قد تكون حلمًا مستطابًا في غفوة ضنك الحياة، وربما شرابًا عذبًا في قيظ الاستبداد، لكنك إن استجليت حقيقتها، تدرك أنها سراب تحسبها الشعوب ديمقراطية. إذ كلما اعتقدنا أننا ندنو من الديمقراطية، نجدها تبتعد، حتى يخيل أن إدراكها غاية محالة، ليس في بلداننا العربية فحسب، بل حتى في تلك البلدان التي ابتكرت الديمقراطية واحتضنتها. إن القول السائد في الغرب بأننا نعيش عصر ازدهار الديمقراطية، هو كذبة كبيرة يصدقها الكثيرون.

هل تحتضر الديمقراطية الغربية في أوروبا، أم أنها تعاني مرضًا يتعلق بالنمو؟ سؤال بات يشغل اهتمام كثير من المفكرين الغربيين، في فترة تتصاعد فيها الأفكار العنصرية والمتطرفة. إن بريق الديمقراطية اللامع في الغرب قد بدأ يخفت بدءًا من بحر البلطيق إلى البحر الأدرياتيكي، لتحل مكانها نزعات ثأرية واستياء قومي مرعب يمور تحت رمال متحركة، تتيح للأفكار المتشددة موطئ القدم الذي تحتاجه.


تاريخ الديمقراطية

الديمقراطية مفهوم مشتق من كلمتين يونانيتين هما «ديموس كراتوس» تعنيان حكم الشعب، وهو تعبير يناقض مفهوم الملكية في المفاهيم اليونانية. فالديمقراطية هي مصطلح إغريقي ظهرت أولى براعمها في مدينة أثينا اليونانية القديمة، وتعني حكم الشعب للشعب وبالشعب.

وردت لأول مرة في كتب «أفلاطون» حين كتب في سياق الحديث عن الدستور الذي ينظم شئون مدينته، أن «الديموكراتيا» ليست أسلوبًا للحكم، إنما هي شهوة تتيح لبعض الناس التحرر من كل المعايير والانفلات من الضوابط. وقال الفيلسوف «أرسطو» تلميذ أفلاطون إن الديمقراطية أمر طيب طالما يتم منع الديمقراطيين من ممارستها.

الديمقراطية التي ولدت في أثينا قبل الميلاد، كانت الجمعية التشريعية تتخذ القرارات بواسطتها، بحضور كل المواطنين، لكن فقط «الإثنيين» الذين كانوا يشكلون حوالي 18 في المائة من السكان، هم وحدهم من يمتلك الحق في التصويت، لأن «الديموكراتيا» كانت تستبعد النساء والعبيد والرجال الذين لا يمتلكون شيئًا، وكذلك كل من ينحدر من سلالة مختلطة.

وحتى القرن الثامن عشر كانت الديمقراطية ملاحقة، وكل المنشقين والمعارضين كانوا يسمون أنفسهم سرًا بالديمقراطيين. هذا الحال لم يبدأ بالتغير إلا في نهاية القرن الثامن عشر مع بداية الثورتين الفرنسية والأمريكية.

تعرضت الديمقراطية لانتقادات شديدة من قبل عقول فلسفية غربية مهمة. في كتابه «الجمهورية» ذكر أفلاطون أن معلمه «سقراط» حين كان يحاضر في طبيعة الدولة المثالية، وفي سياق حديثه سأل صديقه وشريكه «أديمانتوس» إن كان يفضل الصعود على متن باخرة يقودها أحد الركاب، أم قبطان متدرب وخبير.

بهذه الاستعارة كان سقراط يجري مقاربة مفهوم الدولة، حيث يعترض على الحكم الديمقراطي، وضرورة عدم السماح لأي كان بقيادة سفينة الدولة. واعتبر أن ليس جميع الناس يمتلكون الذكاء الذي يتيح لهم إدارة الدفة. أفلاطون نفسه أشار إلى أن الديمقراطية واحدة من المراحل الأخيرة في انحدار الدولة المثالية، إذ اعتبر أنها سوف تجلب الطغاة. أرسطو بدوره اعتقد أن الديمقراطية نسخة فاشلة من حكم الجماعة، وكان يرى أن أثينا مدينة تتداعى لأنها تبتعد عن دستورها الذي وضعه الحكيم اليوناني «سولون».

إن فكرة قابلية الديمقراطية للتصدع، كانت فكرة منتشرة بشكل واسع في التاريخ القديم. حتى الفيلسوف الفرنسي «فولتير» الذي كرس حياته في مواجهة التعصب والتطرف، ودفاعًا عن حرية التعبير والحريات العامة، كان له موقف إشكالي من الديمقراطية حين اعتبر أنها منفصلة عن مفاهيمه الليبرالية. أصبح مصطلح الديمقراطية متداولًا بين المثقفين والمتنورين في أوروبا، وتشكل رأي عام حول مفهوم الديمقراطية وسط المفكرين ردًا على تسلط الكنيسة التي كانت تمتلك سلطات كبيرة على الناس من خلال تحالفها مع الإقطاعيين.

