«خاوية» هي الرواية الأحدث للكاتب الأردني أيمن العتوم، والتي صدرت عام 2016 بعد سلسلة روايات أخرى مميزة خـاصة روايته «حديث الجنود»، التي منعت في وقت سابق من النشر بالأردن واعتقل بسببها فيما بعد قبل أن يتم الإفراج عنه، كما له دواوين شعرية عديدة.


الشخصيات والتقسيم المكاني

تقع الرواية في ثلاثة أقسام. تدور أحداث القسم الأول، بجبل الحسين بعمان بالأردن بين الطبيب جلال وزوجته سلوى وطفلهما بدر. أما القسم الثاني، فتدور أطوار أحداثه بحمص بسوريا بين زياد وأخته ليلاس وأصدقائه شادي وليث. أما القسم الثالث، ففيه ينسج الكاتب حبكته الروائية حيث تلتقي الشخصيات كلها بسبب الحرب السورية، فيما تنضاف شخصيات عديدة أخرى كـأبو القعقاع وأبو دجانة وهما من رؤساء بعض جماعات المجاهدين، وشخصيات أخرى ثانوية.


سلوى: الحرب ضد التوحد

«ما أصعب أن يتبدد الحلم في لحظة، بعد أن كان قبض اليد، وما أنفذ الطعنة حين تكون في أقرب الناس إليك، في الجزء الذي أحببته أكثر من نفسك، في الابن الذي كان ملئ السمع والبصر والفؤاد!»

بدر، هذا الطفل الذي انتظرته سلوى خمس سنوات ليزين حياتها ويملأ الدنيا عليها فرحا وبهجة، تحول كل ذلك خلال عام إلى حزن عميق قلب حياتها رأسا على عقب، وحولها إلى حرب قررت أن تخوضها إلى نهايتها بعد أن علمت بإصابته بالتوحد، بسبب مطعوم أخذه، و لم تنتبه على الأعراض التي أصيب بها يومين بعد ذلك. كما أنه تسبب له بتهيج في الأمعاء، مما ضاعف المحنة وفرض على الأبوين اتباع حمية غذائية خاصة بـه.

القسم الأول، من الرواية يكاد يكون قد خُصص كله لعرض معاناة سلوى مع بدر. ويعد الحديث عن مرض التوحد سابقة في الروايات العربية، فرغم وجود روايات أخرى تطرقت إليه، مثل «أمل في الظلام» للكاتبة خلود خوري رزق، أو «ذاتوي» للكاتب محمد عصمت، إلا أن «خاوية» تحدثت بشكل تفصيلي أكثر، حيث عرض الكاتب من خلال شخصية الطفل بدر مرض التوحد وأسبابه، وتطرق كذلك بشيء من الإسهاب إلى الأعراض الملاحظة عند غالبية المصابين بهذا المرض، إن على المستوى الاجتماعي، كـرفض الاتصال البصري المباشر وعدم الاستجابة لنداء الآخرين له، أو على المستوى اللغوي كتأخر النطق، أو على المستوى السلوكي، مثل السلوكيات الغريبة التي كان يقوم بها بدر.

تطرق كذلك إلى الأفكار النمطية التي لا يزال يحملها المجتمع العربي عند التعامل مع هؤلاء المصابين، كالنظر لهم على أنهم متخلفون عقليا، أو نعتهم مباشرة بالجنون دون النظر لما قد يحملونه من مواهب خاصة وقدرات قد لا يتمتع بها الأطفال الآخرون، مثل ما حدث مع سلوى عندما اكتشفت أن ابنها بدر له موهبة خاصة في الرسم، فساعدته على تطويرها حتى أصبحت هي وسيلة التواصل لديه في غياب القدرة على الكلام. في هذا القسم الأول الأوصاف وفيرة، واللغة الشاعرية الرقيقة التي استعملها الكاتب تجعل القارئ ينغمس كليا في الأحداث. الجانب السردي كان طاغيا أحيانا بسبب إيراد تفاصيل التي لا طائل من ورائها.


