حظي رواق السادة المغاربة بالأزهر الشريف بكثير من الأوقاف الخيرية التي خصصها أصحابها للإنفاق من ريعها على «طلاب العلم الشريف» المجاورين بالأزهر المعمور. وتسابق في هذا المجال المئات من الأفراد والعائلات المغاربية التي وفدت إلى مصر واستوطنتها، واشتهرت بكثرة وقفياتها ومشاركاتها في الأعمال الخيرية، واشتهرت تلك العائلات أيضاً بثرائها نتيجة اشتغالها بالأعمال التجارية في مصر المحروسة، الأمر الذي يعني أن نموذج رجال الأعمال في ذلك الزمن كان مستوعباً لما نسميه اليوم «المسئولية الاجتماعية»، انطلاقاً من الأصول الشرعية والتقاليد التاريخية لنظام الوقف الإسلامي.

ومن تلك العائلات: «عائلة الشرايبي» التي وفدت إلى مصر -بعد سقوط الأندلس- من مدينة «فاس» ذات العراقة التاريخية والعلمية والعمرانية بالمغرب الأقصى. واستقر مقام هذه العائلة بالقاهرة في أعقاب الفتح العثماني لمصر في القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، وكان لها دور مشهود في اقتصاد مصر وعمرانها الحضاري، وبخاصة في حي الأزبكية بالقاهرة. وقدمت نموذجاً يُحتذى لما يجب أن تكون عليه المسئولية الاجتماعية لكبار التجار في خدمة العلم والطلاب والعلماء والفقراء وأصحاب الحاجات.

لم تلبث عائلة الشرايبي أن حطت رحالها بمصر المحروسة واستقر بها المقام، حتى برعت في التجارة، وأصبح محمد بن محمد بن قاسم الشرايبي الفاسي «شاهبندر التجار في مصر» كلها، ابتداءً من 1109هــ/1697م. وكان أول عمل عمراني قام به أنه أسس «خاناً» (أي سوقاً كبيراً مسقوفاً)، وسرعان ما ذاع صيته واشتهر باسم «خان الشرايبي» بمنطقة الأزهر، طبقاً لما يحكيه الجبرتي في كتابه: «تاريخ عجائب الآثار، ج/1/ ص 657». ثم لم تلبث عائلة الشرايبي أن دخلت ميدان «الالتزام» الذي ساد في مصر العثمانية، ويُقدر الجبرتي عدد القرى التي كانت في التزام الشرايبي بـ 60 قرية، وبلغ متوسط زمام القرية الواحدة ألف فدان من الأراضي الزراعية؛ أي إن جملة التزامه بلغت ستة آلاف فدان تقريباً.

يقول الجبرتي إن العائد السنوي لتلك القرى التي كانت في التزام الشرايبي بلغ حوالي مليون بارة، إضافة إلى عائد أراضي القرى المرهونة التي كانت تحت يد هذه العائلة. وكان القرش في ذلك الزمن يساوي أربعين بارة، وصار القرش -في مطلع القرن العشرين- وحدة من الجنيه الذي يقسم إلى مائة قرش. وعليه يكون العائد السنوي للشرايبي من أراضي الستين قرية هو 1.000.000 بارة مقسومة على 40 بارة = 25.000 قرش، مقسومة على 100 قرش = 250 جنيهاً سنوياً، وهو مبلغ كبير جداً بمعايير ذلك الزمن؛ إذ كان يكفي لشراء حوالي 300 فدان من الأراضي الزراعية بأسعار نهاية القرن التاسع عشر الميلادي/الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري.

وقد أثنى الجبرتي على الحاج «محمد الدادة الشرايبي»، وكان كبير تلك العائلة في زمنه، وأشار إلى ثرائه وثروته الهائلة، ونبَّه أيضاً إلى مكانته الاجتماعية الرفيعة، وأشاد بمحبته للخير ومساعدة الضعفاء وذوي الحاجات، ووصفه بأنه «كان إنساناً كريمَ الأخلاق، طيبَ الأعراقِ، جميلَ السماتِ، حسنَ الصفاتِ؛ يسعى في قضاء حوايج الناس، ويؤاسي الفقراء».

ومما أورده الجبرتي عن ثروة الشرايبي: أن أصل مال الدادة الشرايبي كان 90 كيساً (لم أهتدِ لمعرفة كم كانت قيمة الكيس الواحد بالعملة النقدية)، ووصل إلى 600 كيس عندما حضرته الوفاة، خلاف ما أحدث من البلاد (يعني استصلح أراضيها وجعلها صالحة للزراعة والاستقرار) والحصص والرهن والأملاك، وقد توفي في يوم السبت 16 رجب 1137هـ، وحضر جنازته جميعُ الأمراء والعلماء وأرباب السجاجيد والوجاقات السبعة والتجار وأولاد البلد، وكان مشهدُه عظيماً حافلاً؛ بحيث أن أول المشهد داخل الجامع، ونعشه عند العتبة الزرقاء، وكان ذكياً فهيماً دراكاً، سعيد الحركات، وعلى قدر سعة حاله، وكثرة إيراده ومصرفه، لم يتخذ كاتباً، ويكتب ويحسب لنفسه (الجبرتي، تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار. بيروت: دار الجيل، ط2، 1978م، ج1/137، و138).

