بداية يجب توضيح المقصود باصطلاح «النخبة»، حيث لا بد من تبديد بعض الالتباسات المتعلقة بهذا المفهوم. فليست النخبة –كما هو شائع– مجموعة من الناس المتعالين، الذين يرون سائر الناس على أنهم أدنى منهم مستوى ومقدرة، وبأنهم هم «الصفوة» وسائر المجتمع هم «الغوغاء».


مفهوم النخبة

ببساطة؛ هي وجود فئات بنسب وأعداد قليلة في كل مجتمع من المجتمعات البشرية، تكون هي المتحكمة والفاعلة والمؤثرة، في بعض الاختصاصات والمجالات، فتكون هي المديرة للاختصاص، والمسيّرة لأموره، وتكون قراراتها هي الأكثر تأثيرًا.

«النخبة» هي الفئات القليلة في كل مجتمع بشري تتحكم، وتؤثر في بعض الاختصاصات، فتكون المديرة له، والمسيّرة لأموره وتكون قراراتها هي الأكثر تأثيرًا.

فمثلًا في كل مجتمع توجد «نخبة سياسية»، وهم مجموعة الأفراد المسؤولين عن صناعة واتخاذ القرار السياسي في المجتمع، سواء كان متعلقًا بالشأن الداخلي أو الخارجي.

كما توجد «نخبة اقتصادية»؛ وهي المتحكم الرئيس في حركة وتوزيع الثروات داخل المجتمع. كما توجد »النخبة العلمية»؛ وهي المسؤولة عن سير العملية البحثية، وإنتاج الأفكار وتحديد معاني المصطلحات، وكذلك الحال مع «النخبة الفنية»؛ والتي تكون مسؤولة عن إنتاج الفنون المختلفة وتقييمها، وغيرها من «النخب» المختلفة.

و هكذا فإن الأساس في فكرة «النخبة» هو القدرة على اتخاذ القرار، و التأثير على المجموع. فالنخبة هي صاحبة القرار النهائي. قد يوجد قرارات أخرى داخل المجتمع متعلقة بذات الشأن، لكن قرارها هو الأكثر تأثيرًا.

وقد تم تطوير نظريات النخبة على يد عدد من الباحثين في النصف الأول من القرن العشرين، الذين كانت لهم دوافعهم المختلفة من هذه النظرية. فهناك الإيطاليان «جايتانو موسكا، وفالفريدو باريتو»، اللذَيْن سَعَيا من وراء هذه النظرية؛ إلى معارضة الأفكار الديمقراطية، وكذلك الاشتراكية، والتبرير للدكتاتوريات والحكم الفاشي، عبر التأكيد على حتمية وجود «النخب».

بالتالي حتمية وجود حاكم ومحكوم، واستحالة مشاركة المجموع في عملية الحكم. بينما نجد عالم الاجتماع الاشتراكي الأمريكي «رايت ميلز»، في نظريته عن «المجمع الصناعي – العسكري»، يسعى إلى الكشف عن آليات الحكم واللوبيات الحاكمة.

يمكنك الإطلاع على المزيد عن نظرية النخبة من هنا:

نظرية النخبة والديموقراطية المظلومة


نظريات وأطروحات

الأساس في فكرة النخبة، وفي أطروحة «نهاية النخبة» كذلك؛ هو مدى اتساع أو ضيق دائرة المشتغلين. حيث أنه لا يمكن وصف الأفعال التي يشترك بها عموم الناس بالنخبوية مثل؛ الالتزام الديني في بعض المجتمعات أو كصفة العمل. فكل ما هو عام ومنتشر في المجتمع لا يمكن إطلاق صفة النخبة على من يتصف به و يقوم به.

القراءة والكتابة، في المجتمعات العربية مثلًا، كانت في يوم من الأيام فعلًا نخبويًا، حيث كانت نسبها لا تتجاوز الـ 1%، أما بعد انتشار التعليم ومشاريع محو الأمية، فإن النسب وصلت إلى أكثر من 90% في بعض البلدان، وبذلك فلم تعد هذه الأفعال نخبوية أبدًا، فيما كانت كذلك، قبل بضعة عقود.

والنخبة ليست فكرة يُدعى لها ويبشر بها، بل هي شيء واقعي طبيعي. فلو أجرينا مثلًا مسحًا في شارع عام، بحيث نسأل: من هو فرويد؟، أو ما هي النظرية الماركسية؟

قد لا تجد أكثر من 1 من الـ100 قادر على إعطاء إجابة صحيحة، بل إنك ربما لو ذهبت إلى محاضرة جامعية قد لا تجد أكثر من ثلاث أو أربعة من أصل سبعين. و السؤال الآن: ماذا ينبغي أن نسمي هؤلاء الذين أجابوا؟ بالطبع سنسميهم «نخبة». أما أطروحة نهاية النخبة، فتنطلق من طرح التساؤل: ماذا لو اتسعت دوائر المشتغلين، والفاعلين والمهتمين والمشاركين في المجال السياسي أو الثقافي وغيره؟.

