ألقى اليوم، الثالث والعشرين من شهر أكتوبر/ تشرين الأول، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كلمته أمام البرلمان، وكان قد توعد قبل يومين بكشف ملابسات اغتيال الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي إثر دخوله قنصلية بلاده في الثاني من الشهر الحالي لإنجاز بعض الأوراق الرسمية.

هزت القضية الرأي العام الدولي؛ أولًا نظرًا لأنها وقعت بحق صحفي ذائع الصيت دوليًا، ويكتب في كبريات الصحف العالمية «واشنطن بوست» بشكل منتظم، وثانيًا لأنها تخالف الأعراف الدبلوماسية وتجعل من القنصليات ذات السيادة الدبلوماسية منصات للاغتيال والخطف.

ولمّا كانت المحاولات السعودية المتكررة لإنكار صلتها بالقتيل ابتداءً، واتباع السلطات التركية سياسة النفس الطويل وتقتير ما لديها من معلومات حول القضية على مراحل، تزايد الزخم الدولي حول القضية وباتت الدولة السعودية تشعر وكأنها في عزلة دولية، موضع لم تعتد السعودية أن تكنه منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

أنكرت السعودية مقتل الخاشقجي لـ18 يومًا كاملة، في البدء قالت إنه غادر القنصلية بعدما أنجز أوراقه، كان ذلك في الرابع من أكتوبر، وإبان لقائه مع وكالة بلومبيرج، في الخامس من الشهر ذاته، قال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، إن الخاشقجي «صحيح أنه دخل إلى القنصلية، لكنه خرج بعد ذلك بقليل».

وبعد صمت طويل خرج وزير الداخلية السعودي عبدالعزيز بن سعود بن نايف، ليصرح في الـثالث عشر من الشهر نفسه، أن ما يتم تداوله حول مقتل الصحفي السعودي أكاذيب لا أساس لها من الصحة، معربًا عن «شجب المملكة واستنكارها لما يتم تداوله في بعض وسائل الإعلام من اتهامات زائفة وتهجّم على المملكة العربية السعودية حكومةً وشعبًا على خلفية قضية اختفاء المواطن السعودي جمال خاشقجي».

لكن جاء الاعتراف السعودي متأخرًا في العشرين من الشهر، وكانت الرواية السعودية تدور حول مقتل الصحفي داخل قنصليتها، وقال النائب العام السعودي إن «المناقشات التي تمت بين خاشقجي والأشخاص الذين قابلوه أثناء وجوده في قنصلية المملكة في إسطنبول أدت إلى حدوث شجار واشتباك بالأيدي مع المواطن جمال خاشقجي، مما أدى إلى وفاته».

الرواية التي لم تلق ترحيبًا دوليًا، أجبرت المملكة على التراجع والإتيان برواية أخرى (21 أكتوبر) يمكنها أن تقنع الرأي العام الدولي الغاضب، تقول الرواية على لسان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير (وهذا أول ظهور لوزير الخارجية منذ بداية الأزمة)، إن جمال تعرض لجريمة قتل، لم تصدر الأوامر بها من البلاط الملكي، وسيحاسب المسؤولون عنها، وصاحب الإعلان عدد من الإقالات، أبرزها إقالة المستشار بالديوان الملكي سعود القحطاني، ونائب رئيس الاستخبارات السعودية أحمد عسيري.

حاولت السعودية في المرة الأخيرة أن ترد الطوق عن رقبة ولي العهد، الذي يبدو وفق الشواهد والتسريبات متورطًا في القضية أو مقربون منه، وقدمت في سبيل ذلك كبش فداء سياسيًا وآخر عسكري إلى جانب الفاعلين أنفسهم.


أبرز ما قاله الرئيس التركي

1. أكد أردوغان كافة التسريبات التي أطلقتها الصحف التركية والعالمية حول ملابسات مقتل الخاشقجي، وتلك هي المرة الأولى التي تصدر فيها تصريحات رسمية تركية تؤكد مزاعم التسريبات، وتضفي صفة الرسمية عليها.

2. سرد الرئيس التركي أهم التفاصيل التي تم تسريبها منذ بدء اختطاف جمال، وحتى الاعتراف السعودي بعملية القتل، وذلك منذ وصوله للسفارة أول مرة يوم 28 من الشهر الماضي، سبتمبر/ أيلول، وتوجهه لها مرة ثانية يوم اختفائه، ووصول فرقة الاغتيال فجر ذلك اليوم ونزعهم للقرص الصلب لكاميرات المراقبة، مؤكدًا نية القتل المتعمد والمخطط له، وأن الحادثة لم تكن شجارًا عفويًا كما زعمت السعودية في روايتها الرسمية.

3. أبدي أردوغان غضبه من الموقف السعودي قبل الاعتراف ومن الطريقة التي تعامل بها السفير السعودي مع القضية، مؤكدًا أنه لم يكن تصرفًا مسئولًا، ودافع عن حق بلاده في تفتيش السفارة ومنزل القنصل لأن الجريمة وقعت في الأراضى التركية حتى وإن تم ذلك داخل أرض دبلوماسية.