مع ظهور علماء الطبيعة «نيوتن» و«غاليلو» في بداية عصر النهضة، وجهت لهم الكنيسة تهم الزندقة، وحرضت العامة الذين أحرقوا بعض المفكرين والعلماء وهم أحياء. في هذا الصراع تم التوصل إلى اتفاق بين الكنيسة والمفكرين المتنورين وبعض أصحاب رءوس الأموال من أهل النفوذ، على عقيدة «فصل الدين عن الدولة».

وبذلك تم تحديد دور الكنيسة بالسلطة الروحية. من هنا شقت الديمقراطية طريقها الذي كان سببًا في تغير الطبقات الحاكمة، ومهدت لسقوط عروش وممالك أوروبية وتحويلها لرموز دون سلطات فعلية (بريطانيا، السويد، هولندا).


لماذا يُقبِل الغرب على الديمقراطية السيئة؟

إن الديمقراطية التي مارستها أثينا تختلف عن الديمقراطية المعاصرة. فالديمقراطية القديمة كانت فعلًا مباشرًا حادًا إلى درجة لا يمكن معها تحقيق أي استقرار. وكانت ديمقراطية يحتكرها نسبة ضئيلة من السكان الذين يمتلكون حق التصويت، وكلهم من الذكور الأصليين.

كانوا يجتمعون في الجمعية العامة ويتداولون الشأن العام بكل حرية في الميدان العام. ديمقراطية وفرت مناخًا من الحرية في أثينا لم يتحول إلى فوضى، وديمقراطية أتاحت بعض العدالة وبعض المساواة، ولكن أمام القانون، بحسب ما رواه «بيريكليس» حاكم مدينة أثينا.

تقوى الديمقراطية كلما زاد التعليم وانتشر وعلت قيميته ونوعيته، وتضعف الديمقراطية وتصاب بالوهن في مجتمعات ينخرها الجهل.

الديمقراطية اليونانية أتاحت إمكانية أن شغل العديد من المواطنين العاديين الذين تم اختيارهم عشوائيًا مناصب حكومية. وقد نال الفيلسوف سقراط نفسه منصبًا بهذه الطريقة، وهي الديمقراطية التي قتلته أيضًا، بعد أن تم إجباره على تجرع السم عقابًا على معتقداته المعرفية، وبهذا يكون سقراط أول رجل في التاريخ يعدم بسبب أفكاره.

انشغل سقراط بالإشكاليات التي يلقيها المواطنون غير المتعلمين في حال حصولهم على مناصب في السلطة، وهي إشكالية ما زالت تشغل عددًا من المفكرين منهم عالم الأثولوجيا البريطاني «ريتشارد دوكينز».

ويعتبر سقراط أن في الحياة شيئًا واحدًا صالحًا ومفيدًا هو المعرفة، وهناك شر واحد هو الجهل. لذلك يعتبر أن التعليم هو أفضل رجاء للديمقراطية. ذلك أن الشعب المتعلم يستطيع مراقبة عمل السلطة وتمييز السياسي المخادع من الصادق.

في هذا السياق نذكر أن نصف السكان الأمريكيين البالغين لا يعرف معلومات مهمة وأساسية عن عملية التصويت والانتخابات، كما أنهم يجهلون عمل ووظيفة كثير من دوائر ومؤسسات الدولة الأمريكية. ولكن فيما يتعلق باليونانيين القدماء كان التعليم يتعلق باللغة والمنطق والهندسة والحساب والفلك والموسيقى. هذه العلوم تحولت فيما بعد إلى أساس للتعليم الليبرالي الحديث.

إن العلاقة بين الديمقراطية ومستوى التعليم علاقة جدلية تبادلية. تقوى الديمقراطية كلما زاد التعليم وانتشر وعلت قيميته ونوعيته، وتضعف الديمقراطية وتصاب بالوهن في مجتمعات ينخرها الجهل. وهذا يقودنا إلى مفهوم أن على جميع المواطنين الحصول على تعليم مناسب لكي يتمكنوا من حكم أنفسهم، حتى لا ينتهي بنا المطاف مثلما حصل في أثينا، كانت ديمقراطية في الاسم، لكن يحكمها الرعاع الجهلة في الواقع.

هذا ما تستغله الديمقراطيات الغربية التي تقوم بدعم الطغاة والديكتاتوريات في المنطقة العربية، وفي المناطق الأخرى الأكثر قهرًا وجهلًا في العالم، وتساندهم سياسيًا وأمنيًا لقمع الشعوب. وحين يرى هذا الغرب «الديمقراطي» أن مصالحه تتعرض للخطر في هذه البلدان، سواء من قبل الشعوب المضطهدة، حينها يتنكر للديمقراطية، أو إن تهددت مصالحه من أطراف في الأنظمة الاستبدادية نفسها، فإنه حينها يرفع في وجههم راية الديمقراطية «المسكينة» التي لم تُحترم، ويتم تحريك ملفات الفساد وملفات حقوق الإنسان التي تنتهك، ليتحول المواطن المقهور في دول العالم البدائي إلى مجرد أداة ضغط وابتزاز لتأمين مصالح الدول العرقية البغيضة، وحقوق شعوبها البيضاء التي وحدها جديرة بأن تنعم بمكارم السيدة «ديمقراطية».


