هناك قاعدة درامية بسيطة تقتضي بأن بطل الرواية المثالي لا يمكن أن يتحول إلى شرير فجأة دون سابق إنذار، لا بد من وجود حبكة ما تحول هذا الرجل الوديع إلى وغد. حتى الشرير في القصة لا بد من تناول بُعد ما في شخصيته يفهم المُتلقي لماذا يبدو بكل هذا الشر.

مايكل كورليوني في ثلاثية العراب يبدو مثالًا جيدًا هنا، شخص مسالم ينتمي لعائلة إجرامية يتحول إلى أب روحي يقتل أخيه ليحافظ على العائلة. هذا التحول جاء نتيجة وضع مايكل في عدد من الحبكات الدرامية المتتالية أنتجت لنا شخصية العراب.

تلك الحبكة التي فُقدَت تمامًا أثناء تناول حياة الحارس الأرجنتيني«إيميليانو مارتينيز» خلال الأسبوع الماضي استطاع ديبو كما يلقب أن يظهر بشكل مؤثر للغاية في فوز الأرجنتين بكأس العالم، هذا اللقب الذي صاحبه الكثير من المشاعر والدراما بسبب قصة ميسي مع الكأس المعروفة للجميع.

رأى الكثيرين في إيميليانو بطل القصة المثالي الذي أرسله القدر ليسعد شعب الأرجنتين ويشير نحو ميسي بأنه المختار. لكن وبعد أسبوع فقط من يوم التتويج تحول البطل إلى وغد يتهمه الجميع بأنه أحمق عديم الشعور بخاصة بعد احتفاله بشكل يتضمن إيحاء جنسيًا بجائزة أفضل حارس في البطولة ثم ظهوره في أكثر من مشهد ساخرًا من مبابي نجم فرنسا.

هكذا تفاجأ الجميع أن مارتينيز وغدًا تمامًا وليس بطلًا، دون مقدمات أو توضيح، دون حتى تقديم حبكة درامية ولو هزيلة لهذا التغير المفاجئ. دعنا نفكك المشهد بأكمله لنصل لتلك الحبكة المنقوصة، لماذا أصبح إيمليانو بطلًا وكيف تحول وغدًا.

السيناريو الأول: قصة ملهمة للبطل المثالي

في الحقيقة لم يكن مارتينيز مجرد حارس جيد لفريق بطل بل كان للرجل دور فيصلي في الفوز بالبطولة. يمكننا البدء من التصدي المهم قبل نهاية مباراة ثمن النهائي أمام أستراليا، ثم جذب الأنظار في مشهد ركلات الترجيح ضد هولندا في ربع النهائي.

قدم الأرجنتيني في المباراة النهائية اللقطة الأهم في مسيرته بتصدي إعجازي قبل دقائق من النهاية ثم لعب دور البطولة المطلقة حيث تصدى لركلتي ترجيح مكنت الأرجنتين من الفوز باللقب.

هذا الإنجاز كان كفيلًا لجمهور الكرة أن يضع مارتينيز في مصاف الأبطال بخاصة أن الرجل يملك المزيج المثالي للبطل، المعاناة والتمسك بهامش الفرصة الضئيل ثم الوقوف على القمة، ناهيك بدموع غزيرة أثناء الاحتفال.

أتذكر أول ظهور لي في دوري أبطال أوروبا أمام أندرلخت، اضطر والدي للطيران لمدة 27 ساعة للوصول إلى ملعب المباراة، كان يبكي طوال 95 دقيقة. ما زلت أتذكر اليوم الذي كنت أتناول الطعام رفقة أخي دون أبي وأمي لأن الطعام لن يكفي الجميع. أعرف جيدًا ما مروا به من أجلي.
إيميليانو مارتينيز

نحن الآن رفقة بطل مثالي من أسرة فقيرة انتظر عشرة سنوات بديلًا مع أرسنال ثم تمسك بالفرصة ليصبح الحارس الأول للفيلانز فيما بعد والأهم أنه سد فراغ عانى منه سنوات منتخب الأرجنتين ليلعب دورًا مؤثرًا في الفوز بالكوبا وصولًا لمشهد بطل كأس العالم.

شكل تكوين البطل بالطريقة الملهمة تلك هي التي تجعلنا في صدمة من تحوله إلى وغد لذا دعنا الآن نحاول أن نقص قصة إيميليانو البطل من زاوية أخرى تمامًا.

السيناريو الثاني: الوجه الآخر للبطل

كنت دائمًا شخصًا قويًا، لكني أعمل مع طبيب نفسي وقد غيرني ذلك كثيرًا. نتحدث مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع قبل المباراة. عقلي يكون أكثر تركيزًا.
مارتينيز في مقابلة مع El País

قرر مارتينيز تنمية مهاراته العقلية كحارس مرمى بجوار تدريباته المعتادة. يرجع الفضل في ذلك إلى السيد «ديفيد بريستلي» الذي عمل من قبل ولسنوات عديدة معالجًا في قسم علم النفس والتنمية الشخصية لفرق الرجال والسيدات في نادي أرسنال.

منذ أن قابل مارتينيز هذا الرجل، أصبح جزءًا أساسيًا في مسيرته الكروية. يعتقد البعض أن جزءًا من عمل السيد بريستلي يتعلق بالحيل النفسية التي يجيدها مارتينيز على أرض الملعب.

