشها! لسببٍ مبهمٍ لا أستطيعُ تفسيرهُ إلا على أنهُ تدبيرُ الأقدار، رحتُ أثوي جوار أختي هذهِ الليلة! هل أقدمتُ على فعلٍ حرامٍ لا سمحَ اللهُ؟! استيقظتُ صباحًا على وجه أختي مبتسرًا، كانت تبحث عن الكتكوت الذي استيقظَت لتجده مفقودًا من القفاز! هل هناك قلة أدب أكثر من هذه؟! كيف له أن يتزحزح عن مكانه دون استئذان؟! كانَ وجهها ملؤهُ فزعُ أمٍ أضاعتْ صغيرها! لطالما كانت رِدة فعل أختي مبالَغًا بها. بمجرد أن تزحزحتُ عن مسقط نومي، أطلقَت أختي صرخةً دوَت بالمنزل، بل بالبنايةِ.. بل بالحي بأكمله! ماذا حدث يا ترى؟ أبدًا.. كان الكتكوت مفعوصًا تحتي بس! ربما اشتدّ عليه البردُ فقرر أن يقضي ليلتهُ تحت جناحي، لم يحدث له أي شيء مطلقًا.. غيرَ أنهُ ماتَ مدهوسًا بي.

راحت أختي تزعق بي قائلةً: انتي غبية؟

– نعم.. تناديني أمي بهذا الاسم

– ده ماااااات.. ماااااات.

رُغم أنني وجدتُ انفعالَ أختي الزائد لا مبرر قويّ لهُ، إلا أنني لم أحتمل فكرة أنني قد قتلت الكتكوت، شعور مؤلم جدًا أن تقتل أحدهم وأنت نائم. رحت أبكي بحرقة وألم حقيقيّين، وبت أتساءل عن كفارة قتل كتكوت بالخطأ؟ هل أعتق رقبة دجاجة عن الذبحِ، مع دفعِ ديةِ صاعين من الذرةِ مثلًا لأهلِ الكتكوت؟ أم هل أصوم شهرين متتابعين عن أكل الدجاج؟! لم أسامح نفسي على هذه الجريمة حتى وقت قريب جدًا. كان هذا بعد أكثر من عشرةِ أعوام من وخزِ الضمير كلما مر الحادث على مُخيّلتي. فكرت ثانية في التفاصيلِ، فاستوقفني خاطرٌ مهمٌ جدًا.. ما هذا الغباء؟ أليسَ هذا هو خطأ أختي من الأساس؟ هل يوجد عاقل يلف كتكوتًا في قفازٍ ويرقده بجواره في الفراش طَوالَ الليلِ؟! توصلت أخيرًا إلى أن أختي هي من قتَل الكتكوتَ، وألصقت التهمة عليّ.


يقولونَ أنّ مثلَ هذا داءٌ دواؤهُ الوحيدُ هو الزمن، لم يتطرق حديثهم إلى أولئكَ الذين توقفَ زمنهم عندَ لحظةٍ بعينها، لحظةٌ يسيّرها رأسُ الداءِ وسرُ الدواءِ. رأسٌ كمثلِ الغصةِ التي يتبعُها بحرٌ هائجٌ من الدموعِ إثرَ الوجعِ منهُ! وسرٌ كبسمةِ طفلٍ في وجهٍ بائسٍ أجبرَتهُ على أن يترك العنان لأساريرِه كيْ تنفرجَ. فإن كنتَ سببَ كبَدي، فسبيلُ مسرّتي أنت. لطالما خلّفتَ في قلبي مشاعرَ متناقضةً تمامًا، أظنها تتشبهُ بتناقضِكَ وتتخذهُ مثلًا، ربما هو في هذه الحال ليس بالأعلى، بل أكثر دمامةً من جميعِ مستوياتِ تخيّلاتي، وربما هو أعظمُ من أن يطلهُ قلبيَ المهترئ.


(3)