وأثنى الجبرتي مرةً أخرى على كبير الشرايبية الذي خلف الحاج محمد الدادة، وهو الحاج إبراهيم بن محمد الغزالي بن محمد الدادة الشرايبي، الذي توفي في سنة 1205هــ/ 1791م، وقال عنه إنه: كان من أجلِّ أهل بيت الثروة والمجد والعز والكرم، وهو كان مسكَ ختامهم… ومن خصالِه:

حرصُه على فعل الخير ومكارم الأخلاق، وتقديم الزادِ ليوم المعاد، والصدقات الخفية والأفعال المرضية التي منها: تفقد طلبة العلم الفقراء والمنقطعين ومواساتهم ومعونتهم، وكان يشتري المصاحف والألواح الكثيرة ويفرقها على مكاتب أطفال المسلمين الفقراء معونة لهم على حفظ القرآن، ويملأ الأسبلة للعطاش، ولا يقبل من فلاحينه زيادة على المال المقرر، ويقرضهم التقاوي واحتياجات الزراعة…

إلى أن بغته الطاعون حالاً، وكان موته ارتجالاً، فنضبت جداوله واستراحت حساده وعواذله، وكان حسنةً في صحائف الأيام والليالي، وروضةً تنبت الشكر في رياض المعالي؛ «فلو بعت يوماً منه بالدهر كله، لفكرت دهراً ثانياً في ارتجاعه» (الجبرتي، تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، بيروت: دار الجيل، ط2، 1978م، ج1/137، و138).

وإضافة إلى تلك الأعمال النافعة، أسهمت عائلة الشرايبي في تعمير القاهرة، وبخاصة حي الأزبكية، وذلك عندما أنشأت هذه العائلة بيتها الكبير على ضفاف بركة الأزبكية في مطالع القرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلادي، ثم تضاعف إسهامها العمراني عندما قامت بتشييد مسجد الشرايبي في المنطقة عينها. وكان ذلك بداية انطلاق تعمير منطقة الأزبكية بصورة جديدة وشاملة؛ حتى أصبحت منطقة أرستقراطية راقية، وجذبت -في العصر العثماني- صفوة العائلات المغربية التجارية للإقامة فيها خلال القرن الثامن عشر، واستوطنتها عائلات الصفوة التجارية المغربية مثل: البناني، وجسُّوس، والقبَّاج، وغراب، وغيرها.

وذاع صيت «عائلة الشرايبي» بين طلاب رواق المغاربة بالأزهر المعمور؛ نظراً لسخائها في مساعدتهم، ودعمها المتواصل لهم بالمال وبكتب العلم النفيسة؛ حيث كان كبار الشرايبية يشترونها بأغلى ثمن ويُتيحونها مجاناً للطلاب، ولا يمنعون أحداً من طلاب الرواق من استعارتها، وفي حالة عدم رده للكتاب الذي استعاره، كان لا يسأله أحدٌ عنه ولا يطلب منه عوضاً، وكان الشرايبية يعتذرون بأنفسهم عن الجاني، الذي ربما استولى على كتاب أو كتابين من كتبهم، فيعللون ذلك بالفاقة وبضرورة الاحتياج، وفي هذا يقول الجبرتي في تاريخه «وربما بيع الكتاب عليهم واشتروه مراراً» من الطالب الذي استعاره، واستولى عليه ثم عرضه للبيع!

ويتضمن ملفُ أوقافِ المغاربة المحفوظ بسجلات وزارة الأوقاف المصرية كثيراً من الوثائق التي تخصُّ عائلة الشرايبي ومنها: حجة وقف محررة أمام محكمة الباب العالي في 20 جمادى الأولى 1270هـ/ 18 فبراير 1854م. وقد اشترى بموجبها الحاج عبد السلام المغربي الفاسي التاجر بسوق الفحامين، حانوتاً أسفل الربع بثمن 1125 قرشاً ووقفه لجهة وقف الشرايبي من تاريخه ليصرف ريعه على السادة طلاب رواق المغاربة ، يقرؤون الربعة (أجزاء من القرآن) صبيحة كل يوم بالرواق، فإن تعذَّر ذلك، صُرف للفقراء والمساكين، ويكون النظر لشيخ الرواق، وإذا آل للفقراء والمساكين يكون النظر لم يقرره الحاكم الشرعي الحنفي بمصر حينذاك. والمقصود بـ «الحاكم الشرعي الحنفي»، هو «القاضي الشرعي» حنفي المذهب.

ونلحظ هنا صورة بهية من صور التآخي والتعاون بين أصحاب المذاهب الفقهية؛ فالمذهب الحنفي كان هو المذهب الرسمي للدولة العثمانية، والشرايبي وعائلته مغاربة ومذهبهم مالكي، ومع هذا كان التوفيق بين هذا وذاك يجري بيسر وسهولة.

وتشير حجة وقفية أخرى محررة أمام محكمة القسمة العسكرية في 9 جمادى الثانية 1271هــ/ 27 فبراير 1855م (مسجلة برقم 48/1 أهلي ـ سجلات وزارة الأوقاف) إلى أن الحاج محمد الدادة الشرايبي اشترى بموجبها مخزناً بسوق الفحامين ووقفه من تاريخ شرائه ليصرف ريعه على «السادة القراء المجاورين المنقطعين لقراءة العلم بالأزهر برواق المغاربة».

وبموجب حجة وقفية أخرى محررة أمام محكمة مصر الشرعية في 3 ذي الحجة 1272هــ/ 5 أغسطس 1856م (مسجلة برقم 1/1 قديم – سجلات وزارة الأوقاف) اشترى الشرايبي أيضاً حانوتين ملاصقين بخط المغربلين، ووقفهما من تاريخه على المنقطعين لقراءة العلم بالرواق بالجامع الأزهر.

وبالجملة فإن أوقاف عائلة الشرايبي المغربية كانت مصدراً رئيسياً من مصادر تمويل رواق المغاربة والإنفاق على طلبة العلم الشريف بالأزهر المعمور لحقبة تزيد على ثلاثمائة عام. ثم آل أمر أوقاف «الشرايبي» إلى الاضمحلال، وطوتها الإجراءات الحكومية بعد سنة 1952م. وسبحان من له الدوام.