طالب العلم الموفق هو الذي يشتغل بنفسه فيطلب العلم لنفسه؛ طلبًا للنجاة، ليعرف هو الحق أولًا ويعمل به ثانيًا، فإن امتلأ وأراد الله له التصدر فليفعل بأدب، كما يفعل من هذبه العلم، بيانًا للحق لا انتصارًا لنفسه، فإن نُصح بخلاف ما يعرف كان أسعد الناس بالحق وأسرعهم رجوعًا إليه.

وقد ابتلى الله الأمة بناس لا شغل لهم إلا الرد على فلان وبيان سقطات علان، قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته».


الاشتغال بالردود فيه حظ للنفس وتقوية لها، فيقع صاحبها في الانتفاخ الكاذب واعتقاد الأعلمية، بل يستدرك على العلماء ما لا يقع من الأطفال فينسب لهم ما لم يقولوه ويعتقد فيهم خلاف ما اعتقدوه، وما ذلك إلا لفرط غلبة شهوات النفس ومحبة الظهور بزي العلم ولو بظلم غيره والافتراء عليه، وأهل العلم ليسوا كسائر الناس، ‏قال «أبو زرعة الرازي» «تاريخ بغداد، 272/14»: «وقع في نفسي إذا أصبحت أن أجمعَ أخطاءَ الثوري، فلما أصبحتُ خرجتُ إلى الصلاة، وفي دربنا كلبٌ ما نبحني قط، ولا رأيتُه عدا على أحد، فعدا عليَّ وعقرني وحُممت، فوقع في نفسي أن هذا عقوبةٌ، فأضربتُ عن ذلك».


الذي أراه أن العلم يعطي السعة بحيث يعذر العالم الناس ويجد لأقوالهم مخارج صحيحة، أما الجهل، فقرين الضيق وسوء العطن، والذي أراه كذلك أن واجب المشتغلين بالعلم بيان الصحيح من الأقوال والمشتركات بين الفرق والمذاهب، وتأويل ما يمكن تأويله من أقاويل أهل الإسلام بحملها على أحسن المحامل، والتوقف فيما سوى ذلك أو عزو الأمر إلى الفهم الشخصي الذي يصيب ويخطئ.

والاشتغال بتصحيح الأقوال -وإن بذكر اعتبارات أو قيود- أولى من الاشتغال بالردود. والحق يظهر ولو بعد حين، فأن يقابل المرء ربه بحسن ظن أخطأ فيه أولى من أن يقابله بسوء ظن أخطأ فيه.


قد نُسب للشيخ الأكبر «ابن العربي الحاتمي» مقولات تنافي ظاهر الشريعة لا تصدر عن طالب صغير، فكيف بمن بلغ رتبة الاجتهاد في كافة العلوم؟! فكان الواجب على من يرد على الشيخ أن يعتبر فيه أصل الإسلام إن لم يقل بولايته التي يعتقدها جل العلماء والأولياء، والنصوص التي يشنع بها عليه لا تصدر عمن قال: «ما نال من جعل الشريعة جانبًا … شيئًا ولو بلغ السماء مناره».

ومن أشنع ما ينسب -زورًا أو غفلة- للشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي، رضي الله عنه، قوله: «العبد رب والرب عبد … ياليت شعري من المكلف .. إن قلت عبد فذاك رب … أو قلت رب أنى يكلف!». وبناء عليه:

1. ادعى الشيخ ابن تيمية [مجموع الفتاوى ، 151/1] أنه وجد نص الشطر الأول من البيت الثاني بخط الشيخ الأكبر أول «الفتوحات»، وفي موضع آخر [1/ 133] قال إنه وجده بخطه بلفظ «إن قلت عبد فذاك نفي».

2. حكم شيخ الإسلام مصطفى صبري [موقف البشر، ص 238] بكفر من قال ذلك، ولم يذكر اسم الشيخ.