كانت السنة الأولى – والأخيرة- لي بالسجنِ الذي كل من فيهِ أبرياء. لا.. لستُ أتحدثُ عن معتقلاتِ مصرَ- لا تذهب عقولكم لقريبٍ-، بل أتحدثُ عن المدينةِ الجامعية الخاصةِ بطالبات الأزهر بمدينةِ نصر الكئيبةِ، بمحافظة القاهرةِ الكئيبة. المدينة الجامعية حيثُ القيودُ التي تطوّقُ حولَ الرُوحِ ضجرًا واختناقًا. كانَ أكثر ما يثيرُ حفيظتي هو دقةُ الساعة منذرةً بالثامنةِ مساءً، لا أجدُ دافعًا لإنزالِ عقوبةِ “التمام” علينا لمجردِ أنَّهُ لِزامٌ على عقرب الساعةِ الأصغرِ أن يُناغشَ الرقمَ “8”كل ليلةٍ. كانت ليلةً قارصةَ البرودةِ تصادفُ ليلةَ امتحان الشعر الإنجليزيّ الباردِ، من السنةِ الأولى بكليتي الباردةِ. أثناء تصنعي لتذوقِ هذا الغث، انفتحتْ فجأةً صنابيرُ السماءِ، وأخذ المطرُ ينزلُ شلالًا مجنونًا يرتطمُ بقوةٍ على سورِ شرفةِ الغرفةِ محدثًا رنينًا لهُ من الوقعِ في حنايا القلبِ ما لهْ. إن كانَ ثمةَ صوتٌ يُطرِبُ الآذانَ، ويأسرُ القلوبَ، وتخضعُ لهُ الأرواحُ ليجرجرَها من وحلٍ موكوسٍ إلى مرتَعٍ جذِلٍ.. فهو صوت المطرِ. من لعنادل الدنيا من أنغامِ المطر؟. حاولتُ أن ألامسَ زخاتهِ من بين أسوار الشرفةِ دون جدوى. هل أستسلم؟ لم أعتد ذلك. دون تفكير في الأمرِ، تلقفتُ سكينًا رفيعًا وهرولتُ نحو سطح المبنى، تناولتُ قفلَ السطح – الممنوع الاقتراب منه أو التصوير- وأدخلتُ السكينَ بمحل مفتاحِه ورحتُ أحاولُ فتحه، حتى انفتحَ ببساطة، هذه هي المرة الأولى التي “أطفش” بها أقفال، ولكنني احترفتُ المهنةَ بعد ذلك وأصبح الفتيات يلجأن إليّ كلما “زرجن” مع إحداهن قفلُ خزانتها.”


وحلُمت بكْ.. ودماغي تصخبُه بهَول همهماتُ الذكرياتْ..

وغبار طيفك عاصفٌ.. لكأنهُ.. إعصارُ يبتلع الفيافي والشجرْ!

لا شيء يزْعق في مداه فيرتدعْ.. وكذا البكاء أو الملالُ.. أو أحاديث السمرْ

وبدا فؤادي نابضًا بضريحهِ.. بالإيحاءاتْ..

وتجادلَ الأحزابُ في لقبٍ لهُ.. حتى اهتدَوا.. نصبوا على أسوارِهِ.. «حيٌّ على قيد المماتْ»!

فذهبت أرفع شكوتي.. -كما نُصِحتُ- إلى القمرْ..

«الغوثُ من هاتيك رِيحٍ يا قمرْ».. فلم يُجبْ..

«الغوثُ من هاتيك ريحٍ يا قمرْ».. ولم يجبْ.. ولم أَقرْ..

«الغوثُ من هاتيك ريحٍ يا قمرْ».. حتى ابتدرْ..

وأجابني متململًا: «أقصر وآت بالخبرْ»

قلتُ: الهوى.. جذب (الأنينَ) وقال: (شهدٌ) لا يجيْ من علقمِ..

خذهُ إلى مِيَر الوداد لينتثرْ..

فنثرته، فتعطَّشَت، فأزدتُها، حتى اغتمرْ..

وأغرَّ بي.. وغدا يمورُ بأضلعيْ ويقول: هيا فالتقمْ.. لا تبتسرْ..

فقضمتُها.. لتؤجَني نارٌ ترى بنزيفِ قلبي مُوْريًا كي تستعرْ.

فقضى القمرْ:

هاتيك أعراضُ الهُيامِ ولن يمرَّ من الزمان كثيرُه وستنحسرْ”.. لم تنحسرْ..

فخشيتُ من إِلَب الجوى تجتث قلبي بعد أن خارت قواهُ.. فأنكسرْ..

والقلبُ -إن قلتُ الحقيقة- ليس إلا كوْمة حيرى في تعاريجِ انكسارْ!

فبدأتُ أنفُض عن بساط خواطري بعض الغبارْ..

وبدوت في عين الجموع كأنني.. ألقي بأوراق الأماني الغارمةْ..

بإحدى ألعابِ القمارْ!

ويقول: أنى تنتصرْ!