4. أثنى أردوغان على الملك سلمان، وأشار للمكالمة الهاتفية التي سبقت الاعتراف السعودي بقتل خاشقجي، حيث اتفقا على أهمية توضيح الحقيقة بشأن اختفاء خاشقجي ، ولكن أردوغان فتح باب التساؤلات أمام الرواية السعودية ومدى تماسكها.

5. طالب أردوغان السعودية بالكشف عن العميل المحلي الذي قام بإخفاء الجثة، وأهمية تسريع عمليات التحقيقات الداخلية للكشف عن كافة المتورطين من أسفل السلم لأعلاه، إذ يرى أردوغان أن تحميل الجريمة لبعض ضباط الاستخبارات والأمن ليس منطقيًا.

6. طلب الرئيس التركي من السعودية تسليمها الأشخاص المعتقلين والمشتبه بهم لإجراء تحقيقات معهم في إسطنبول، وأكد أنه سيسعى لتشكيل لجنة دولية لإجراء محاكمة عادلة وشفافة لهم.


السلطان يريدها حربًا طويلة

لم تجتهد تركيا في اقتناص فرصة التضييق على السعودية، التي يعتقد المسؤولون الأتراك ضلوعها في الترتيب لمحاولة الانقلاب الفاشلة قبل عامين، لكن السعوديين هم من منحوهم الفرصة؛ بمحاولة فاشلة لاغتيال صحفي معارض داخل مبنى دبلوماسي وسط العاصمة الاقتصادية لتركيا وأكبر مدنها، إسطنبول.

لن يفوت الأتراك الفرصة ولن يفلتوا الخناق على القيادة السعودية بسهولة، ولأننا بصدد تقديم تحليل لخطاب الرئيس التركي، الذي ألقاه قبل قليل، فهذه النقاط أبرز ما قرأناه بين السطور.

1. سلكت تركيا منذ بداية الأزمة مسارات ثلاثة، المسار الجنائي والإعلامي والسياسي، تعطل المسار الجنائي لمماطلة السلطات السعودية في الاعتراف بالجريمة، ومن ثم السماح للمحققين الأتراك بولوج القنصلية وجمع الأدلة، وهو ما أخر الرواية الرسمية التركية حول الحادث إلى اليوم، لكن المسار الإعلامي تمت إدارته باحترافية عالية، من خلال كبريات الصحف العالمية، ما ولّد زخمًا أجبر السعودية على الاعتراف ومن ثم المضي قدمًا في المسارين الجنائي والسياسي، ويُعد خطاب الرئيس التركي اليوم أول رواية رسمية تركية حول تفاصيل الحادث، تؤكد ما نشرته وسائل الإعلام عن مصادرها غير المعروفة، التي يبدو أنها كانت استخباراتية.

2. تكذيب الرئيس التركي اليوم صراحةً للرواية السعودية حول شجار نشب مع القتيل يضع السعودية أمام عدد لا نهائي من الأسئلة، وهو الشق الثاني من الخطاب الرئاسي، إذ يُلاحظ أن الرئيس التركي سأل أكثر مما أجاب؛ من هو المتعاون المحلي؟ وأين الجثة؟ ومن أعطى الأوامر بالاغتيال من أدنى هرم السلطة لأعلاه؟

الآن على السعودية الإجابة، ربما اقتنتع الرئيس التركي، بعد الزيارة السريعة لمديرة الـ CIA إلى بلاده مساء أمس، بضرورة مد أجل القضية وإتاحة الفرصة لكل الأطراف للجلوس على طاولة الحوار، وبحث الأزمة وما يمكن أن تتركه من أثر على الساحتين الدولية والإقليمية.

3. شدد أردوغان على علاقته بملك السعودية، ما يحفظ شعرة معاوية بين البلدين وإمكانية جلوسهما على طاولة التفاوض في المستقبل وتجنب عمدًا أي ذكر لولي العهد، والحاكم الفعلي للبلاد. ومن خلال هذه الثقة طالب أردوغان الملك السعودي بتسليم المتورطين إلى أنقرة. مؤكد، سترفض السعودية طلب الرئيس التركي، لكنه من وسائل الضغط عليها، وإحراجها. ويعضد هذا الاستنتاج طلب الرئيس التركي بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في الحادث. تذكرنا اللجان الدولية بأزمة الحريري، غالبًا ما تنتهي التحقيقات إلى لا شيء، لكنها من وسائل الضغط على القيادة السعودية.

4. لمح الرئيس التركي إلى تخطيط سعودي واسع النطاق، من قاعدة السلطة إلى أعلاها، وهو ما يمكن فهمه على أنه اتهام مبطن لولي العهد أو المقربين منه، لكن تبقى إشارات أردوغان بلا فائدة ما لم يكن يملك ما يعضد هذه الاتهامات، وهو الأمر الذي إن وُجد فسيؤجل للأحاديث اللاحقة.

5. حرص أردوغان على ترك ملف القضية مفتوحًا، ألقى بالكرة في ملعب الملك السعودي، والمجتمع الدولي الذي كان بحاجة لرواية تركية رسمية، يمكنهم من خلالها اتخاذ موقف تجاه المملكة، لتتوجه أنظار العالم ظهر اليوم من أنقرة إلى العواصم الأوروبية وواشنطن، في انتظار رد الفعل على خطاب الرئيس التركي، ومدى الضغط التي ستشكله على إدارة المملكة للتجاوب مع الأسئلة التركية.