تأسست هذه الأطروحات على عدة عوامل واعتبارات، وفي مقدمتها «سيرورتيْ الدمقرطة – Democratization»، و«البرقرطة – Bureaucratization»، و هما من أسس التحديث. حيث تعملان على مشاركة فئات واسعة من المجتمع في عملية صناعة القرار؛ وبالتالي الوصول إلى نهاية «النخبة السياسية».

واليوم، تراهن هذه النظريات بقوة على انتشار شبكات التواصل الاجتماعي، وازدياد تأثيرها في عالم اليوم. فقد نقلتنا هذه الشبكات إلى «عصر المعلومات»، حيث يتم تداول المعلومات بشكل أكبر. الكل تصله المعلومات والأفكار، والكل يتحدث بها ويناقشها، ويتخذ مواقف منها.

وهنا تلوح نهاية «النخبة الثقافية». والكل تصله أحدث الأعمال الفنية، فيقيمها وينقدها، وهنا تبدو نهاية «النخبة الفنية». في يوم من الأيام كانت هناك الكثير من المواضيع الفلسفية أو الدينية أو الفنية، تكاد تكون محصورة على دوائر ضيقة من الأكادميين. أما اليوم مع مواقع التواصل، فإنك ترى صفحات خاصة بالصوفية أو الأدب الوجودي، وتجد لها آلاف المتابعين.


النخبة والعصر الجديد

فكرة النخبة ليست محدثة ولا وليدة تغيرات طارئة في المجتمعات الحديثة؛ بل موجودة في مختلف العصور مثل ثنائية الخاصة والعامة في التراث العربي الإسلامي.

بفضل مواقع التواصل الإجتماعي أيضًا، ازداد تداول الأخبار بين مختلف الشرائح، وأصبح الكل يناقش القضايا السياسية ويتخذ مواقف منها، وهذا بحد ذاته يجعل منهم «فاعلين سياسيين» بدرجة ما، خاصة أنه كثيرًا ما يتطور هذا الاطلاع إلى مشاركتهم بأفعال سياسية، مهما كان شكل هذا الأفعال.

قوة النخبة تأتي من الأدوات التي تمتلكها؛ مثل المال والقوة والإعلام، ومن الحالة المنظمة التي تتصف بها وتمنحها سرعة التواصل والتنسيق والتفاهم بين أعضائها.

ليس شرطًا أن يكون فعلًا عنيفًا، قد يكون على شكل اعتصام أو إضراب. ومجددًا، ومع اتساع الدائرة، تلوح هنا نهاية «النخبة السياسية». ولنتساءل: من كان الفاعل السياسي قبل 10 أو 20 سنة؟

لقد كانت السياسة حصرًا على الحزبيين والمنظمين، أما اليوم فإنك تجد المدونين هم الذين يقودون المسيرات في الشوارع. ولو عدنا الآن إلى المحاضرة ذات السبعين طالب، والذين لم يجب منهم على السؤال سوى ثلاثة أو أربعة، ولنتخيل أننا في مجتمع «مستنير»: قد يجيبك الجميع على السؤال. فهل هذا يعني أن النخبة هنا انتهت؟

إن نظريات «نهاية النخبة» تبقى نظريات حالمة وبعيدة عن الواقع، وإن وجود النخب في المجتمعات تبقى ظاهرة أقرب الى الحتمية. فالنخبة ذات أصل طبيعي، نجده في التفاضل في الصفات والقدرات بين الناس، ونجده في واقع الشعوب التي لا تحركها الأفكار ولا تحركها المبادئ والجرأة والقدرة، بقدر ما تحركها الدوافع السيكولوجية والحاجات البيولوجية. وبالعودة إلى مثال المحاضرة: لو أجاب الجميع، ستصبح النخبة هم المطلعين على قضايا أكثر تفصيلية.

ومن أظهر المجالات التي يظهر فيها استمرار النخب وتأثيرها، المجال السياسي؛ وذلك ظاهر في عملية صنع القرار وبعد الجماهير عنها، وفي صعوبة اختراق الشعوب لعملية صناعة القرار السياسي. وكذلك الحال في المجال الاقتصادي.

وإذا أردنا الإشارة إلى أسباب أخرى تفسر استمرار النخب، فلا بد من الإشارة إلى أن قوة النخبة تأتي من الأدوات التي تمتلكها، حيث المال والقوة والإعلام وغيرها من الأدوات المؤثرة. وكذلك تأتي قوة من النخبة من الحالة المنظمة التي تتصف بها، والتي تمنحها سرعة التواصل والتنسيق العالي والتفاهم بين أعضائها، مقابل تشتت المجموع وعشوائيته.

ونخلص من النقطة الأخيرة إلى تسجيل الانتقاد على العمل الشبكي غير المنظم، الذي تتصف به الحركات الجماهيرية؛ وذلك لضعف قدرته على التأثير. بعكس العمل المنظم القادر على التأثير والمراكمة والإنجاز على المدى المتوسط والبعيد.

فإذا كانت النخب تقود المجتمعات بتنظيمها، بالتالي فإن الشعوب بحاجة للمزيد من التنظيم حتى تتمكن من اختراق عملية صنع القرار و التأثير بها!.