3. ونقل البيتين الشيخ محمد حامد الفقي في تحقيقه لـ«مدارج السالكين»، (هامش ص 60) ليؤكد ما رسخ في الأذهان من كفر الشيخ وتأكيدًا على أطروحات تيار بعينه.

4. ونقلهما «نصر أبو زيد» (هكذا تكلم ابن عربي، ص 175) ليؤكد به دعوى «الدين السائل» التي يروج لها تيار الحداثة.

لكن هذا كله يسقط أمام النص المكتوب بخط الشيخ الأكبر في الصفحة الثالثة من «الفتوحات» والتي نقلها ووضع صورتها الأستاذ «عبد العزيز سلطان المنصوب» -جزاه الله خيرًا- في مقدمة تحقيقه لـ«التنزلات الموصلية، ص 12» و«مواقع النجوم، ص 12» و«الفتوحات المكية، ص 15» من كتب الشيخ الأكبر، ليكون صوابه:

الرب حق والعبد حق … ياليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك ميت … أو قلت رب فما يُكلَّف.

وانظر لهذا التشنيع أيضًا من الشيخ ابن تيمية حين يقول: «هذا ابن عربي يصرح في (فصوصه) بأن الولاية أعظم من النبوة بل أكمل من الرسالة، ومن كلامه: مقام النبوة في برزخ.. فويق الرسول ودون الولي». وهذا البيت لم يرد في «الفصوص» كما ذكر ابن تيمية بل في «التنزلات الموصلية، ص 68» بهذا اللفظ: «سماء النبوة في برزخ … دون الولي وفوق الرسول»، ومراده بينه في «الفتوحات، 428/5» بقوله:

اعلم أن الولاية هي المحيطة العامة وهي الدائرة الكبرى، فمن حكمها أن يتولى الله من شاء من عباده بنبوة وهي من أحكام الولاية، وقد يتولاه بالرسالة وهي من أحكام الولاية أيضًا ، فكل رسول لابد أن يكون نبيًا وكل نبي لابد أن يكون وليًا، فكل رسول لابد أن يكون وليًا، فالرسالة خصوص مقام في الولاية.

ومن أشنع ما ينسب للشيخ تصويبه لكل العقائد، ويروج لذلك تيار الإباحة المعاصر الذي ينبغي أن يسمى تيار «الأباحة» كما نطقت به صحفية معروفة في ندوة بمعرض الكتاب قبل الماضي، وهذا الخطأ ارتكبه ابن تيمية رحمه الله حين قال «الصفدية 99/1»:

وكما يقوله من يقوله من أصحاب الوحدة ، ابن عربي ونحوه بأن كل من اعتقد في الله عقيدة فهو مصيب فيها ، حتى قال: عقد الخلائق على الإله عقائدًا … وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه.

والواقع أن البيت المنقول عن المخطوط المكتوب بخط الشيخ كما في «الفتوحات 109/8» وقد وضع صورته المنصوب «مقدمة الفتوحات، ص 14» كما يلي:

عقد الخلائق في الإله عقائد … وأنا شهدت جميع ما اعتقدوه.

شيخ الإسلام ابن تيمية «مجموع الفتاوى، 194/1» يقر بما في كتب الشيخ من فوائد فيقول:

وإنما كنت قديمًا ممن يحسن الظن بابن عربي ويعظمه لما رأيت في كتبه من الفوائد.

فالظن بأمثال الشيخ أن يعود إلى حسن الظن لو اطلع على حقيقة كلام الشيخ الأكبر فيكون في زمرة الجمهور المعظمين للشيخ العارفين قدره، لا سيما أن آخر ما لقي الله عليه عدم تكفيره لأحد ممن ينتسب للإسلام كما ينقله تلميذه «شمس الدين الذهبي» [سير أعلام النبلاء، 88/15) حين قال:

وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحدًا من الأمة.

فالواجب على كل مسلم أن يفعل كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية في أوائل عمره وأواخره، والله الهادي إلى سواء السبيل.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.