الطبيب جلال: إنسانية لا حد لها

«أجد متعة في مهمتي كطبيب وأنا أقف على حافة الهاوية بين الموت والحياة مع المنكوبين. أن تمسح على جراحهم يعني أن تكون ملاكا هبط من السماء ليهبهم أملا جديدا»

يظهر جلال في الرواية كطبيب شريف نزيه يضع المهمات الإنسانية في صلب أولوياته، بل يوليها اهتماما أكبر حتى على حساب راحته وعائلته! فهو لم يحضر ولادة طفله بسبب مهمة إنسانية بُعث فيها على رأس وفد إلى أنغولا، وتركهما كذلك عندما ذهب ليمسح جراح المكتوين بنار الحرب بالعراق سنة 2010، ثم عندما ذهب فيما بعد إلى مخيم الزعتري سنة 2012 لينقذ ما يمكن إنقاذه من ضحايا الحرب السورية. زوجته طبعا لم تكن لتتقبل الأمر، لكن وكما هي في حرب مع التوحد الذي يعاني منه ابنها، فإنه هو الآخر في حرب من نوع آخر، حرب ضد الأمراض والأوجاع، يداوي منها ما استطاع إليه سبيلا.


سوريا: الجرح النازف

«أفظع ما حدث لنا هنا هو الحرب»

إذا كانت القضية الفلسطينية قد حظيت بحضور كبير في العديد من الروايات العربية وتم التطرق لها من جوانب شتى، فإن «خاوية» واحدة من روايات قليلة تطرقت إلى الحرب السورية بل وجعلتها الموضوع الرئيسي لها. بدأ الكاتب بتصوير المشاهد الأولى للقصف والاعتقالات، والتي كان لـزياد نصيب منها، إذ اعتقل من طرف الأمن لكي يدلهم على مكان صديقيه شادي وليث بوصفهما من الناشطين في الاحتجاجات.


زياد: من أخ وزوج حنون إلى وحش زياد

زياد فقد في القصف زوجته التي أحبها أكثر من أي شيء آخر في الدنيا، بل أكثر حتى من أمه وأخته المدللة “ليلاس”، ليقرر تركهما خلفه والالتحاق بركب المجاهدين بحماة، لا حبا في سورية ولا طمعا في تحريرها، فهو كان يهزأ بهذه الشعارات أشد الاستهزاء، بل فقط لينتقم لزوجته.

«ليس الموت هو الصعب، ولا رحيل من تحب، ما هو أصعب من الموت ومن الرحيل معا هو العيش مع ذكرى الراحلين، إنها مثل نحلة في الدماغ لا تجعلك تهدأ لحظة»

لكن عند دخوله غمار القتال، تأكد فعلا من حقيقة ما كان يقول عن زيف تلك الشعارات، حيث رأى بأم عينيه الفصائل السورية وهي تتقاتل فيما بينها وتُحَوِّل دفة الحرب من حرب ضد النظام إلى حرب جديدة بين معسكرات الثوار أنفسهم. قاده الأمر إلى ترك الفصيل الذي يرأسه أبو دجانة والانتقال إلى فصيل آخر حيث حظي بمكانة رفيعة إذ كان مقربا إلى الرئيس أبو القعقاع.

في هذه الفصول تحدث الكاتب بإسهاب وصور المشاهد وكأنها رأي العين، إعداد الخطط ثم الانتقال إلى مواقع القتال والاشتباكات، المشاعر التي تعتمل في صدر كل فرد في الفصيل، من مريد للانتقام إلى راغب في الشهادة إلى طامع في التحرير والنصر إلى آخر بلا هدف ولا غاية، سوى تصويب بندقيته على أي كان، كأنما الموت قد أصبح لعبة يستمتع بها.

سلط الكاتب الضوء كذلك على الاختلافات بين الفصائل وأهدافها، ففي الوقت الذي كان فيه فصيل أبو دجانة فقيرا وبالكاد يجد بضعة أسلحة يقاتل بها، فإن فصيل أبو القعقاع كان له من العتاد ما اندهش له زياد، بل وكان معسكره يضم كذلك سجنا به أسرى ومعتقلون، وسجنا خاصا بالنساء (السبايا). هنا تحول زياد من الأخ الحنون والزوج المحب إلى وحش، لم يعد همه الانتقام لزوجته، فقد نسيها تماما، ونسي أخته وأمه، ولم يعبأ حتى عندما علم أن الصاروخ الذي قتلت به زوجته كان من صواريخ أبو القعقاع نفسه وها هو يقاتل الآن إلى جنبه.

مشاهد الحرب والقتل لم تكن فظيعة بقدر فظاعة ما كان يحدث داخل أسوار المعسكر من اغتصاب وتجارة بالنسوة الأسيرات اللواتي ليس لهن ذنب إلا أن وجدن في مناطق النزاع التي تقَسَّمتها الفصائل.

