في المقال الأول عن الدولة العربية الحديثة في مئويتها تناولنا بشكل موجز طبيعة المجتمعات السياسية العربية ما قبل ميلاد الدولة الحديثة، ورأينا كيف كانت هذه المجتمعات – عكس ما هو سائد – تمثل خليطًا غير متجانس من حيث نمط المؤسسية ومنطقها ومشروعيتها ومدى حداثتها؛ ومن ثم كانت مسارات التحديث التي قطعتها هذه المجتمعات السياسية العربية متباينة من حيث وجهتها ومعدلها.

إلا أنه بشيء من الإيجاز يمكن أن نتحدث عن سياقين أساسيين لميلاد الدولة العربية الحديثة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى: فشل مشاريع الإصلاح بالدولة العثمانية انتهاءً بسقوط السلطنة ذاتها، والاستعمار بأشكاله ومستوياته المتباينة. وفي الحقيقة كلا السياقين كانا يحملان معهما مشروعًا تحديثيًّا مأزومًا، (حيث مفهوم التحديث وما يرتبط به من رؤى سياسية واقتصادية وحضارية هو مفهوم شديد الالتباس) ومزعومًا، (حيث دوافع ونوايا الأطراف المتبنية لهذا المشروع ومدى جديتها فيه محل شك وتساؤل).

فأولًا بخصوص الدولة العثمانية – والتي هيمنت على إقليم الشرق الأوسط تمامًا منذ القرن السادس عشر، وامتدت رقعتها لتشمل كافة دوله باستثناء إيران والمغرب وعمان ووسط الجزيرة العربية – بدأت تتعرض لأزمات حقيقية منذ أواخر القرن السابع عشر. هذه الأزمات كانت تتمثل في مظهرين أساسيين: سلسة الهزائم العسكرية والأزمات الاقتصادية والتي نتجت عن التفوق الأوروبي المتزايد بفضل التطور التقني والثورة الصناعية، وتطور نظم الإدارة والحكم كذلك؛ لتخسر الدولة العثمانية بعدها الكثير من رقعتها لصالح القوى الاستعمارية.

المظهر الثاني، بالإضافة إلى التحديات الخارجية، هو التحديات الداخلية المتمثلة في النزعة الانفصالية المتنامية في الولايات العثمانية، حيث بدأ الحكام المحليون في استغلال ضعف السلطة المركزية للاستقلال بالسلطة. ومع النصف الثاني من القرن الثامن عشر، اتسعت هذه الظاهرة لينشأ عنها حكم أسرة محمد علي بمصر – والتي هددت بقاء الدولة العثمانية ذاته في مرحلة من مراحل الصراع -، وحكم البايات بتونس، والأسر القبلية على الشاطئ الشرقي للجزيرة العربية في الكويت و البحرين وقطر وأبو ظبي، بالإضافة إلى انتشار الدعوة الوهابية بالجزيرة العربية.

نتيجة هذه التهديدات المتضافرة، نشأ تياران للإصلاح داخل الدولة العثمانية: تيارٌ خلص إلى أن الإصلاح يتمثل في التحديث على النمط الأوروبي في مؤسسات الإدارة والحكم وفي التقنيات العسكرية والحربية، وتيارٌ آخر رأى أن المشكلة تكمن في تراجع الإيمان، وبالتالي يكون سبيل الإصلاح هو الإحياء الديني والعودة إلى صحيح الإسلام.

ومنذ أوائل القرن التاسع عشر بدأت المدرسة التحديثية التغريبية في الهيمنة برؤيتها الإصلاحية، وبعد مقاومة من علماء الدين والفرق العسكرية التقليدية بدأ عصر الإصلاحات المعروف بالتنظيمات (1839 – 1876) والتي تضمنت تحديث المؤسسة العسكرية ونظام التقاضي والضرائب ونظام التعليم، بالإضافة إلى التحديثات السياسية مثل إقرار الدستور وإنشاء البرلمان.

غير أن هذه الإصلاحات كلها أثبتت أنها ربما متأخرة، أو غير كافية، أو ربما كانت في الاتجاه الخاطئ؛ فلم تسهم في تحسين الأوضاع بالدولة العثمانية إن لم تزدها سوءًا. وفي الختام تم التراجع عن بعض من هذه الإصلاحات خلال حكم السلطان عبد الحميد الثاني؛ مما عجل بردة فعل عنيفة للتيار التحديثي القومي المتمثل في جمعية الاتحاد والترقي والتي تبنت القومية التورانية التركية، وتنكرت للرابطة الإسلامية والتي كانت الأساس الشرعي للخلافة العثمانية، وقد أطاحت هذه الجمعية بالسلطان عبد الحميد عام 1908م وحولت نظام الحكم داخل السلطنة من اللامركزية إلى نظام شديد المركزية، مع الأخذ بنظام التتريك في كافة الولايات التي كانت تحت الحكم العثماني.

ومن المؤسف حقًا أن مثل هذه الجدلية – بين التحديث التغريبي من جهة والإحياء الأصولي من جهة أخرى، وما بينهما من محاولات الإصلاح التوفيقي (وأحيانًا التلفيقي) بين الرؤيتين – ما زالت بعد مئة عام موضع استقطابات وصراعات في بيئتنا السياسية والفكرية، وصارت الاتهامات المتبادلة بالتخوين والعمالة من جهة والتخلف والجمود من جهة أخرى والتمييع وغياب الرؤية المتماسكة من جهة ثالثة هي اللغة المهيمنة بين هذه الأطراف الثلاثة.

وقد زاد من حدة النزاع حول سؤال التخلف الحضاري وسؤال التحديث داخل المجتمعات السياسية العربية العامل الثاني شديد الأهمية وبالغ التأثير في سياق ميلاد الدولة العربية الحديثة وهو الاستعمار، وهو العامل الذي سنتناوله بشيء من الإيجاز في المقال القادم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.