مبررات أخلاقية

لكل فرد في المجتمع الحق في ممارسة حرياته الشخصية، لكن النزوع نحو الممارسة العشوائية بحيث يتم تغليب المنافع الشخصية الفردية على مصالح الأفراد الآخرين في المجتمع، سوف يؤدي إلى تصادم أناني غرائزي بين رغبات البشر، مما يعني أن القوي يفرض جشعه على الآخرين، ويستأثر بالحقوق كافة. لذلك فرضت نظرية العقد الاجتماعي تنازل كل إنسان عن بعض حرياته للدولة، التي هي بمثابة كيان ينظم الحريات ويوزع الحقوق بالعدل بين المواطنين.

حينها يحصل الناس ما هو لهم بواسطة سلطة ملزمة لجميع الناس دون تمييز. هذا من شأنه أن يؤدي إلى حالة يشعر فيها الجميع أنهم محكومون وحاكمون عبر انتخاب ممثليهم في البرلمانات، وفي المساهمة بصياغة القوانين، مما يوفر الإحساس بالكرامة والاحترام لدى المواطن. تمامًا هذا هو الأساس الفلسفي للديمقراطية الغربية.

فكرة الديمقراطية الغربية تقوم على مبدأ إن كانت الشعوب لا يمكنها حكم نفسها بنفسها، فلا بد أن تقوم بانتخاب ممثلين عنها في السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية.


فهل يحكم الشعب؟

في الديمقراطيات الغربية يصل الحكام فيها إلى سدة السلطة عبر الانتخابات، من خلال ترشيح من أحزابهم السياسية. فالأحزاب السياسية هي التي تقترح أسماء من طرفها ليكونوا ممثلين لهذه الأحزاب في السلطة التشريعية، وهم من يقوم الشعب بانتخابهم عبر انتخابات حرة ونزيهة ومباشرة.

هذا الأمر يتم في كل الدول الغربية بغض النظر عن شكل الحكم فيها، سواء أكان رئاسيًا مثل الولايات المتحدة، أو كان حكمًا وزاريًا مثل بريطانيا، أو نظامًا مختلطًا كفرنسا. ويقولون لقد انتخب الشعب ممثليه، وأن الشعب يشارك في الحكم والسلطة.

لكن الحقيقة أن ممارسة الناس لحقها في التصويت لا تعني شيئًا حقيقيًا في الواقع، لأن مراكز المال وكبار الصناعيين وأصحاب الثروات هم من يمتلك القرار الحقيقي في الدولة. وهم الذين يسيطرون على الأحزاب وعلى المجالس التشريعية وعلى النقابات والبلديات.

ولا يمكن لأحد من خارج هذه المنظومة أن يشغل مقعدًا في هذه الهيئات. ومن أجل أن تكتمل أكذوبة الديمقراطية يتم توظيف وسائل الإعلام هنا لتنجز مهمتها في الكذب والتزييف والتدليس، ومن سوء طالع الديمقراطية فإن أصحاب الثروات هم أنفسهم أصحاب وسائل الإعلام، وهم الذين يسيطرون على الشركات الكبرى التي تستطيع صناعة الحرب والسلام، يمكنها افتعال الحروب لتحريك العجلة الاقتصادية، ويمكنها اللعب في الاقتصاديات كما تشاء عبر تغيير أو إصدار قوانين تتعلق بالتجارة أو الضرائب.

إن سيطرة رءوس الأموال في الدول الغربية هي مصدر السلطات. والشعوب التي تظن أنها تنتخب بحريتها من اختارتهم هي شعوب واهمة؛ لأن الحقيقة أن من ينتخب هي القوى التي تمتلك رأس المال المتنفذ.

إنها ديمقراطية تضمن لك حرية أن تفعل ما تريد لكن ضمن القوانين التي رسم خطوطها أصحاب القوة الاقتصادية التي تسيّر القرارات، فأنت تختار بإرادتك ما حددوه هم لك. ديمقراطية تافهة تجعل المجتمع ووسائل الإعلام منشغلة بقط تم دهسه في الطريق العام، بينما لا تلقي بالًا تجاه الآلاف الذين يموتون في أماكن متعددة في هذا العالم المجنون، ولأسباب مختلفة.

ديمقراطية مزيفة تتلاعب بها وسائل الإعلام ومراكز الأموال، وتتحكم بمسارها من داخل غرف سوداء، كي تقوم بتزييف الحقائق وخداع الشعب، وتوجيه القضايا العامة في اتجاه محدد بعد أن يتم إلباسها ثوب الديمقراطية، كما حصل في العديد من الملفات الكبرى التي تم الكشف عنها.

يُتبع..

إن سيطرة رءوس الأموال في الدول الغربية هي مصدر السلطات. والشعوب التي تظن أنها تنتخب بحريتها من اختارتهم هي شعوب واهمة، لأن الحقيقة أن من ينتخب هي القوى التي تمتلك رأس المال المتنفذ.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.