«كأن بلاد الله قصعة آكل، إذا جاءها سمى الله وحمد ثانيا!»

مخيم الزعتري: مرتع الفارين من الجحيم

«كانت عيونهم ما تزال تحمل الرهبة العميقة في أغوارها، بعض الفزع يلتصق بالعيون التصاق الأهداب بها، ينظرون من خلال النوافذ إلى الطريق الصحراوية الخالية من كل شيء والمعتمة مثل الحياة التي فرضتها عليهم الحرب»

أقيم المخيم بالأردن سنة 2012 لاستقبال اللاجئين السوريين. هنا في فصول القسم الثالث والأخير من الرواية، يأخذ الكاتب القارئ في جولة وكأنه مرشد سياحي يطوف به على معالم وآثار عريقة، إلا أنه هاهنا ما من مآثر وما من مناظر تسر الناظرين، بل مجموعة خيام تفتقر لأبسط شروط العيش، لكنها أرحم من سماء سورية التي تمطر الصواريخ في كل لحظة.

يحكي الكاتب هنا عن حياة اللاجئين الجديدة، عن المركز الصحي الذي يتوافدون إليه، وعن المدارس التي أقامتها اليونيسيف. صوَّر كذلك البؤس الذي غُرِس في نفوس الأطفال على الخصوص. أطفال محَت الحرب آثار البراءة عن وجوههم، فلا هم ينامون على هدهدات الأمهات، ولا هم يلعبون مثل أقرانهم بالألعاب المختلفة، بل بما تبقى من قاذفات وصواريخ. طفلات أخريات حولتهن الحرب إلى أمهات قبل الأوان، تعتنين بإخوتهن الأصغر منهن، ويقاسين مرارة اليتم الفقر.


سلوى وسميرة: المرأة عدوة المرأة

سميرة، امرأة سورية شاهدت من الويلات ما شاهدت، وفرقت الحرب بينها وبين أقرب الناس إليها، زوجها. لم يمنعها كل ذلك من أن تحن على ليلاس وتعتبرها ابنة لها. كيف لا وهي من لم يرزقها الله بالولد، فكانت ليلاس ملاذها وعطية الله لها في زمن الحرب.

ليلاس وجدت أيضا فيها ما يعوضها، بعد أن أخذت منها الحرب كل عائلتها. تنتقل الاثنتان إلى مخيم الزعتري مع الفارين من جحيم الحرب، فيلتقيهما الطبيب جلال الذي يقرر فيما بعد أن يتكفل بهما لكي تكمل ليلاس علاجها. وبعد إجراءات الترحيل يسكنهما في شقة مقابلة لشقته. هنا تبدأ أجهزة الاستشعار عند سلوى تنذر بالخطر، وتبدأ الصراعات النسوية بين سلوى وسميرة، والتي صورها الكاتب بشكل لا يخلو من طرافة أحيانا.

بدر يدخل هنا على الخط، وتتكون علاقة من نوع خاص بينه وبين ليلاس، حيث كان بوحها له بما شاهدت من أهوال الحرب مُساعِدا لها على التخلص من الفزع الليلي الذي عانت منه بشدة لدرجة أنها كانت تبقي سكينا تحت مخدتها عندما تنام، وكثيرا ما كانت تستيقظ ليلا وهي تلوِّح بها في الظلام. كما ساعده هو الآخر على رسم رسومات كثيرة مستوحاة من حكاياها. بدا كأن كلا منهما وجد ضالته في الآخر؛ هذه العلاقة الخاصة هي ما جعل سلوى وسميرة تتفاهمان فقط لأجل مصلحتهما.


الحياة تستمر

«من يستطيع أن يفسر شعور امرأة تجاه أخرى يقف بينهما رجل»
«الحرب لا توقف الحياة، ربما تغير اتجاهها، ربما تضطر الأحياء إلى القبول بشروطها، ربما تظل عدوتها الأولى، ويظل المحبون للحياة في حرب مع الحرب. لا تقل لي من ينتصر في النهاية، قل لي من يملك نفسا أطول»

تلك هي الحقيقة التي يقررها الكاتب في النهاية. فسواء أكانت حربا يخوضها الإنسان مع نفسه أو مع أقرب الأقربين إليه، سواء أكانت ضد مرض، أو ضد ظروف ما، حتى أو حربا بالمعنى الحقيقي، فإنها ولا شك إلى زوال. و يظل الأمل قائما ويظل التشبث بالحياة حتى آخر رمق هو ما يعطي الحياة معناها الحقيقي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.