أكد إيميليانو أنه يستخدم الحيل النفسية لزعزعة استقرار خصمه وفي كل مرة يمكنه فعل ذلك فهو لا يتردد. التقطت الميكروفونات خلال الكوبا الماضية حديثه للكولومبي «ياري مينا» قبل تنفيذ ضربة جزاء، صاح به مارتينيز بأنه متوتر رغم ابتسامته ثم هدده قبل تنفيذ الضربة بأنه سيأكله حيًا! وفي الأخير أضاع مينا الكرة واحتفل مارتينيز.

حلل عالم النفس النرويجي«جير جورديتا» أداء مارتينيز أثناء ركلات ترجيح نهائي كأس العالم بشكل مفصل من زاوية نفسية. كيف أنه تقدم نحو منطقة الجزاء أولًا ثم استقبل «لوريس»وصافحه وكأنه يرحب به داخل بيته ثم الإدعاء بأنه يطالب الحكم التأكد من مكان ركلة الترجيح أمام كومان.

نادرًا ما يحتفل حراس المرمى بشكل كبير بعد تصديهم لركلات الترجيح، لكن مارتينيز احتفل بشدة بعد ضياع ركلة «كومان»، تظهر الأبحاث وفقًا لجورديتا أن الاحتفالات الكبيرة والمكثفة تشير إلى الثقة والسيطرة والتفوق، مما يؤثر على زملائه بشكل إيجابي والخصوم سلبًا.

وفي الأخير بدلاً من تسليم الكرة إلى تشواميني قام برميها بعيدًا مجبرًا الخصم على إحضارها في عدم احترام واضح ثم النظر له بسخرية قبل التسديد وهو ما قد فعله من قبل أمام لاعبي هولندا «ستيفن بيرغيس وفوتر فيغورست».

يؤكد جورديتا أن حيل مارتينيز كثيرة ولا يمكن التنبؤ لكنها محسوبة ثم يصفه صراحةً بأنه «مكيافيللي» كرة القدم، يبدو هذا الوصف مناسبًا أكثر في الحبكة المفقودة التي نبحث عنها.

حسنًا نحن الآن رفقة رجل يستخدم كل ما يستطيع للفوز بعيدًا عن فكرة احترام الخصم والأخلاق الرياضية، هل تعتقد أن هذا الرجل سيكون مختلفًا خارج الملعب.

السيناريو الثالث: المقامر الذي خلق شخصيته بنفسه

لا يمتلك إيمليانو تاريخًا كبيرًا يضعه في مصافي أهم حراس المرمى في العالم كما أنه لا يمتلك الكثير من الوقت لفعل ذلك فهو في الثلاثين من عمره، لكنه عوضًا عن ذلك قرر اتباع أسلوب المقامرة.

يعتمد المقامر على عدة حيل نفسية للفوز على الخصوم وهو يعلم تمامًا أنه إذا خسر سيخسر كل شيء. سيصبح مثار سخرية الجميع، سيكون الحارس الذي ركز على تشتيت ذهن خصومه فخسر كاس العالم. لكنه في المقابل أيضًا يعلم أن المقامر إذا فاز من حقه الحصول على كل شيء.

تلك هي الشخصية التي يحب أن يظهر بها مارتينيز، يريد ترسيخ فكرة أنه مجنون لا يعبأ بشيء ولا يفهم شيئًا عن القواعد. حتى إن هذا ما يتوافق مع تفسير مدير أعماله وتصرفاته المشينة بأنه شخصية فريدة أو «كاركتر» كما يطلق عليها في السينما وكل الشخصيات العظيمة تكون فريدة بالطبع كما أنه أصبح أفضل حارس في العالم ولا أحد يمكن أن ينكر ذلك.

لقد خلق لنا مارتينيز شخصية تضمن له مزيدًا من الحضور والجدل المثار حول النجوم. يبدو أن مارتينيز يمارس الحيل النفسية على الجميع حتى خارج الملعب، حتى إنه سرق الكاميرا بشخصيته تلك أثناء الاحتفال بالكأس التي جن جنون الجميع بها.

خرج مارتينيز مفسرًا حركته المشينة أثناء تسلم جائزة الأفضل بتفسير ساذج وهو استهزاء جماهير فرنسا به طوال المباراة وأنه لا يتحمل أن يتكبر عليه أحد، لكن يبدو أن هذا الرجل يجيد بالفعل الحيل النفسية لأن ما فعله بعد ذلك لم يحتج أن يفسره بل برره له بعضًا من الجماهير.

تكفل محبو مارتينيز ومنتخب الأرجنتين بتبرير استهزاء الحارس بمهاجم فرنسا مبابي بالحديث أن هذا ردًا على تصريحات سابقة لمبابي قبل المباراة بل وردًا على أغنية رددها لاعبو فرنسا عقب الفوز بكأس العالم 2018 حيوا خلالها كانتي لأنه سيطر على ميسي.

هكذا كان الأمر إذًا، لم يكن مارتينيز بطلًا مثاليًا من البداية حتى يصبح وغدًا فجأة، بل كان كاراكتر خلقه الحارس لنفسه، شخصية ربما يتعاطف معها المؤيدون ويكرهها تمامًا كل الخصوم غير أنها تبقى شخصية مثيرة للجدل وهو ما أراده إيمليانو مارتينيز تمامًا من البداية.