(4)

أدورُ الآنَ على قدمي بين أكناف السطح والمطر يتهاطلُ نديًّا فوق رأسي، كمن مُنعَ من الأكسجينِ زمنًا وداهمته فجأةً نسماتٌ ما أنزلَ اللهُ بها إلا سلطانًا. كمَن مضى دهره بينَ جدرانٍ ثلاثٍ وبابٍ موصدٍ مصلوبٍ برابعِهم، حتى إذا ما يئسَ من فكِ عِقَالِ البابِ تفلّجَت الحوائطُ، ففرّ منها. منذ هذه الآونة أصبحَ “تطفيشي” لقفل باب السطح أمرًا مألوفًا لدى الجميع، ورويدًا رويدًا بدأ الفتيات في التسلل إلى السطح كلما تفضلتُ عليهنّ بفتحه. حتى إذا فوجئتُ يومًا باستبدال إدارة المبنى لقفل الباب بآخر ضخم جدًا، من هذا النوع الذي يوضع على البوابات الكبيرة. مثل هذا لن ينفتح بسكين أبدًا. هل استسلمت هذهِ المرة؟ بالطبعِ لا. تنبهت إلى المسامير التي تسند القفل بالباب، فقررت فكها، أخذت ألفها بالسكين حتى انفكّ بسهولة كبيرةٍ ففتحتُ البابَ ودخلتُ. إن علِمت الإدارة بطريقة دخولي السطح هذه الكرّة ستصاب بالجلطة بكل تأكيد. وقد علِمتْ.

كان ذلك عندما وقع حادث تسمم طلاب مدينة البنين واهتزت مدينة نصر بهتافات من بقي سليمًا من الطلاب. أخذ لعاب الفتيات يسيل من بين شفاههن لرؤية منظر الشباب المصطف أسفل البناية، ويكأنه يقف ها هنا ليتغزل بهن! ولأن المرأة نصف المجتمع، وتُشِل النصف الآخر، كان لا بد لفتيات مبناي من أن يدعمن الطلبة المتظاهرين دون أن يُسألنَ أبدًا ذلك، أو حتى يفهمن سبب التظاهرات، راحت كل واحدة منهن تستعرض ما وهبها الله من قوة حنجرة، أو رقة صوت يبحث عن آذان الشبان الذين يقدرون الجمال المخفيّ في زمن القبح! كان مشهدًا هابطًا جدًا، لم أدر بوقوعه إلا بعد أن خرِبت مالطة وما يجاورُها. فقد صُوّر المشهد أثناء معاودتي إلى الغرفة لإعداد كوبًا من الشاي حتى أجلسَ بهدوء في السطح بعيدًا عن ثرثرة الفتيات، لم أدر أن الفتيات كلهن قد سبقنني وأعددن لي حفلًا. كشفَت مشرفاتُ المبنى أمرَ السطحِ بسبب أصواتهنّ التي طغت على أصواتِ الشباب أصلًا، حينها، لم أرَ أيًّا منهِنّ مثلما اعتدنَ الالتفافَ حوليْ.. ليسَ هذا فقطْ، بل شهد جميعهُنّ عليّ وأقررْنَ بأنني رأس الأفعى التي دفعتهنَّ إلى هذهِ الرذيلة. انتهى الأمر بشكوى من المشرفة ضدي، ادّعَت فيها أنني سببتُها. مممم.. للحقِّ، قد سببتها بالفعل بعد اطّلاعي على نص الشكوى، وسببَتُ زميلاتي بالمبنى وسببتُ جنسَ الإناث أجمعَ.


وما الجدوى من وجودكَ الأبديّ في أحلامي إن كانت الأحلامُ لا تتجاوزُ حيّزَ الأحلامِ إلى حدِّ الوقوعِ المحتومِ؟! وما معنى حلم يخلو منكْ؟ ما زلتَ تسقيني صبابةً رُغمَ سقيكَ إيّايَ آنفًا كؤوسًا من جوى. وما زلتُ عطشَى لدِلاءِكَ بما فيها من علقمِ. وإن عينيكَ، كراملتيكَ، تتأبطان أثرًا يتسللُ إلى النفس خلسةً فيتمكنُ. وإن ثمّةَ رغبة عارمة بالنفسِ أيضًا لأن يستبدَ بها أثرُ كراملتيك! فقل لي بربك: من منا يألفُ محاربةَ جيشينِ أولهما أعظم سيادةً من الأولِ، وثانيهما أشد قوةً من الثاني؟!


(5)

كنت مستقلة حافلة في إحدى شوارع القاهرة، عندما لمحت أحدهم يعبر الطريق ممسكًا بيده قفصًا يسجن زوجًا من العصافير. لم يرق لي المنظر. تذكرتُ عندها زوج الكناري الذي أضاعه عيال أخواتي قبل أعوام قلائل من هذا اليوم، مار بعقلي خاطر لم أكن منتبهةً إليه حينها، فتبسمت وشكرتهم بيني وبين نفسي وأسِفتُ على موجة غضبي السالفة. لطالما آمنت أن أكثر العقوبات وحشيّة ولا آدمية هي السجن، ولذلك فإنه لا أدب يثيرُ شجني كما يفعل أدبُ السجون.

لا جريمة في هذا العالم تستأهل إلى أن يكون عقابُها هو سلب حرية أحدهم وحبسه بين جدران أربع إلى أن يشاء الله. ولا يوجد حدٌّ في الإسلام بالسَجن، مهما وصلت إليه شناعة الخطيئة -كقتل نفسٍ بغير حقٍ مثلًا-، ولم يذكرْ الأثرُ عقوبةً بالسجن في الخلافة الإسلامية الحقّة، سوى عن طريق التعزيز. السجن يعني أن يكون صاحبك العجز، أن تتجردَ من حريةِ الفعلِ، ويفوتكَ شرفُ جلبِ حسنهُ ودرءِ قبيحهُ. هو عقاب وعذاب نفسيّ مزمن، ولا خطأ توقعُه النفسُ إلا عليها. وحدود الله عقاب جسديّ مؤقّت نتيجة خطأ جوارح بحق الغير في أغلبِها. الحريةُ هي ببساطة مفهوم كونك إنسانًا، وطريق موصِّل بالضرورة إلى الله.

يقول كارل جاسبرز: «عندما يكونُ الإنسان واعيًا بحريتهِ وعيًا حقيقيًا، فإنه في الوقت نفسه يصبح مقتنعًا بوجود الله. فالله والحرية لا ينفصلان… فإذا كان الوعي بالحرية ينطوي على وعيٍ باللهِ، فيتبع ذلك أنه يوجد علاقة بين إنكار الحرية وإنكار الله».


ولأنني باحثة عن الحرية، فحكمي على حبِّك بأنه قيد أستجدي منه حرية الابتعاد هنيهة ثم يدفعُني بقوة إليك مجددًا. قيدُك يوجد بُد منهُ.. سألملمُ أشلائيَ المنتثرة عندَهُ وأفرُّ. يُقالُ إنّ من يفهم الدنيا فهوَ زاهدٌ بها بالضرورةِ، ومن هنا، فأنا تأملتُ دنياي فوجدتها محفوفةً بك، تتخلَّلها أنتَ، وتسوّرها من كل أوْبٍ وصوبٍ. فلذلكَ، إنني مرغمةٌ على الزهد بكَ غير راغمة.

سأبيتُ إذًا كمن وُلد من جديدٍ. وإنّ ضربَ هذا المثلِ لا منطقيّ ألبتة، وعصيٌّ على الفَهمِ أيضًا؛ لأنّ أحدًا لا يُولدُ مرتين، فضلًا عن أنهُ أحدٌ لا يعرفُ شعورَ طفلٍ قد وُلِدَ لتوّهِ. ولكنْ، هكذا يكونُ وقعُ عمليةِ انكشافِ الغمومِ عن البشرِ عليهم، العمليةُ الأكثر صعوبةً على الاستيعابِ، إلى الحدِ الذي يصلُ إلى عدم التصديقِ وتشبيهِ الأمر بالمستحيلات ستقولُ إنّ المستحيلاتِ أحيانًا ممكنةٌ، حسنٌ.. فقد جانبكَ الخطأُ. فقد كنتُ أعتقدُ أنكَ مستحيلٌ، وأصبحتَ على قدَرٍ ممكنًا. فاعتقدتُ أن توقفَ إمكانك مستحيلٌ، فأصبحَ واقعًا. واعتقدتُ أن استيعابي لهذا الواقعِ لن يمسَّ قلبي أبدًا، فمسَّهُ وأصبحَ خاويًا منكَ، أو.. هكذا الظنونُ.

ثمةَ صرختان مصيريّتان بحياةِ كلٍّ منا، صرخةٌ متمردةٌ يطلقها بوجهِ الدنيا المتجبرةِ فورَ نزوله من رحم أمه، وأخرى بنهايةِ عمرهِ مستسلمةً لعدلِ الآخرةِ وإن حفّهُ العذابُ. أشعرُ الآنَ بشيءٍ أجزمُ بأنّهُ عكسُ شعورِ هذا المولود، أهو استسلامٌ إذًا؟! لا أعلم. إنَّ آخرَ ما تبقى من رُوحي عالقٌ بجبلٍ بركانيٍّ ثائرٍ، قررتُ أن أخلعَ فؤادي من صدري وأدفعَهُ نحوَ الجبلِ ليحترقَ معَ رُوحي، ولكنّ الجبلَ انطفأَ فورَ إصابة فؤاديْ لهُ.